تحولت الملحمة السورية بمرور الوقت إلى مرآة ذات قدرة كشفية خارقة، إذ تجرد كل من ينخرط فيها من أقنعته، وتجلسه على كرسي الاعتراف ليدلي بكل ما لديه من نوايا وخطط ورؤى للذات والآخر، وربما أيضا، ما لديه من هواجس في اللاوعي، فلكأن سوريا باتت المحلل النفسي للمجتمع الدولي. بدأ كشف الأقنعة مبكرا مع محور الممانعة الذي تحول فجأة من حامي عرين المسلمين بعد أن استباحته الصهيونية وحلفاؤها من الإمبرياليين، إلى رعاة في الكنيسة الإيرانية يقدمون الأطفال السوريين قرابين على مذبح المرشد المقدس. لاحقا، تجسد اللاوعي الإسلاموي دفعة واحدة على أرض سوريا والعراق، فتمخض حلم يوتوبيا الدولة الإسلامية عن مسخ داعش. هذا ما قالته سوريا عن الممانعة والإسلاموية، فهل لديها ما تقوله عن روسيا؟

منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، عملت روسيا على إعادة اكتشاف وتعريف ذاتها، ومن ثم ترتيب أوراقها لتحديد مهامها الدولية ومحاور تحالفها الإقليمي. بدأت العلاقات الروسية التركية في ذلك الوقت بتوتر أسست له الحتمية الجغرافية للمنافسة الروسية التركية على القوقاز والبلقان، وحفزته حقيقة انتماء تركيا لحلف شمال الأطلسي. لكن مع أفول شمس الألفية الغابرة، أذابت حميمية الدوافع الاقتصادية التي أتت على قمة أولوية الطرفين الذين يحاولان بناء قاعدة اقتصادية قوية، برود التنافس الجيوسياسي والاستقطاب العالمي. وتوالت الزيارات المتبادلة بين الرسميين الروس والترك دونما انقطاع مشهود.

قطعت سوريا شهر العسل الروسي التركي، وإن لم تقطع خط أنابيب السيل الأزرق أو توقف قرينه المنتظر السيل التركي الذي يمثل شريان حياة لكليهما، وأعادت إلى الواجهة الرؤى الجيوسياسية لألكساندر دوجين Aleksandr Dugin، عراب مشروع الإمبرطورية الروسية ما بعد الشيوعية.

ألكساندر دوجين وحلم أوراسيا

ألكسندر دوجين هو أستاذ السوسيولوجي بجامعة الدولة بموسكو، ولد عام1962 لعائلة من ضباط الجيش السوفيتي، لكنه انخرط منذ باكورة شبابه ضمن تنظيم سري عمل على إحياء التنظيرات الفاشية لما بين الحربين بطابعها الديني الوثني وطموحاتها القومية المتطرفة، ونقلها إلى الروسية مما أدى إلى طرده من الدراسة. لكن دوجين عاود الظهور مرة أخرى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عبر الحزب الشيوعي القومي بقيادة يوزجانوف، والذي روج لما يعرف بالقومية البلشفية، وهي أيديولوجية تبرر التوسع السوفيتي لكن على أساس قومي لا شيوعي، لكن الحزب لم يلق ترحيبا رسميا ولا شعبيا، وخسر دوجين في انتخابات الدوما 1995 خسارة فادحة حصل فيها على أقل من نسبة 1% من الأصوات. لكن العمل الأهم لدوجين كان تأسيسه لحركة أوراسيا الدولية التي تضم نخبة من العسكريين والساسة الروس في سبيل تحقيق مشروعه الجيوسياسي الذي طرحه عام 1997.

المفكر الروسي ألكساندر دوجين
المفكر الروسي ألكساندر دوجين

لدوجين إنتاج غزير لكن واسطة عقده بلا منافسة، عمله الصادم ذائع الصيت قواعد الجيوبولتيكFoundations of Geopolitics (1997) وهو أشبه ببرنامج عمل استراتيجي للسياسة والعسكرية الروسية. يقوم الكتاب على التمييز التأسيسي الذي وضعه عميد الجيوبوليتيك كارل هاوسهوفر، الضابط الألماني النازي، بين كتلتين جيوبلوتيكيتين كبيرتين، هما حلف الأطلسي Atlanticism مقابل أوراسيا Euraisia. فبينما يمثل الحلف الأطلسي وعلى رأسه الولايات المتحدة قيم الديموقراطية والليبرالية والرأسمالية والاستهلاك، التي يوجه دوجين سهام نقده إليها اعتمادا على هيدجر وغيره من نقاد الحداثة، فإن روسيا تمثل الحضارة المحافظة بقيمها البطولية والقومية والدينية التي يحقق فيها الإنسان وجوده عبر انتمائه للكل العضوي.

يرفض دوجين لذلك دعاوى القومية الروسية المنغلقة على حدود دولة روسيا الاتحادية، والتي يرى فيها خدعة أطلسية، حيث يؤمن دوجين بأن الشعب الروسي شعب إمبراطوري بالطبع والتاريخ، ولا يمكن أن يحبس في حدود دولة قومية إثنية ضيقة. ولا تعني القومية الروسية بالنسبة له إلا تلك القيم الروسية كالأرثوذكسية الروسية. يرى دوجين أن بإمكان روسيا تأسيس إمبراطورية أوراسيا عبر تكوين 3 محاور لحصار الأطلسيين (الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط وآسيا):

1- محور موسكو-برلين:

حيث تتمدد روسيا غربا لاستعادة معظم تراثها السوفيتي صوب وسط أوروبا الذي يتحرك بقيادة ألمانية وتبعية فرنسية (يعتمد دوجين على حلفائه من اليمين الجديد في وسط أوروبا) نحو الشرق حيث تمنحه أوراسيا جزءا من شرق أوروبا. ويهدف ذلك المحور إلى تقويض الحصار العزلي في شرق أوروبا الذي حاول الأطلسيون تكوينه حول روسيا. يمثل ذلك المحور خطوة تكتيكية على طريق ما يطلق عليه دوجين فنلدة أوروباFinlandization of Europe، ففنلندا هي الدولة الأوروبية الأكثر ارتباطا جيوبوليتيكيا بروسيا في نظر دوجين، والتي ينبغي ضمها فورا عند التوسع.

2- محور موسكو-طوكيو:

وهو المحور الذي تتمكن عبره أوراسيا من تطويل النفوذ الأطلسي من جهة الشرق. ويرى دوجين أن كلا من برلين/باريس وطوكيو ينطويان على تقليد ضد أطلسي موروث منذ الحرب العالمية الثانية.

3- محور موسكو-طهران:

تنبع الأهمية الاستراتيجية لهذا المحور من كونه يمثل حلا لـ«العقدة الروسية» التاريخية وهي الوصول إلى «البحار الدافئة» في المحيط الهندي. وهو المحور الأكثر تأثيرا في السياسات الروسية تجاه الشرق الأوسط.


دوجين ودوائر صنع القرار في روسيا

يمكن ببساطة استبعاد آراء دوجين من قبل البعض كمحض تهويمات نيوفاشية يمكن تفنيد إمكاناتها، وتكفي قراءة بسيطة لأوروبا اليوم ولإمكانات روسيا لتوديع أحلام دوجين مؤقتا على الأقل. لكن العلاقة الوثيقة التي جمعت دوجين مع النخب السياسية والعسكرية الكبرى في روسيا، وآثار آرائه ونشاطه على السياسات الروسية الواقعية، تجبرنا على أخذها على محمل الجد.

ففي عام 1992 نشرت دورية «الأسسElementy» وقائع طاولة نقاشية جمعت إلى جوار دوجين رؤساء أقسام الاستراتيجية والتاريخ العسكري بالأكاديمية العسكرية الروسية إضافة إلى اليميني الفرنسي ألان دي بنوا. كما أن آراءه حازت قبولا واسعا لدى رئيس الأكاديمية في ذلك الوقت الجنرال رودينوف. سيصير رودينوف عامي 1996 و 1997 وزيرا للدفاع حيث سيشارك، والجنرال إيفاشوف مدير العلاقات الخارجية بوزارة الدفاع، في وضع كتاب قواعد الجيوبوليتيك. الكتاب نفسه سيصير مرجعا في الأكاديمية العسكرية الروسية.

في عام 1998 عمل دوجين كذلك كمستشار لرئيس مجلس الدوما وأحد رجال روسيا الأقوياء سيليزيوف، الذي طلب في مقابلة تلفزيونية عام 1999 بتدريس أطروحة دوجين في المدارس. أسس دوجين كذلك مركز الأبحاث الجيوبوليتيكية الذي توقع له أن يمد صناع القرار في روسيا بالرؤى المناسبة. يتلقى دوجين دعما قويا شبه معلن من مؤسسة الرئاسة ومؤسسات روسية أخرى. يحظى دوجين كذلك بصفته معلقا سياسيا بمساحة واسعة على التلفزيون والصحافة الرسمية.
دوجين في اجتماع حركة أوراسيا
دوجين أثناء أحد اجتماعات حركة أوراسيا

يحرص دوجين في تعليقاته وتحركاته على الاقتراب من سياسات بوتين، وتشكل نظريته الفاشية الجديدة التي أسماها «النظرية السياسية الرابعة» إغواء أيديولوجيا مناسبا لديكتاتورية بوتين الديموقراطية. يظهر أثر دوجين واضحا في سياسات روسيا مؤخرا، فضم القرم والموقف الروسي المتشدد في الأزمة الأوكرانية أتى موافقا لرأي دوجين أن وجود أوراسيا لا يمكن الحديث عنه إلا بضم أوكرانيا، على الأقل شرقها، تماما إلى روسيا. بل إن دوجين صرح مؤخرا في مقابلة معه بأن رأيه في التعامل مع الأوكرانيين هو: «أن تقتلهم، تقتلهم، تقتلهم»؛ الأمر الذي أدى إلى الإطاحة به من رئاسة قسم السوسيولوجيا بجامعة موسكو بعد معارضة قوية من قبل الطلاب. أما مباركة الكنيسة الأرثوذكسية للحملة الروسية على سوريا فهي تتويج عملي لدرس دوجين الأيديولوجي.


تركيا في إمبراطورية دوجين

كتب دوجين أن «الحيز الإسلامي بأسره يمثل واقعة جيوبوليتيكية صديقة لروسيا بالطبيعة، لأن التقليد الإسلامي يتفهم تماما مدى التنافر الروحي بين أمريكا والدين. والأطلسيون أنفسهم ينظرون إلى العالم الإسلامي بأسره، كمنافسهم المحتمل»، إلا أنه اختار التحالف مع إيران دون تركيا والسعودية. فمن ناحية تقترب إيران من الروس عرقيا وفكريا، إذ أن الفرس ينتمون إلى الجنس الآري الحليف للروس، كما أن ميول دوجين النيوباجانيةneo-paganism (الوثنية الجديدة بالترجمة الحرفية) والتي استقاها من معلميه الفاشيين في حقبة ما بين الحربين تتناسب والتقاليد الروحية العريقة لإيران.

أما تركيا فإنها تمثل بالمقابل منافسا محتملا في البلقان من جهة، وفي القوقاز من جهة أخرى. القوقاز بخاصة له أهميته لأنه يمثل الطريق إلى محور إيران طهران ومن ثم إلى البحار الدافئة وحل «العقدة الروسية»، مما استدعى ضم أرمينيا إلى المحور كعائق في طريق محور تركيا-أذربيجان. كما أن الميول الأطلسية لتركيا كعضو أساسي بالنيتو تزعج الأوراسيوية. وعلى الرغم من اتجاه تركيا العدالة والتنمية نحو الأسلمة، إلا أنه اتجاه نحو أسلمة ديموقراطية، لا ترحب بها أوراسيا. من جهة أخرى لطالما أزعج المجاهدون الوهابيون في الشيشان النفوذ الروسي، كما أن الوهابية أيديولوجية رافضة للتقاليد الروحية الأيكونية المفرطة، وهو ما يضيف إلى تحالف السعودية مع الولايات المتحدة، سببا آخر للعداء بين روسيا والسعودية.

لم يتوقف العداء الأوراسيوي لتركيا عند حد دعوة دوجين في كتابه إلى استثارة الأقليات في تركيا، كالأرمن والكرد، ضد تركيا؛ بل امتدت إلى تكوين علاقات مريبة قوية مع عسكريين وساسة ترك بعد زيارات متكررة إلى تركيا في 2003 و 2004، بل ومع منظمة من قبيل منظمة أرجنكون، التي مثل الكشف عنها فضيحة كبيرة للعديد من أصحاب النفوذ في تركيا، والتي كان لها ميول علمانية وقومية متطرفة، وخطط انقلابية. بل إن مصادر تشير إلى أن دوجين شجع المنظمة إلى التخطيط نحو الإطاحة بالعدالة والتنمية. تخلل الفترة بين 2003 و 2007 خطاب متراوح من قبل دوجين نحو دمج تركيا القومية في مشروع أوراسيا، متأثر بسياسات التقارب الاقتصادي الروسية والتركية، وبعلاقاته مع أرجنكون، لكن بمجرد أن طفت قضية أرجنكون وبدأ توقيف أعضائها، عاد دوجين إلى خطابه القديم مصرحا بأنه يحاول إثارة الكرملين للضغط على الحكومة الروسية للابتعاد عن تركيا.

ألكساندر دوجين مع صديقه السياسي التركي دوجو برينسيك والمتهم في قضية أرجنكون

عاد دوجين مؤخرا إلى خطابه الحاد تجاه تركيا بعد مظاهرات جيزي بارك التي قابلها العدالة والتنمية بعنف مفرط. حيث صرح دوجين بأن«عاجلا أو آجلا سوف تتبع الحكومة الروسية ألف باء جيوبوليتيك وتتحرك وفقا لمصالحها القوية الأساسية والموضوعية بعيدة المدى» قائلا:«لا تأخذ الأمر على محمل شخصي، سيد إردوغان، فلا يصح إلا الصحيح». بل إن مؤيدي حركة أوراسيا حاولوا أن يتظاهروا أمام السفارة التركية تأييدا لجيزي.


الغاز: سلاح دوجين في نحره

ألكساندر دوجين مع صديقه السياسي التركي دوجو برينسيك والمتهم في قضية أرجنكون
ألكساندر دوجين مع صديقه السياسي التركي دوجو برينسيك والمتهم في قضية أرجنكون

«نعم، ولا يمكن أن يكون غير ذلك» هكذا أجاب مساعد وزير الطاقة الروسي أناتولي يانوفسكي على السؤال الصحفي: هل ستواصل روسيا ضخ الغاز إلى تركيا بعد إسقاطها المقاتلة الروسية؟

فتركيا تستورد ما بين نصف إلى ثلثي احتياجها من الغاز الطبيعي الذي يقدر ببضع وخمسين مليار متر مكعب من روسيا، مما يعني أن توقف الغاز الروسي يساوي شللا خدميا واقتصاديا يزلزل تركيا. لكن خط الأنابيب الذي يحمل الغاز إلى تركيا يحمل معه صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، والتي تشكل عمودا أساسيا لا غنى عنه للاقتصاد الروسي المتعثر. بل إن حيوية تركيا كناقل للغاز الروسي تتضاعف بعد الصدام الروسي مع أوكرانيا والذي أنهى إمكانية تحويل الصادرات الروسية عن تركيا إليها، على المدى القريب على الأقل.

كان دوجين قد رأى أن روسيا تستطيع أن توظف ثرواتها الطبيعية في مد نفوذها القاري توفيرا لآلتها العسكرية. لكن روسيا وقعت أسيرة لسلاحها بعد أن صار شريان الحياة للاقتصاد الروسي بطابعه الدولاتي كما يحبذ بوتين، وكما يحبذ دوجين كذلك. وبتوقف صادرات الغاز قد تتعرض روسيا إلى ما يقارب الإفلاس النقدي خاصة بعد العقوبات الأوروبية المرتبطة بالمسألة الأوكرانية، وانخفاض أسعار الغاز مؤخرا. لا ينفي هذا بالطبع حاجة الأمن القومي التركي إلى توفير مصادر غاز بديلة في ظل اعتمادها الهائل على الغاز من روسيا وإيران، إلى جانب حليفها أذربيجان.