مثَّل القرار الروسي بالتدخل عسكريًّا في أوكرانيا خطوة أخرى بارزة لروسيا على المسرح الدولي، استهلتها بالحرب الجورجية في 2008، قبل أن تدعم سياسيًّا ولوجيستيًّا النظام السوري، الدعم الذي تطور لتوجيه ضربات عسكرية مباشرة في سبتمبر 2015 على مواقع تنظيم الدولة في الأرض السورية، وبين هذه وتلك، كان التدخل العسكري وضم القرم في 2014.

جاءت تلك الخطوات كدلالة على محاولة روسيا استعادة نفوذها الإقليمي والدولي الذي كان قد تضعضع تمامًا بنهايات الثمانينيات على خلفية اهتراء السلطة السوفيتية ثم تفكك الاتحاد السوفيتي الذي جاء على خلفية استيلاء قطاعات أوليجاركية وبيروقراطية على مقاليد القوة في الحزب الشيوعي وجهاز الدولة. ليشهد عقد التسعينيات موتًا إكلينيكيًّا لأي دور روسي خارج حدودها.

ولأننا نعتقد تمامًا في قول كلاوزفيتز الجنرال البروسي أن «الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى، عنيفة»، ولأن «السياسة هي تعبير مكثف عن الاقتصاد» كما قال لينين، فإن النظر في الحرب الروسية الأوكرانية لا بد أن يتناول أساسًا مجمل التفاعلات التاريخية جغرافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا التي حددت مسار السياسة الروسية منذ نشأتها الإمبراطورية في القرن الثالث عشر وصولًا للثورة البلشفية ثم الانهيار السوفيتي وفترة الاضمحلال التي تلته، إلى أن استعاد بوتين جثتها ودخل بها من جديد في طور لاعب رئيسي على الساحة.

هذا ما تناوله المفكر الراحل سمير أمين في كتابه «روسيا في المدى الطويل» الصادر عن دار العين عام 2017، وهو عبارة عن أربع دراسات كُتبت في تواريخ متفاوتة تتناول المسار الروسي في الإطار الإمبراطوري والإطار السوفيتي والمسار البوتيني – إن جازت التسمية – وهو يدرس تاريخ روسيا من منظور التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية السائدة في الفترات المعنية كأساس تحتي يحدد المسلك السياسي، أي يحدد المنظور الثاني الذي هو التفاعل بين روسيا وبين النظام الرأسمالي العالمي من موقعها كدولة دخلت مرحلة التطور الرأسمالي متأخرًا.

إن التساؤل الذي يطرحه الكاتب عبر استعراض تاريخ تكوين روسيا هو الأفق المتاح أمامها على المسرح العالمي، هل بإمكان روسيا مقارعة الإمبريالية على قاعدة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، أي على قاعدة دخولها السوق العالمي كلاعب أساسي من موقع متكافئ؟ يقول أمين في المقدمة (ص14):

فالمشروع الإمبريالي المعاصر يقوم على قدمين، قدم اقتصادية تتجلى في قبول قواعد العولمة الليبرالية، وقدم سياسية تتجلى في ضرورة تخلي دول العالم عن استقلالها الوطني في مواجهة سيادة الغرب، لكن روسيا في أغلب الأحوال شأنها شأن العديد من الدول الأخرى، تسير في أفضل الفرضيات على قدم واحدة. فمن جانب، تسعى إلى تكريس استقلالها في مجال العلاقات الدولية، وفي الجانب الآخر لم تنعتق عن الليبرالية في إدارة اقتصادها، الأمر الذي يضع نضالها السياسي في موضع مكشوف.

روسيا تاريخيًّا

يتناول الكاتب في الجزء الأول من الفصلين الأول والثاني، السياق التاريخي الذي نشأت فيه الإمبراطورية الروسية التي شملت أراضي الإقليم الشاسع الممتد بين أربع منظومات قديمة، الصين والهند في آسيا، الشرق الأوسط، أوروبا الغربية، وقد كان الشرق الأوسط هو طريق مرور التجارة بين المنظومتين الآسيوية والأوروبية قبل أن تتدهور أحواله، وتدخل المنطقة في مرحلة من الفوضى أدت بالأوروربيين للبحث عن طرق أخرى للتجارة مع الصين والهند، فكان اكتشاف الطريق البحري حول أفريقيا، والطريق البري المار بما ستتشكل منه الإمبراطورية الروسية. غير أنه «همَّش اكتشاف الطريق البحري دور الإقليم الأورو-آسيوي انطلاقًا من 1500 إلى 1900 وقد واجه الروس هذا التحدي بأسلوب فعَّال لامع».

لقد تشكلت الإمبراطورية الروسية تاريخيًّا من خلال كتلتين متصارعتين، إحداهما هي كتلة الشعوب السلافية – الروسية والأوكرانية والبيلاروسية – التي كانت عملية توحيدها ناتجة عن الفتوح الحربية الروسية بالطبع، والكتلة الأخرى هي كتلة الشعوب المغولية في سهول جنوب الإقليم، وقد انتصرت روسيا وأسست إمبراطوريتها.

قطعًا كانت الإدارة السياسية للتشكيلة الروسية «أوتوقراطية» بيد أن السمة نفسها تنطبق على النظم الملكية الأوروبية المطلقة التي سادت خلال قرون حتى ثورة إنجلترا عام 1683 وثورة فرنسا عام 1789.

غير أن سمير أمين يلحظ فارقًا جوهريًّا وهو غالبًا ما تتجاهله السردية الغربية في سياق الحديث عن المسخ الروسي نصف الآسيوي نصف الأوروبي، هذا الفارق يتمثل أساسًا في أنه بينما قامت الإمبراطورية الروسية على فتوح حربية وإلحاقات، إلا أنها قامت بتجميع الكتلة السلافية السابق ذكرها، والتي كانت لديها عناصر شديدة التقارب فيما بينها تبدت في اللهجات المتقاربة بما جعل فرض الروسية عليها عملًا غير عنيف ثقافيًّا. كما أنه من الملاحظ في تاريخ الإمبراطورية الروسية أن كل الأجزاء المكونة لها كانت تخضع لذات القوانين السارية في روسيا، كما لم يتم القضاء على كبار ملاك الأراضي الأوكرانيين والبيلاروس، بل جرى إدماجهم في الاقتصاد الروسي على نفس الشروط السائدة في روسيا العظمى. بينما:

لا يمكن مقارنة توسع الإمبراطورية القيصرية فيما وراء الأقاليم السلافية بالغزو الاستعماري الذي اضطلعت به الرأسمالية الغربية. إذ لا يوجد نظير للعنف الذي استخدمته البلدان «المتحضرة» في مستعمراتها. وقد حققت التراكم من خلال نزع ملكية شعوب بأكملها، ولم تتردد في اللجوء إلى الاستئصال المباشر، أي الإبادة الجماعية للجنس، حينما وجدت ذلك ضروريًّا (هنود أمريكا الشمالية، الأبورجين في أستراليا، على أيدي الإنجليز) أو اللجوء إلى السيطرة الوحشية على حكومات المستعمرات (الهند، أفريقيا، جنوب شرقي آسيا).

إن الإمبراطوريات تتكون بالضم والإلحاق، لكن الغرب في دعاياته يتناسى أن الإمبراطورية الإنجليزية قد قامت عبر الصراع بين الأنجلوساكسون من جهة، والأمم السلتية، أسكتلندا وأيرلندا وويلز، وقد كان انتصار الإنجليز يعني فقدان الأسكتلنديين للغتهم على سبيل المثال، بينما يقف تاريخ الإنجليز في أيرلندا الجنوبية شاهدًا على مأساة الفلاح الأيرلندي الذي فُرِضت عليه شروط أقرب للقنانة بعد الاستيلاء على الأراضي ما أدى إلى مجاعات وهجرات وآثار ديموغرافية لا زال باقيًا منها حتى اليوم اللغة الإنجليزية التي فُرضت فرضًا.

يبقى أن نقول بصدد تشكيل الإمبراطورية الروسية هو أنه بينما كانت أوروبا بدءًا من القرن الخامس عشر تسعى حثيثًا نحو الرأسمالية، وتمد أساطيلها نحو الأمريكيتين حيث جبال الذهب والفضة، وإلى أفريقيا الجنوبية حيث جيوش العبيد، كانت روسيا الكبرى لا تزال في طور التشكل على أساس من نظام إقطاعي، بينما كان التراكم البدائي المؤسس للرأسمالية الأوروبية يلقى دفعات جبارة عبر تلال الثروات المنهوبة وقوة العمل المجانية التي توفرت في العبيد الأفارقة.

اشتراكية الاتحاد السوفيتي

ظلت روسيا بلدًا تخوميًّا، بمعنى أنها ظلت عملاقًا بلا قدمين يعيش على أطراف المنظومة بالنسبة لمركزها الأوروبي، رأسمالية تخومية متخلفة وبنية سياسية أوتوقراطية، وقد قامت الثورة البلشفية – بحسب سمير أمين – كـ «قطيعة في تاريخ شعوب الاتحاد السوفيتي وهي شعوب الإمبراطورية القيصرية سابقًا»، وهو بادئ ذي بدء يعيد التأكيد على ما ذكره في مقدمة الكتاب بخصوص العلاقات بين القوميات في ظل السلطة السوفيتية، فبينما كانت القيصرية تسعى لما يسميه «استيعاب» القوميات الأخرى، فإنه:

… أُقيم النظام الاقتصادي السوفيتي على قاعدة إعادة توزيع فوائد التنمية المشتركة لصالح المناطق الأقل نموًّا، علمًا بأن الشعوب «غير الروسية» هي التي استفادت من هذا الخط العام الجديد. فانتقل استخدام الفائض المستخرج من المناطق الأكثر تقدمًا (روسيا الغربية، وأوكرانيا وجمهوريات البلطيق) للاستثمار في المناطق الأقل نموًّا (سيبيريا، آسيا الوسطى، الجمهوريات جنوب القوقاز). وساد نظام تماثل ومساواة الأجور والحقوق الاجتماعية.

إن هذه الحقيقة تدحض ما كان يُروج عن إمبريالية روسية تنهب شعوب الاتحاد، فاتجاه سريان الفوائض معاكس تمامًا لما هو معمول به إمبرياليًّا حيث تسري من الأطراف إلى المركز، بينما يعد تفاوت الأجور بين المركز والأطراف أحد الآليات الرئيسية للنهب الإمبريالي.

وفوق ذلك، أُعيد في ظل الاتحاد ترسيم حدود تاريخية ثابتة، ضم القِرم الروسية وإقليم دونيتسك للحدود الإدارية الأوكرانية، كما «أعاد السوفيت فيما بعد الحقوق الأساسية لجمهوريات البلطيق، حيث أصبح بإمكان شعوبها استخدام لغاتها الخاصة وتشجيع ثقافاتها القومية».

ينطلق سمير أمين في الفصل الثالث المعنون بـ «ثلاثين عامًا من نقد النظام السوفيتي 1960-1990» لاستكمال ما كان قد بدأه في الفصل الأول حول سمات النظام السوفيتي في عهد بريجنيف، ولعلنا بحاجة إلى التأكيد على أن الدراسات التي يتضمنها الكتاب تمت كتابتها على مدى زمني طويل ودون ترتيب بين موضوعاتها، وقد توخينا في هذا العرض محاولة استخلاص الموضوعات بالتراتبية الزمنية، لا بترتيب العرض في الكتاب.

بينما يصف سمير أمين النظام الذي تم تشكُّله في الاتحاد السوفيتي في الفصل الأول صـ 36 بأنه نظام «اشتراكية دولة» تحجَّر ولم يتخطَّ تلك المرحلة من التطور، وهو المفهوم الذي لا يحدد بوضوح جوهر النظام، فإنه يعود في الفصل الثالث ليقول (ص112):

توقفت منذ العام 1960 بالتأكيد، وربما منذ العام 1957، عن اعتبار المجتمع السوفيتي «اشتراكي» الطابع، وأن السلطة الحاكمة فيه مثلت نوعًا من حكم «الطبقة العاملة».

ثم هو لا يكتفي برفض الوصف التروتسكي للاتحاد السوفيتي بأنه بلد «عمالي مشوه تشويهًا بيروقراطيًّا»، ويرفض اعتبار نفي الصفة الاشتراكية عن الاتحاد تعريفًا لطابع نظامه، فيعود ليقدم تعريفه للاشتراكية الذي لا يقف عند حدود إلغاء الملكية الخاصة:

إقامة علاقات عمل غير تلك التي يحددها نظام العمل الأجري، وعلاقات اجتماعية تتيح للمجتمع في كليته (وليس لجهاز باسمه ويحتكر القرار) فرصًا لممارسة نوع من السيطرة على مستقبله، الأمر الذي يتطلب بدوره ممارسة ديمقراطية متقدمة أكثر تقدمًا مما هي عليه في أفضل الديمقراطيات البرجوازية.

إن الاتحاد السوفيتي لم تكن تنطبق عليه هذه الشروط، ولما رأى أمين أن إطلاق تسمية محددة على النظام السوفيتي تمثل معضلة، كما أن تجزئة ملكية رأس المال – القاعدة التي تقوم عليها المنافسة – غير موجودة، فإنه يرى وصف الاتحاد السوفيتي بأنه بلد رأسمالي أمرًا غير علمي. وعليه فقد قرر التعامل مع «نمط إنتاج سوفيتي» منصرفًا إلى بيان صفاته.

كما يؤكد أنه ضد وجهة النظر التي كانت ترفض السير بالثورة البرجوازية الروسية – ثورة فبراير – إلى الثورة البلشفية، على اعتبار عدم جهوزية الاقتصاد الروسي وتخلفه عن الشروط الملائمة لإطلاق ثورة اشتراكية، إذ إن:

الظروف الموضوعية التي تمر بها تلك الشعوب المنتفضة ستحول دون التوصل إلى حل للمشاكل الأساسية التي ثارت من أجلها. فالتنمية المبنية على مثل هذه الثورة المبتورة لا بد أن تظل في إطار الرأسمالية الطرفية (أي التابعة). وبعبارة أخرى أرى أن وقف الحركة عند هذه المرحلة هو في نهاية الأمر خيانة لآمال الشعوب المنتفضة.

عقدة اللحاق بالغرب

إن روسيا – كبلد طرفي في المنظومة – لم يكن بإمكانه اللحاق بالغرب عبر تنمية رأسمالية، ببساطة لأن اعتماد هذا النمط من التنمية كان سيعيد تخليق تخلفها.

يعتبر أمين أن البلاشفة كانوا أمام خيارين متناقضين خلقتهما ظروف متناقضة، فمن جهة، كانت ضرورة تنمية قوى الإنتاج – في ظروف بلد متخلف – ما يسميها «اللحاق بركب التقدم»، ومن جهة أخرى كان النظام السوفيتي:

نظامًا ناتجًا عن ثورة وضعت لنفسها مهام «بناء مجتمع آخر» غير رأسمالي وغير قائم على الاستغلال والاستلاب الاقتصادي.

من الواضح – طبقًا لأمين – أن انتصار ستالين كان انتصارًا للخيار الأول، انتصارًا للواقعيين كما أسماهم، حيث تعد عملية التجميع الزراعي التي بدأت بشكل مخفف في 1925 ثم اتخذت نطاقًا شاملًا في 1929، تعد ضربًا للتحالف المؤسس لشرعية السلطة البلشفية، التحالف بين العمال والفلاحين، وهو ما شكَّل العامل الرئيسي في إقامة دولة استبدادية ووضع الأساس لنشوء طبقة النومنكلاتورا – الطبقة الجديدة البيروقراطية – برجوازية الطابع التي تطلعت للنموذج الغربي وحملت لواء «اللحاق بالغرب».

ثم يوجه المؤلف نقدًا للينينية باعتبارها لم تقطع تمامًا مع اقتصادوية الأممية الثانية، الاقتصادوية التي جعلت من قوى الإنتاج سيدًا تام السيادة على التطور الاجتماعي ووضعت التكنولوجيا في موضع محايد اجتماعيًّا.

إن اندهاش لينين أمام خيانة كاوتسكي (زعيم الاشتراكية الألمانية العام 1914) هو في واقع الأمر موقف اندهشت أنا منه، إذ إن التشوه الاقتصادي للاشتراكية الديمقراطية كان – في رأيي – لا بد أن يؤدي إلى هذه الخيانة.

وبينما وجهت الماوية – بحسب أمين – نقدًا للستالينية من يسارها، كانت حملة خروتشوف ضد ستالين، وخصوصًا المؤتمر العشرين، هجومًا مضادًّا من اليمين.

لم نعطِ مقتضيات التطور الاقتصادي الأهمية التي تستحقها.
خروتشوف

وقد كان يعني منح سلطة أقوى لمديري المشروعات تصليب عود النومنكلاتورا، وزيادة الحوافز المادية للمؤسسات والأفراد، وزيادة المنافسة، وانزواء هدف بناء الاشتراكية.

لقد وصل الاتحاد السوفيتي إلى مرحلة يتطلب فيها الاقتصاد تنازلات لصالح السوق، لكنها تنازلات في إطار ما يسميه أمين «العمل طبقًا لقانون القيمة المناسب لمرحلة الانتقال إلى الاشتراكية»، كما تتطلب إطلاق عملية مقرطة سياسية ورقابة شعبية تحد من سلطة البيروقراطية، لكنه قد لاحظ أن الحزب كطليعة للطبقة العاملة، كان قد تعفن وتحول لأداة للسيطرة على الجماهير بعد أن صار الانتساب إليه طريقًا للتربح والانتفاع، فتدهور الوعي السياسي للجماهير وصارت غير فاعلة في تقرير الخيارات السياسية والاقتصادية، وأصبحت السياسة في الاتحاد السوفيتي مجرد لعبة قصور.

في نفس السياق يضيف أمين أن الأزمة القاتلة التي حسمت أمر الاتحاد السوفيتي هي عجز النظام عن الانتقال من مرحلة التراكم التوسعي الذي هو «تحقيق نمو قوى الإنتاج على أسس توسعية من خلال تحويل قوى العمل من الزراعة إلى الصناعة واستعارة أنماط تكنولوجية متقدمة، والتوسع في المكننة وإقامة شبكات الكهرباء والتعليم وغير ذلك»، وهي المرحلة التي نجح فيها الاتحاد السوفيتي في النصف الأول من عمره، إلى التراكم الكثيف الذي هو كما يحدد أمين: «تحسين الإنتاجية باللجوء إلى وسائل أدق وأكثر فعالية». وهو يرد هذا الفشل لسبب تمتع الطبقة العاملة بالحق في العمل ما يجعل العمال قادرين على معارضة مديري المشروعات الذين هم – في النظرية السوفيتية – يمثلون سلطة العمال.

ينتقل سمير أمين بعد ذلك لنقد بعض الطروحات الرأسمالية الرائجة حول أسباب الانهيار السوفيتي، وأولها الطرح القائل بالتضاد بين اقتصادات النقص/الشح (الاشتراكي)» واقتصادات الوفرة (الرأسمالية)، حيث تتم الإشارة إلى ظاهرة الطوابير التي يفسرها بأنها نتيجة سياسة إرادوية حددت للسلع أسعارًا منخفضة لتشجيع الاستهلاك.

ثم ينتقل إلى الطرح الثاني حول التناقض بين ما يسمى بـ «اقتصادات الأمر» و«اقتصاديات السوق». وهو يعتقد أن الاقتصاد السوفيتي كان يعتمد على مزيج من الضوابط المؤسسة على آليات السوق والأوامر الإدارية. في حين أن ما تروجه الأيديولوجيا الليبرالية عن اقتصادات السوق الحرة شكلًا من الضوابط ليس حقيقيًّا إذ إن السوق  ليس «ضابطًا تلقائيًّا ومعيارًا عقلانيًّا مطلقًا إذ تعمل آلياتها في إطار مقتضيات النظام الاجتماعي وسياسات الدولة التي تضع حدودًا لها … فعل السوق ليس ناتج قوانين منافسة مجردة بل – هو أيضًا – ناتج منافسة بين الاحتكارات».

رغم التسليم بحقيقة أن أولوية ضمان الإنتاج المخصص للدفاع قد فرضت مقتضياتها على الجهاز الإنتاجي السوفيتي فعلًا منذ عام 1935 على الأقل، يرفض سمير أمين اعتبار المجتمع السوفيتي مجتمعًا عسكريًّا يحمل في طياته نيات الغزو والتوسع.

إن سباق التسلح لم يكن نتاج قرار سوفيتي مسبق، بل فُرِض عليه من قبل أعدائه الحقيقيين.

الانكفاء السوفيتي

يؤكد أمين أيضًا عدم دقة الخطاب السائد عن توتاليتارية النظام، وهنا نعود معه إلى الفصل الأول حين شرع في تحديد سمات مرحلة الجمودي البريجنيفي التي كان على رأسها ما أسماه بـ «الطائفية»، بمعنى تكتلات مصلحية تجمع معًا أصحاب القرار والعمال في قطاع إنتاجي معين، يمثل كل من هذه التكتلات مركز قوة، يمارس ضغوطه في لجنة الخطة ويدخل في مساومات ومفاوضات لتصميم أهداف الخطة العامة وتوزيع الفوائد المستخرجة، وبرأيه أن عملية التفاوض تلك تنفي عن النظام صفة التوتاليتارية، بالإضافة إلى أن التحول الصاعق الذي بدأ في 1989 يعزز هذا النقد لمفهوم توتاليتارية النظام حتى في ظل مظهره الأوتوقراطي.

وعن الاقتراحات التي تم تقديمها في منتصف الستينيات من قبل المصلحين السوفيت في مدرسة نوفوسيبيريسك، فإنه يسميها «طوباوية إقامة رأسمالية بدون رأسماليين»، حيث قدموا اقتراحًا بتأسيس سوق متكاملة ضابطة تلقائية، وهو يعتقد أنها تتناقض أساسًا مع احتكار الدولة.

بعد ذلك ينتقل أمين إلى مناقشة سمات السياسة الخارجية السوفيتية، وهو يرى أن الغرب قد وضع نصب عينيه دائمًا هدف هدم الاتحاد السوفيتي، لذا فإنه لا ينظر إلى معاهدة يالطا باعتبارها إعادة اقتسام للعالم، بل إنها كانت تعبيرًا عن ميل الاتحاد السوفيتي لعقد هدنة مع الإمبريالية كي يتمكن من إعمار ما هدمته الحرب وقد التزم بسياسة عدم تصدير الثورة والدبلوماسية المحافظة التي امتنعت عن تشجيع القوى الثورية أو دعمها أينما حاولت الانتفاض بل إثنائها عن التحرك الثوري وهو – أمين – وإن كان يتفهم ذلك التوجه من منظور سياسي سوفيتي فإنه يرفض محاولات إضفاء أي مشروعية نظرية عليه.

وقد شكلت مرحلة باندونج فرصة مؤاتية للسوفيت، وكذلك الصين، للخروج من العزلة التي ضربها الغرب حولهم، ومثَّل التعاون مع أنظمة ما بعد الحرب العالمية الثانية خيارًا إيجابيًّا للسياسة السوفيتية بالرغم من حدوده:

فأدركت أسباب تلك الحدود، بل وقبلتها. على أنني لم أقبل على الإطلاق المبررات التي قدمها الاتحاد السوفيتي في هذا المضمار مثل نظرية «الطريق غير الرأسمالي» التي انتقدتها في وقتها واعتبرتها غير صحيحة علميًّا، وتشكل بالتالي عائقًا في طريق نضال شعوب العالم الثالث من أجل تحرر حقيقي وتقدم ثابت.

ثم يشير الكاتب إلى أن تصاعد القوة العسكرية السوفيتية، وتجلياته التي تبدت في مشروع لتقسيم الصين إلى مناطق نفوذ إبان الخلاف مع بكين والتحرشات الحدودية، ثم غزو أفغانستان، تلك القوة العسكرية لم تكن مقرونة بقوة اقتصادية، بل على العكس، تعمق المأزق الاقتصادي السوفيتي، وبدا أن الاتحاد جسم عملاق بساق من ورق وأخرى من سلاح.

نهاية الاشتراكية الثانية

ينتقل سمير أمين في الجزء الأخير من الفصل الثالث إلى عرض المغزى الحقيقي لانهيار الاتحاد السوفيتي على المستوى النظري، فهو يؤكد أن الانهيار ليس نهاية للماركسية ولا هزيمة الاشتراكية نهائيًّا، بل هو يعني انقضاء عهد الاشتراكية الثانية – اللينينية – تمييزًا لها عن اشتراكية الأممية الثانية الديمقراطية التي انتهت بنشوب الحرب العالمية الثانية.

وهو يعتقد أن عهدًا اشتراكيًّا جديدًا يحتاج للقطع مع النموذج السوفيتي للاشتراكية، يتأسس على التخلص من وهم اللحاق والسعي لخلق «مجتمع آخر»، بالإضافة إلى إدراك أن التوسع الرأسمالي العالمي يخلق باستمرار شروط الاستقطاب التي تقتضي العمل على فك الارتباط من النظام الاقتصادي العالمي أي التخلص من الروابط التي تفتح المنظومة الاقتصادية لمقتضيات النمو وتوابع الأزمات في المركز.

ثم يقدم تصورًا لشكلين تاريخيين ممكنين لعملية الانتقال بين نظامين اجتماعيين، أحدهما يعتمد على «درجة من الوعي الأيديولوجي وفق احتياجات المشروع الاجتماعي الجديد»، وهو ما يسميه بالأسلوب الثوري، والآخر هو ما يسميه بـــ «أسلوب الانحطاط» بمعنى أن الضرورة التاريخية الموضوعية تجد سبيلًا لنفسها من خلال التفكك الفوضوي للنظام القديم.

ويختتم الفصل بالتأكيد على أن تمركز الفوائض على صعيد الرأسمالية العالمية أصبح يمثل عائقًا في سبيل تقدم ثلاثة أرباع الإنسانية، ما يعني أن «ليس الخيار الآني إذن بين الرأسمالية أو الاشتراكية، بل هو بين الاشتراكية أو البربرية».

سمات الرأسمالية في روسيا بعد السوفيتية

في وصفه لما جرى في مرحلة تفكيك الاتحاد بمعرفة جورباتشوف ويلتسين يقول سمير أمين إنه لا ينفي وجود خيانة، حيث إن السقوط «صاحبته بالضرورة ردة فاحشة في مجال الحفاظ على ما يمكن تسميته «المصالح الوطنية» لشعوب الاتحاد السوفيتي» كما اعتمدت خطة الإمبريالية على «تبني العلاج بالصدمة التي صممتها رأسمالية الاحتكارات الغربية من أجل تدمير فوري وشامل لمؤسسات الدولة بحيث يصبح المجتمع عاجزًا في مواجهة الهجوم المنهجي المخطط».

إن سمات رأسمالية ما بعد تفكك الاتحاد هي سمات رأسمالية تخومية، لقد تم تحويل الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد ريعي يعتمد بشكل شبه مطلق على تصدير المواد الخام من نفط وغاز كأي دولة تخومية من دول أطراف المنظومة، وتتشكل نواة الأوليجاركية الروسية الناشئة من ذلك القسم من الطبقة الذي استولى على كومبينات النفط والغاز. كما تم تدمير التعليم وتخفيض نسبة الضرائب على الأرباح إلى 17% طبقا لنصائح البنك الدولي.

ولئن كان الغرب قد رفع لواء «الديمقراطية» ضد السلطة السوفيتية، فإنه قد قامت فور انهيار تلك السلطة، سلطة أوليجاركية كومبرادورية في ظل دستور 1993 الذي أعطى كل الصلاحيات للرئيس، وسحب كل سلطات الدوما التي تم قصفها بالمدافع وقد:

اندرجت سياسة بوتين في مرحلتها الأولى في هذا الإطار. فاستخدم الرئيس تلك الوسائل نفسها من أجل وضع أصدقائه من حلقات سان بترسبورج (وهي قاعدته الأصلية في انطلاقه) في وظائف قائدة.

كما تفكك نظام الطائفية المشار إليه آنفًا وعجزت النقابات عن القيام بدور فعال في مواجهة نهب القطاع العام وصيانة مصالح العاملين، كما فشل الحزب الشيوعي الروسي رغم ما له من شعبية في إنتاج موقف ملائم في مواجهة المد اليميني.

تصاعدت الدعوات الإقليمية مع انهيار الاتحاد السوفيتي، في مناطق كسيبيريا رغم أن قاطنيها من الروس، كما تصاعدت نزعات انفصالية على أسس قومية كما حدث في الشيشان، واستغلت المجموعات الأوليجاركية المختلفة هذا الوضع لتحقيق مكاسب خاصة.

لم تكف الولايات المتحدة وشركاؤها في الناتو عن التدخل في شئون روسيا وفي مجالها الحيوي حتى بعد الانهيار السوفيتي وتفكك حلف وارسو وتبنيها الليبرالية الاقتصادية، ورغم ضم روسيا إلى مجموعة السبعة لتصبح مجموعة الثماني، هذا ما أدى -بحسب أمين- إلى أن:

بوتين قد أدرك أن الغرب لا يزال عدوًّا لروسيا، الأمر الذي يفسر مواقفه الجريئة التي اتخذها في مواجهة الأزمات الدولية الأخيرة (سوريا، إيران، أوكرانيا).

وقد ساد وهم لدى اليمين الروسي حول إمكانية صعود روسي على النمط الألماني بعد الحرب العالمية الثانية على أساس تبني الليبرالية الرأسمالية، وهو ما يرد عليه أمين قائلًا: «لقد ساعدت الولايات المتحدة ألمانيا على نهضتها بعد الهزيمة لأن واشنطن كانت بحاجة لأن تكون ألمانيا قوية في مواجهة العدو الحقيقي القائم – الاتحاد السوفييتي»، ثم يضيف أنه لا يمكن لواشنطن أن تساعد روسيا «حتى لا تصبح مرة ثانية قوة عظمى، فالأفضل بالنسبة إليها هو مواصلة تدميرها».

يعتبر سمير أمين أنه مع إدراك بوتين لحراجة الموقف الروسي، ومع عودة روسيا للنشاط على الساحة الدولية وفي مجالها الحيوي، وتمثلها تمامًا لخطأ عدم التدخل في الصراع الليبي، وعلى الرغم من ضرورة القوة العسكرية لصيانة السيادة الوطنية، فإنه من الضروري البدء في استعادة القطاعات الرئيسية في الاقتصاد الروسي والتي وقعت في يد الأوليجاركية وتأسيس اقتصاد مختلط قائم على ملكية الدولة والقطاع الخاص، أي الخروج من منطق الملكية الخاصة وسيادتها. كما أنه لا بد من إيجاد صيغة بديلة لما تم هدمه مع انهيار الاتحاد فيما يتعلق بالجمهوريات السابقة، والتي كانت وحدتها قائمة على احترام الخصوصية في إطار حل تقدمي يراعي المشاعر القومية.

إن المطلوب هو رأسمالية دولة روسية ذات مضمون ديمقراطي أي تحظى بتأييد شعبي منظم عبر ممارسة الدولة لالتزامات اجتماعية تبني قاعدة مصالح ضامنة لها، بدلًا من تمثيل قطاعات الأوليجاركية.

صعود الفاشية

تمثل الفاشية استجابة سياسية معينة للتحديات التي قد تواجه إدارة المجتمع الرأسمالي في ظروف محددة.

يتناول سمير أمين في الفصل الرابع والأخير قضية صعود الفاشية، وهو يحدد خاصيتين تميزان الفاشية عبر تاريخها، الأولى هي أن الفاشية مخلصة لجوهر النظام الرأسمالي، أي للملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. والثانية هي أن الفاشية هي شكل لإدارة مجتمع رأسمالي في أزمة، وهي بناءً على ذلك معادية للديمقراطية.

وتتخذ الفاشية أردية عدة تتعلق بالعودة إلى أصول دين معين أو استعادة عناصر عرقية أو قومية.

ثم هو يميز بين فاشية رأسماليات الدرجة الأولى وعلى رأسها النازية التي مثَّل صعودها رد فعل الاحتكارات الألمانية على ذل فرساي، وفاشية رأسماليات الدرجة الثانية التي مثَّلها موسوليني في إيطاليا، وكان صعود حزبه رد فعل على أزمة العشرينيات في إيطاليا وفزع الأرستقراطية الإيطالية القديمة والبرجوازية الجديدة والطبقة الوسطى من الصعود الشيوعي.

أخيرًا، هناك الفاشية في أوروبا الشرقية، حيث يوضح سمير أمين تبلور تيار فاشي تاريخي في بولندا وأوكرانيا معادٍ للروس عززته الكنيسة الكاثوليكية البولندية، وقد تعاون هذا التيار في كلا البلدين مع هتلر فور اجتياحه لهما بغرض إقامة حكومات عميلة كحكومة فيشي الفرنسية، ولكن هذا المخطط اصطدم برغبة هتلر في تصفية الوجود البولندي والأوكراني.

ثم هو يؤكد أن اليمين الأوروبي لم يكن معاديًا للفاشية، وأن الاصطدام بالفاشية عسكريًّا في الحرب العالمية الثانية لم يكن رفضًا للفاشية، بل رفضًا للنتائج التي تسعى لفرضها عسكريًّا حول إعادة اقتسام العالم ويضيف أمين:

وفي بداية التسعينيات، سرعان ما أعيد الاعتبار للفاشية في أوروبا الشرقية في أوائل 1990. فقد كانت جميع الحركات الفاشية في البلدان المعنية، من الحلفاء المخلصين، أو المتعاونين بدرجات متفاوتة، مع الهتلرية. فمع اقتراب الهزيمة، انتقل عدد كبير من قادتها النشطاء إلى الغرب، وكان من الممكن، بالتالي، «أن يستسلموا» للقوات المسلحة الأمريكية. وقد وجدت جميعها ملاذًا في الولايات المتحدة وكندا. وحظيت بتدليل السلطات بسب معاداتها الشرسة للشيوعية!

هناك محاولة لاستبدال التسميات، بدلًا من «الفاشيين» يجري الحديث عن «القوميين» في وسائل إعلام غربية، ويرى سمير أمين أنه لا يمكن وصفهم بالقوميين إلا إذا كانوا معادين لهيمنة الاحتكارات الأمريكية والأوروبية التي يفرض منطق هيمنتها معاداة القومية، بينما هؤلاء القوميون هم «أصدقاء لواشنطن وبروكسل وحلف شمال الأطلنطي».

يختتم سمير أمين كتابه بالتعقيب على الأزمة الأوكرانية التي بدأت بما يسمى بالثورة البرتقالية المدعومة غربيًّا في 2014، وهو يراها لا كما يروج الغرب باعتبارها دعمًا للديمقراطية، بل في إطار سعي الثالوث الإمبريالي لبسط هيمنته ولو عبر دعم صعود قوى فاشية كما حدث في أوكرانيا:

وفي يوغوسلافيا السابقة وشرق أوروبا، ودعم الثالوث في بلدان الجنوب القوى الأشد تطرفًا في معاداة الديمقراطية، مثل الإسلام السياسي الرجعي المتطرف ودمر بتواطئه هذه المجتمعات: وتوضح حالات العراق وسوريا ومصر وليبيا أهداف المشروع الإمبريالي للثالوث.

لعل استعراض تاريخ روسيا يؤكد أنها لا تمتلك خيار اللحاق بالغرب الرأسمالي، وإن المجتمع الروسي الحديث لم يستطع المنافسة في مضمار التقدم الإنساني إلا حين تبنى اختيارات تنموية مغايرة على قاعدة مختلفة للملكية الاجتماعية، وإن الدرس الذي يمكن استنتاجه من سنين ما بعد الانهيار السوفيتي هو أن وهم الاندماج في النظام الرأسمالي العالمي من موضع ندية قد ألقى بروسيا إلى أعتاب التفكك كدولة والتحلل الاجتماعي.

إن سمير أمين يجيب على السؤال الذي طرحه وعرضناه في مقدمة هذا العرض عن إمكانية تبني روسيا سياسة وطنية مستقلة وصيانة تلك السياسة على قاعدة الليبرالية الاقتصادية؟ وهو يصل إلى استنتاج أنه «في مثل هذا الوضع الذي تعيشه روسيا اليوم في النظام العالمي (كبلد ذي اقتصاد ريعي يقوم على تصدير المواد الخام عبر ملكية خاصة أوليجاركية كما سبق أن أشرنا)، ستظل محاولاتها للتصرف بصورة مستقلة على الساحة الدولية هشة إلى أقصى حد، مهددة بالعقوبات، والتي سوف تدفع حكم الأقلية الاقتصادية إلى الانحياز الكارثي لمطالب الاحتكارات المسيطرة في الثالوث».