في يوليو/ تموز عام 2021 وقف المندوب الروسي في مجلس الأمن محذرًا من اتخاذ أي خطاب تصعيدي ضد إثيوبيا. وأكمل المندوب كلامه بأنه يؤمن بشرعية المخاوف المصرية أو السودانية من بناء سد النهضة، لكنّ بلاده رغم ذلك لا تحبذ سوى الحل الدبلوماسي عبر مفاوضات يرعاها الاتحاد الأفريقي، وهو نفس الحل الذي تريده إثيوبيا وتستخدمه للمماطلة من أجل إحراز تقدم على الأرض في بناء السد.

قد يبدو الأمر انحيازًا للجانب الإثيوبي في أزمة السد على حساب الجانب المصري، لكنه ليس انحيازًا وليد اللحظة، بل هو تتويج لعلاقة تاريخية طويلة تمتد بين روسيا وإثيوبيا. فغالبية تسليح وعقيدة الجيش الإثيوبي جاءت من روسيا، حتى معظم القادة الشعبية لتحرير التيجراي فقد تلقوا تعليمهم في روسيا، وهم الذين نقلوا التجربة السوفيتية البلشفية للحكم الفيدرالي في إثيوبيا.

منذ عهد روسيا القيصرية والقساوسة يوصون بالتعاون مع إثيوبيا كمدخل لبسط نفوذ الروس في الشرق. على رأس من أوصى بذلك القس ورفيريج أوسبنسكي، بعد زيارته للقدس في خمسينيّات القرن التاسع عشر، والتقى فيها عدداً من القساوسة الإثيوبيين. فأرسل أوسبنسكي رسالة للقيصر يخبره أن إثيويبا مؤهلة للصداقة مع روسيا بفضل تاريخ البلدين الطويل، وثقافة ودين البلدين، إضافة إلى صراع البلدين العميق مع المسلمين.

لم يلتفت الروس إلى رسائل القس في حينها لكنهم استجابوا لها لاحقًا. وبعد فترة من الصداقة أغمض القيصر الروسي عينه عن رسائل الاستغاثة التي أرسلها يوحنس الرابع، إمبراطور إثيوبيا، يطالب فيها الروس بالوقوف لجانبه أمام العثمانيين. بذلك التجاهل انهارت الصداقة لعقود طويلة.

حلم ميناء البحر الأحمر

بعد عقود الانهيار حاول الروس مد الجسور مرة أخرى لكن بصورة غير رسمية. فحاول بعض المستكشفين عام 1883 إنشاء اتفاقيات تعاون مع إثيوبيا بصورة غير رسمية، من أجل الحصول على دعم إثيوبيا في بناء مستعمرة روسية في جيبوتي. لكن المستعمرة انهارت على يد الفرنسيين، فتبرأ الروس مما حدث، وأعلن أن المستكشف نيكولاي أشينوف والإثيوبيين فعلوا ذلك دون علم الروس.

بعد 6 سنوات احتاج الروس للإثيوبيين مرة أخرى، لكن بصورة رسمية ومعلنة هذه المرة. الصفقة التي عُقدت عام 1889 كان تنص على دعم الروس للإمبراطور الإثيوبي منلك الثاني في صراعه ضد الإيطاليين. وفي المقابل تمنح إثيوبيا ميناءً على البحر الأحمر للروس. أُبرمت الصفقة فغادرت البعثة الدبلوماسية الروسية وعادت بقوارب محملة بالأسلحة والجغرافيين.

لحق بتلك الأسلحة والجغرافيين بعثة من رجال الكنيسة الأرثوذكسية الروسية يبحثون مع الإمبراطور الإثيوبي إمكانية توحيد الكنيستين. لم يبد الإمبراطور الإثيوبي اهتمامًا بهذا الجانب، واكتفى بإرسال بعثات من بلاده لتلقي تعليمهم في روسيا.

تلك البعثات التعليمية كان لها دور في بارز في كتابة تاريخ إثيوبيا، فعلى سبيل المثال كان تَكل هوريات أحد الطلاب الذين تلقوا تعليمهم في روسيا، وأصبح بعد ذلك وزيرًا للمالية، وشارك في كتابة الدستور الإثيوبي بعد الاستقلال، والمتحدث أمام عصبة الأمم لشرح موقف إثيوبيا من العدوان الإيطالي. ولاحقًا أرسلت روسيا أطباءها فأنشأوا أول مستشفى في تاريخ إثيوبيا.

اتفاقية صداقة ودعم عسكري

بجانب ذلك الدعم العلمي والعسكري فإن روسيا لم تتخل دبلوماسيًا عن إثيوبيا. فروسيا هي أول دولة تقف بجانب إثيوبيا في عصبة الأمم رفضًا للعدوان الإيطالي. كما أن إثيوبيا هي أول دولة تتلقى مساعدات من روسيا في برنامج المساعدات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية.

وازدهرت العلاقات بين البلدين أكثر حين وصل الماركسيون إلى حكم إثيوبيا عام 1974، فانتعشت علاقات الاتحاد السوفيتي بإثيوبيا. ودعمت روسيا النظام الإثيوبي بعتاد عسكري ضخم عام 1976، تشير التقديرات إلى أنه وصل في حينها إلى دعم بقيمة 100 مليون دولار في هيئة أسلحة. تلك الأسلحة المهولة كان شرط الحصول عليها واحدًا، قطع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية.

ومع تدهور علاقة روسيا بباقي الشركاء الأفريقيين على رأسهم الصومال، الذين مالوا ناحية الولايات المتحدة، تزداد صلابة العلاقة بين الروس والإثيوبيين. ودعم السوفييت إثيوبيا في الحصول على أراضيها المتنازع عليها مع الصومال. وإضافة إلى ذلك دخل إثيوبيا في عام واحد قرابة 1500 خبير روسي، ونقلوا لإثيوبيا قرابة مليار دولار من الأسلحة لتكون إثيوبيا قاعدتهم في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي وللمساعدة في حربهم.

وبعد نهاية الحرب عام 1978 لم يتخل الروس عن الإثيوبيين، بل استمروا في دعمهم حتى استعادوا العديد من مدن إريتريا التي سيطر عليها مقاتلو جبهة التحرير الإريترية. وبعد ذلك وقع الطرفان اتفاقية صداقة عسكرية  تنص على ألا يدخل أي طرف فيهما تجمعًا دوليًا من شأنه أن يضر بالآخر، كما يحق لمسئولي البلدين الاطلاع على الصفقات العسكرية التي يبرمها الآخر، وبالطبع اتفقا على أن لا ينفذ أيهما أو يشترك في تنفيذ أي أعمال عسكرية عدائية يمكنها أن تضر الطرف الثاني.

الجري في المكان

ظلت روسيا الدرع التي استخدمتها إثيوبيا في صد هجوم الصومال، وفي ردع جبهة تحرير إريتريا. وثبتت أركان حكم الديكتاتور الإثيوبي هيلا مريام. بعد سقوط مريام قل الدعم الروسي لإثيوبيا لكنه لم ينقطع نهائيًا، بل استطاعت روسيا أن تتأقلم مع كافة التغيرات الداخلية التي تطرأ في إثيوبيا، وتحافظ على علاقة ودية وجيدة مع كافة الأطياف.

التعاون الاقتصادي بين البلدين ليس هو رابط التعاون الأول، بل إن الرابط الديني والثقافي هو الأعمق والأقوى، لذا فمن الصعب التعويل على تدهور أو تغييره. فإثيوبيا هي أكبر ثاني دولة في العالم، بعد روسيا، في عدد السكان المسيحيين الأرثوذكس. والتواصل بين الكنيسيتين لا يتوقف، ولا يقف عند حدود الترابط الديني فحسب، بل ينسّقان مع بعضهما في أمور السياسة أيضًا.

وفي عام 2019 وقعت روسيا مع إثيوبيا اتفاقًا للطاقة النووية، ووعدت روسيا بإسقاط الديون البالغة 164 مليون دولار من على إثيوبيا. ووقع الطرفان كذلك اتفاقية تعاون عسكري مشترك. لذا فالروس أقرب لإثيوبيا من قربهم لمصر، لكن ذلك لا يعني أن روسيا قد تتخذ موقفًا عدائيًا واضحًا ضد مصر، فمصر من أكبر مستوردي السلاح الروسي. لكن علاقات مصر والسودان شديدة الودّية مع الولايات المتحدة الأمريكية بالتأكيد تمثل إزعاجًا للجانب الروسي، خصوصًا مع وجود إثيوبيا التي لا تحب الولايات المتحدة كثيرًا.

لذا فقد لا تتدخل روسيا لترجيح كفة أحد الطرفين، لكن يمكن لها أن تحرص على أن تظل الأزمة في مكانها، كما فعلت مع أزمة التيجراي حين أفشلت قرارًا أمميًا بإدانة ما يحدث في الإقليم من الحكومة الإثيوبية، بحجة أنه شأن داخلي. لكن مهما تكن طريقة الإعلان أو صياغة البيان الروسي فإن ذلك قد لا يغير من حقيقة أن روسيا قد اختارت كثيرًا جانب أديس أبابا على حساب القاهرة، فحيادية روسيا  المُعلنة في ملف سد النهضة هي حيادية غير محايدة على أرض الواقع.