في نهاية أغسطس/ آب 2020 نُقل المعارض الروسي أليكسي نافالي إلى المستشفى في حالة خطيرة إثر تعرضه لغاز مُسمم في إحدى رحلاته إلى موسكو. تم إجلاء نافالي ليتلقى علاجه في برلين، وهناك أثبتت منظمة حظر الأسلحة الكيمائية أن نافالي تعرّض بالفعل إلى غاز أعصاب،نوفوتشوك، مُحرم دوليًا. وبناءً على تلك النتيجة قام الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة بفرض عقوبات على 6 مسئولين روس كبار وأحد المراكز الكيمائية التابعة لروسيا. أما نافالي فقد اتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالوقوف شخصيًا وراء محاولة اغتياله.

بعد تماثله للشفاء قرر نافالي أن يعود لروسيا في يناير/ كانون 2021، وفور عودته اعتقلته السلطات الروسية بتهمة انتهاك شروط إيقاف تنفيذ عقوبة السجن، وقد صرّحت دائرة الشرطة الروسية بذلك قبل عودة نافالي وأكدّت أنه سيواجه عقوبة السجن إذا عاد لأنه انتهك شروط إطلاق سراحه في قضية قديمة أُدين فيها بالسجن مع إيقاف التنفيذ، وتشوب القضية دوافع سياسية واضحة.

بعد اعتقاله قضت المحكمة بحبس نافالي إلى 15 فبراير/ شباط 2021 لانتهاك إطلاق السراح المشروط. حينها أطلق نافالي نداءه بالنزول لجموع الشعب الروسي قائلًا: «لا تصمتوا، قاتلوا، انزلوا إلى الشوارع، ليس من أجلي بل من أجلكم». كما بثت قناة اليوتيوب التابعة له فيديو يتهم فيه بوتين بالفساد، وحثّ الناس على النزول للشارع، وسرعان ما انتشر الفيديو حتى حصد 60 مليون مشاهدة في أيام قلائل.

وفي 21 يناير/ كانون الثاني 2021 بدأت الشرطة الروسية في التخلي عن مجرد الدعوة لوقف نشر رسائل الاحتجاج أو الدعوة لها، وبدأت الشرطة في اعتقال العديد من مساعدي نافالي، احتجزت الشرطة بعضهم وأجبرت الآخرين على دفع غرامة وكفالة للخروج، وحذّرت المحكمة كل ينشر دعاوى الاحتجاج أو يُروج لها بالسجن والعقوبة. وقالت وزارة الداخلية إن تظاهرة سوف يتم اعتبارها تهديدًا للأمن العام.

فيسبوك يلتزم بمعايير مجتمعه

بعد تلك التحذيرات بدأت شبكات التواصل الاجتماعي الروسية في حذف المحتوى الداعي للاحتجاجات، كما أرسلت الحكومة إلى موقعي فيسبوك ويوتيوب تطالبهما بحظر هذا المحتوى، لكن جاء رد المنصتين متقاربًا في أن المحتوى المذكور لا ينتهك معايير المجتمع الخاصة بهما، لذا فإنه سيظل على منصتهما.

بعد أن بات فيسبوك هو المتنفس الوحيد لداعمي نافالي ارتفعت أصواتهم عليه خاصةً بعد بداية حملة الاعتقالات، لذا بعد يومين فحسب، 23 يناير/ كانون الثاني، اندلعت احتجاجات عارمة في أكثر من 100 مدينة روسية. قدّرت رويترز عدد المشاركين في مظاهرات موسكو وحدها بـ 40 ألف متظاهر، بينما أعلن التلفزيون الرسمي الروسي أن عددهم لا يتجاوز 4 آلاف متظاهر فحسب.

بعد ساعات من اندلاع المظاهرات اعتقلت الشرطة الروسية يوليا نافالنيا، زوجة نافالي، واحتجزتها لمدة 3 ساعات ثم أطلقت سراحها بعد ذلك. ودارت اشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين أدت إلى إصابة 40 شرطيًا وفق التصريحات الرسمية. كذلك اشتكت بعض المدن التي شهدت المظاهرات من انقطاع كامل ومنظم لشبكات الهاتف المحمول وشبكات الإنترنت، وريثما عادت الشبكات للعمل كانت الشرطة الروسية قد احتجزت قرابة 3070 شخصًا من مختلف المدن الروسية، منهم 1100 في موسكو وحدها.

التعامل الروسي مع الاحتجاجات أدى إلى خروج مسيرات دعم للمتظاهرين في دول مختلفة مثل هولندا، وألمانيا، والدنمارك والسويد. ما حدى بالمجتمع الدولي لإطلاق العديد من التصريحات بخصوص التظاهرات منهم من أدان ما حدث بشكل مباشر مثل وزير الخارجية البريطاني، ومنهم من اكتفى بتصريحات دبلوماسية تدعو للإفراج عن المعتقلين الذين لم يفعلوا شيئًا سوى ممارسة حقهم العالمي، على حد وصف المتحدث باسم الخارجية الأمريكية.

واشنطن تُحرض على الاحتجاجات

قابلت روسيا ردود الفعل الدولية بشدة فطردت ثلاثة دبلوماسيين من ألمانيا والسويد وبولندا بتهمة المشاركة في الاحتجاجات، وقالت الخارجية الروسية إن الثلاثة شاركوا في احتجاجات غير قانونية. في الناحية الأخرى نفت الدول الثلاث مشاركة دبلوماسيها في المظاهرات قائلةً أن الطرد غير مبرر أبدًا.

لم تبال روسيا برد الدول الثلاث وركزت مواجهتها على الولايات المتحدة الأمريكية، إذ اتهمت روسيا واشنطن بالوقوف وراء المظاهرات، بسبب نشر السفارة الأمريكية على موقعها خريطةً توضح المسار المُتفق عليه للمظاهرات. وأعلنت روسيا أنها مستعدة للتفاوض والحديث مع الولايات المتحدة لكن دون أي إملاءات أو تجاوز للخطوط الحمراء، على حد تعبير دميتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين.

وأعلنت موسكو استدعاءها للسفير الأمريكي لتوضيح الاتهامات الموجه لبلاده بدعم المظاهرات وبالوقوف وراءها. لكن يبدو أن الولايات المتحدة لا تبالي بتقديم تفسير أو اعتذار، بل يذهب المسئولون الأمريكيون إلى أبعد من ذلك قائلين بأن الوقوف مع المعارضة الروسية أمر واجب، على رأسهم آدم شيف رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأميركي.

التعامل الروسي شديد الشراسة هذه المرة مع التظاهرات لحساسية وقتها إذ تقترب الانتخابات التشريعية التي ينتظرها الجميع، لكنها تأتي وسط مرحلة تتراجع فيها شعبية بوتين وحزبه لأدنى مستوياتها. لذا فالدب الروسي لا يُبدي تهاونًا مع الداخل الروسي، كما لا يُبدي أي احتمالية للرضوخ للضغوط الخارجية.

الحكم اللا نهائي يوشك على النهاية

لذا فقد قضت المحكمة سريعًا بحبس نافالي 3 سنوات بتهمة انتهاك إطلاق سراحه المشروط، ثم عاد القاضي ليؤكد أن العام الذي قضاه نافالي بالفعل قيد الإقامة الجبرية سوف يتم احتسابه من فترة السجن. لكن محامو نافالي أعلنوا أنهم سيستمرون في نقض ذلك الحكم لوجود العديد من الشبهات والدوافع السياسية التي تشوبه.

بالطبع لم تهدأ الاحتجاجات بعد صدور الحكم، بل ازدادت اشتعالًا. لكن اللافت هو الرد الغربي الذي لم يتحدث عن فرض المزيد من العقوبات على روسيا، بل طالب فقط بإطلاق غير مشروط عن نافالي. رغم أن تتبع طبيعة المظاهرات الحادثة يكشف أن المتظاهرين لم يخرجوا لشخص نافالي فحسب، ولا اعتراضًا على بوتين منفردًا، بل تعكس المظاهرات استياءً عامًا لدى الشعب من الطبقة الحاكمة بأكملها.

خاصةً مع الركود الاجتماعي والسياسي الذي يضرب روسيا في أعقاب جائحة كورونا، ولعل الجانب الروسي يفهم ذلك جيدًا، ويعي أن المتظاهرين ليسوا مدفوعين ببرنامج نافالي السياسي، لكنهم ناقمون على الوضع الراهن بالجملة. كما تبدو نظرة الروس لبلادهم شديدة التشاؤم والإحباط، ولا يرون فيها آفاقًا لنمو اقتصادي ولا لحراك اجتماعي يوازن الأمور بين الطبقة الحاكمة شديدة الثراء، وباقي الشعب محدود الدخل والمقهور سياسيًا واجتماعيًا.

ما يعني أن بوتين يواجه ما هو أكبر وأطول أمدًا من الاحتجاجات قصيرة المدى، طمأنة الشعب الروسي ومنحه بعض الثمار كي يرضخ مرة ثانية لحكم بوتين الذي يبدو بلا نهاية.