منذ أيام بطرس الأكبر كان الفهم الروسي لأوروبا مرناً ومتسعاً، واستخدم مصطلح «أوروبا الكبرى» للتعبير عن هذا الفهم. مصطلح «أوروبا الكبرى» في الفهم الروسي يدل على الرقعة الجغرافية الممتدة من لشبونة في البرتغال إلى ميناء فلاديفستوك الروسي في الشرق.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تطور فهم السياسة الخارجية الروسية لأوروبا الكبرى باعتبار أن لديها إمكانات متميزة للشراكة والتعاون، ليس فقط بسبب الاعتبارات الاقتصادية والسياسية والأمنية، بل بسبب التقارب الثقافي والتاريخي. واستخدم هذا الفهم لتحفيز التعاون المؤسسي الروسي مع الغرب منذ بداية التسعينيات، كما نوقشت أفكار مثل انضمام روسيا إلى الناتو والاتحاد الأوروبي ما أنتج اتفاقية الشراكة والتعاون بين روسيا والاتحاد الأوروبي الموقعة في عام 1994، وانضمام روسيا إلى مجلس أوروبا في عام 1996، واتفاقيات العلاقات المتبادلة والتعاون والأمن مع الناتو 1997.

ما لبثت أن تحولت الأفكار الروسية إلى رؤية بعنوان «أوروبا الكبرى: من لشبونة إلى فلاديفستوك» شرحها سيرغي كاراغانوف على النحو التالي: «إنشاء حيز استراتيجي مشترك بين روسيا وأوروبا مع إمكانية ضم تركيا وكازاخستان لتشكيل كيان أوروبي شامل» يكون فيه تعاون وثيق في صنع القرار في السياسة الخارجية، وسوق مشتركة للطاقة، ومساحة تنظيمية موحدة، ونظام بدون تأشيرة يعطي الأولوية للتبادل الثقافي والتعليمي والمجتمعي.

على الرغم من وجود حوافز قوية لدى كل الأطراف لإنجاح هذا التعاون، إلا أن التردد كان السمة الأبرز التي صبغته. أرجع إيغور إيفانوف، وزير الخارجية السابق ورئيس مجلس العلاقات الخارجية الحالي، سبب هذا التردد إلى أن النخب السياسية الروسية آنذاك نظرت إلى هذه العملية بشكل مختلف عن خبراء السياسة الخارجية الروس وعن النخب السياسية الأوروبية، معتبراً أن النخب الروسية «لم تكن مستعدة لمثل هذه الأفكار الرائدة» التي حاول خبراء السياسة الخارجية الروس ترويجها. بالمقابل، رأت النخب السياسية الأوروبية أن روسيا باتساعها وتناقضاتها السياسة الداخلية أكبر من أن يستطيع استيعابها الإطار الأوروبي، فالمشكلة بالنسبة للأوروبيين أن روسيا تريد أن تُقبَل كما هي، أي بنظامها السياسي «التسلطي»، وترفض مبدأ الأصوات المتساوية المعمول به داخل الاتحاد الأوروبي، وستطالب بوضع خاص مما يتسبب بخلق حالة شاذة وغير مستقرة داخل الجسم الأوروبي يصعب التعامل معها.

وبينما روسيا مترددة وعالقة في ممر التنمية الاقتصادية وطموحات القوة العظمى، فاجأتها موجة الثورات الملونة، التي أطاحت بحكام ونخب تستطيع أن تتعامل معهم روسيا. بدت روسيا عاجزة عن فعل أي شيء إزاء موجة الثورات الملونة، وشعرت أن هذه الثورات لا يمكن أن تتم بمعزل عن دعم خارجي، أما الكرملين فلا يأخذ طموحات الناس العاديين ورغباتهم وقدراتهم على محمل الجد، فتحول التردد لدى النخبة السياسية الروسية إلى الشك ، والشك هو الخصلة التقليدية للسياسة الروسية. هذا التحول تجسد في تغيير تدريجي للخطاب السياسي الروسي وصل ذروته في خطاب بوتين الشهير في مؤتمر ميونيخ لشئون سياسة الأمن 2007 الذي عكس إحباطه من النهج الغربي في التعامل مع روسيا وعدم الاهتمام بمخاوف روسيا والاستهانة بمكانتها.

تغيير المسار

عام 2008 تميز بحدثين مهمين: الأول هو الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت الاقتصاد الروسي. وعلى الرغم من استفادته من طفرة أسعار النفط، فشلت روسيا في تطوير نموذج تنموي مستدام خاص بها يحميها من تبعات الأزمات الدولية. الحدث الثاني كان حرب الأيام الخمسة التي شنتها روسيا على جورجيا واحتلت فيها خمس أراضيها لتدعم بعدها استقلال إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، ورسخت تلك الأحداث اعتقاداً في أوساط النخبة السياسية الروسية بأن الغرب يريد السيطرة على روسيا وإخضاعها له.

في نهاية الفترة الرئاسية الثانية لبوتين، أصبح واضحاً للكرملين أن المسار الذي كان يصطلح الروس على وصفه بالبراغماتية السياسية لن يصل بروسيا إلى استعادة وضع الدولة العظمى وفرض موقع لها مؤثر في إدارة الشئون الدولية.

 دفع ذلك روسيا إلى إعادة ترتيب أولوياتها، ونجم عن ذلك تخفيض التوقعات بشأن نتائج التعاون الروسي الأوروبي، والذي اقتصر في تلك المرحلة على محادثات حول التبادل الاقتصادي ومشاريع الطاقة التي سعت روسيا من خلالها إلى تكثيف تواجدها الأوروبي في مجال إمدادات الطاقة مضمرة مساعي لاستخدام إمدادات الطاقة كورقة مؤثرة في إدارة علاقاتها مع أوروبا، مما أثار انتباه خبراء أوروبيين حذروا من أن الغرق في مشاريع الطاقة الروسية مثل مشروع «السيل الشمالي» (North Stream) سيمنح روسيا نفوذًا هائلاً في أوروبا.

على التوازي قامت روسيا بإطلاق برنامج واسع لتحديث الجيش الروسي وإعادة تسليحه (2009-2015) مدعوماً بحملة دعائية عبر وسائل الإعلام التابعة للكرملين لحشد دعم الرأي العام الروسي. وجرى التعتيم على فشل مشاريع التحديث السابقة التي نخرها الفساد والنهب وأدت إلى أن لا تتجاوز نسبة العتاد الحديث 20% من عتاد الجيش الذي ظل معتمداً بشكل واسع على عتاد سلفه السوفيتي، كما دفع الكرملين بحماس كبير إلى التوسع في الصادرات العسكرية.

البوابة إلى الماضي

 الكاتب الروسي سيرغي ميدفيديف اعتبر أن الفترة الرئاسية الثالثة (2012 – 2018) لبوتين هي الفترة الأكثر أهمية لأنها فتحت «البوابة إلى الماضي» التي عبرها استولت نخبة سياسية روسية، أسماها ميدفيديف «ديناصورات الاستبداد والإمبريالية»، على الساحة السياسية.

ترافقت عودة بوتين إلى للرئاسة مع انتشار تحليل في أوساط النخبة السياسية الروسية يفسر التدهور في العلاقات مع الغرب بأنه يرجع إلى فشل الغرب في فهم مخاوف روسيا الأمنية ورفضه مقترحاتها لإنشاء بنية أمنية أوروبية مشتركة، وعدم التعامل مع روسيا كند، له الحق في دور يتناسب مع المكانة التي يتصورها الروس لبلادهم في إدارة الشئون الدولية.

تدريجياً نمت قناعة في أوساط النخبة السياسية الروسية بأن الولايات المتحدة تهدف إلى الإطاحة ببوتين ونخبته، وأنها وراء الاحتجاجات الضخمة التي خرجت إلى الشهر الأخير من عام 2011 مطالبة برحيل الثنائي بوتين-مدفيديف. هذه القناعة رسخت هاجس الحفاظ على سلامة نظام الحكم بقيادة بوتين واستمراره في السلطة كأحد محركات السياسة الخارجية الروسية بشكل أكثر عمقاً من ذي قبل.

كل ما سبق تتطلب صياغة رؤية جديدة للسياسة الخارجية الروسية مختلفة عن سابقاتها، تميزت بأنها أقل انفتاحاً وأكثر تشككاً، وبذلك ضاعت «الفرصة الأخيرة» كما وصفها حرفياً كاراغانوف لروسيا وأوروبا لبناء رؤية استراتيجية مشتركة، إذ قال: «إنها يمكن أن تواجه النفوذ العالمي الصيني والأمريكي»، وتنبأ كاراغانوف «بأنه إذا لم تتمكن روسيا من تعزيز نفسها من خلال التحالف مع أوروبا، فإنها ستتراجع إلى ما هو أكثر قليلاً من مجرد مزود للموارد الطبيعية للصين، وفي نهاية المطاف ملحق سياسي لبكين»، المفارقة أن كاراغانوف تحول بعد سنوات من نبوءته إلى أحد منظري التوجه شرقاً في تحول راديكالي لم يقتصر عليه.

خلال هذه الفترة ضمت روسيا شبه جزيرة القرم وانخرطت في القتال في الساحة السورية وشنت «حرباً هجينة» غير معلنة ضد الغرب. خلقت هذه التحولات ديناميات جديدة للسياسة الخارجية الروسية، أحد جوانب محركاتها الطموح بإعادة توزيع النفوذ الجيوسياسي في العالم مستند إلى وعي موهوم بقدرات روسيا التي كانت في حقيقتها بعيدة عما يلزم لتحقيق هذا الطموح، وفي جانب آخر عمقت لدى النخبة الروسية شعوراً بأن الصراع مع الولايات المتحدة أمر لا مفر منه للحفاظ على روسيا.

التحول نحو آسيا

عام 2012 أصدر «نادي فالداي»، القريب جداً من الكرملين، تقريراً بعنوان «نحو المحيط العظيم، أو العولمة الجديدة لروسيا»، أشرف عليه ثلاثة من أبرز منظري السياسة الروس المقربين للكرملين، وهم: سيرغي كاراغانوف، تيموفي بورداشيف، أوليغ بارابانوف.

أكد مؤلفو التقرير على أهمية تحول روسيا نحو آسيا واختبار فرص الاقتصاد الروسي «للقبض على الرياح الصينية في أشرعتها» على حد تعبيرهم، ووضعوا هدفًا يتمثل في إعادة تشكيل الخطاب الجيوسياسي الروسي بتغيير النموذج الأوروبي المركزي للسياسة الخارجية والاقتصادية لروسيا إلى نهج أكثر توازناً يشمل قضايا آسيا، مجادلين بأن صعود الصين والأهمية المتزايدة لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ يضمر تحديات خطيرة للمصالح الروسية إذا لم تكيف روسيا حوامل تنميتها الاقتصادية مع الأوضاع الجديدة التي ستنتج عن تلك الاتجاهات، وعليه فإن الانفتاح على «آسيا الناشئة» واستخدام المزايا التنافسية الناجمة عن نمو آسيا وتعزيز جاذبية الاستثمار الأجنبي وخلق الحوافز للأفراد الموهوبين هي عناصر أساسية يجب تضمينها في السياسة الداخلية والخارجية لروسيا.

لا يمكن تحقيق ذلك بحسب التقرير إلا من خلال تطوير نهج مبتكر لإنعاش المناطق الشرقية (الأورال وسيبيريا) لروسيا، وتعزيز دورها في السياق الوطني والدولي. ولذلك، اقترح الثلاثة استراتيجية وطنية جديدة تقود إلى نموذج اجتماعي واقتصادي جديد وشامل يسمى العولمة الجديدة لروسيا، واعتبروه أمراً لا بد منه لاستئناف القوة الاقتصادية لروسيا وإعادة بسط نفوذها في العالم.

 اعتبر هؤلاء المنظرون أن التحول في تفكير السياسة الخارجية الروسية من التمركز المفرط حول أوروبا إلى الانفتاح على آسيا هو أمر طال انتظاره، لكنهم أكدوا على أن هذا لا بد أن يأخذ شكل «عولمة» السياسة الروسية بدلاً من «محور الشرق»، وهو ما يتطلب من روسيا العمل في مرحلة أولى على التكامل الأوراسي، غير هذا التحول لم يكن واضحاً في آلياته سواء المتعلقة بالتكامل الأوراسي أو نظرته إلى نشاط الصين والقوى الآسيوية الأخرى في آسيا الوسطى حيث يختلط الاقتصادي بالسياسي.

ما لبثت هذه التطلعات الطموحة للتوجه شرقاً أن اكتسبت زخماً جديداً نتيجة للصدام مع الغرب بعد احتلال روسيا شبه جزيرة القرم وتدخلها في شرق أوكرانيا في أعقاب ثورة الميدان عام 2014 لدعم كيانات انفصالية تهدد وحدة الأراضي الأوكرانية، وتضع وجود تلك الدولة بأسره على المحك، الأمر الذي نُظر إليه في روسيا على أنه رد فعل على خداع الولايات المتحدة لروسيا، معتبرين أن دعمها للثورة الأوكرانية هدفه الحقيقي إنهاء الوجود الروسي في أوكرانيا وتحويلها عبر ضمها إلى حلف شمال الأطلسي إلى تهديد أمني يضعف روسيا ويحتويها داخل حدودها.

نتيجة لذلك أسرعت روسيا في إنجاز التكامل الأوراسي عبر إنشاء الاتحاد الاقتصادي الأوراسي مع روسيا البيضاء وكازاخستان، ووقعت الدول الثلاث اتفاقيته في مايو/آيار 2014، ودخل حيز التنفيذ في يناير/كانون الثاني 2015، وانضمت أرمينيا وقرغيزستان إليه لاحقاً. ومن جانب آخر، تخلت روسيا عن نهج تعدد الشركاء في تنمية الشرق الروسي والتركيز بدلاً من ذلك على الشراكة مع الصين من خلال التعاون في التنمية المشتركة لآسيا الوسطى ومناطق الشرق الروسي بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بقيادة روسيا والمبادرة الصينية «الحزام والطريق» على أساس أن روسيا والصين شريكان متساويان.

بدا التحول الروسي في تركيز روسيا الاستراتيجي مدفوعاً برد الفعل على المواجهة مع الغرب مما جعله يفتقر إلى الجوهر،فلم يمتلك رؤية شاملة واستند إلى فرضيات لم يتم دراستها بشكل عميق. فكازاخستان فضلت صياغة شراكتها مع الصين منفردة بالرغم من النفوذ الروسي عليها. والصين لم تنظر إلى روسيا على أنها شريك مساوٍ لها، كما أن التنمية للشرق الروسي في الأورال وسيبيريا لم تحظَ بأولوية لدى الصين بالرغم من وجود اتفاقية «برنامج التعاون بين مناطق الشرق الأقصى وشرق سيبيريا لروسيا وشمال شرق الصين للفترة 2009-2018» التي وقعها دميتري ميدفيديف مع الرئيس الصيني الأسبق هو جينتاو. البرنامج ظل حبراً على ورق، ولم يتغير واقع الحال بتوقيع بوتين وشي جين بينغ على بروتكول جديد في مايو/آيار 2015 حول «تنسيق الجهود لربط الحزام الاقتصادي لطريق الحرير والاتحاد الاقتصادي الأوراسي»، حيث لم تقم روسيا والصين بأكثر من بناء جسر عبر نهر أمور.

لم يمنع ذلك من استمرار روسيا في تعميق علاقاتها مع الصين دون أن تنجح بإيصال هذه العلاقة إلى شراكة استراتيجية شاملة في كل أبعادها، بالرغم من ذلك يمكن رصد بعض النجاحات التي قطعت شوطاً في تأسيس أطر منتظمة للتعاون العسكري والأمني والاقتصادي في آسيا .

 بطبيعة الحال ظلت أسئلة كبرى في هذه العلاقة بدون إجابات من قبيل كيف يتناسب التفكير الاستراتيجي الروسي مع خطط بكين؟ ومواقع الانسجام والتناقض بين رؤية الصين لمبادرة الحزام والطريق ومفهوم روسيا الأوراسي ومكانتها فيه؟

إعادة النظر في الهوية الأوراسية لروسيا 

لم تكن الفكرة الأوراسية ذات التوجه الآسيوي محل إجماع داخل روسيا نفسها، في حين أن خبراء نادي فالداي حثوا الحكومة الروسية على تبني «مصير روسيا الآسيوي»، وزيادة المعرفة العامة والتعليم حول آسيا، إلا أن هناك آخرين كانوا يخشون من أن تبني الفكرة الأوراسية سوف يعني وضع روسيا كشريك صغير مع الصين بحكم الأمر الواقع، إذ حذر كورتونوف، رئيس مجلس الشئون الخارجية الروسية، من مغبة التخلي عن الهوية الأوروبية لروسيا لصالح هوية أوراسية جديدة تماماً، ما شأنه أن يؤدي إلى كارثة وطنية، مشدداً على أنه كلما «تعمقت روسيا في الاندماج مع آسيا، زادت الحاجة إلى تعزيز الطبيعة الأوروبية لروسيا والحفاظ عليها».

التحديث كان عاملاً آخر حد من التفاؤل الروسي بإمكانيات الهوية الأوراسية الجديدة على الحلول مكان العلاقات الخارجية لروسيا مع الاتحاد الأوروبي والغرب عموماً، فلا التكامل الأوراسي أو التعاون مع الصين قادران على منح روسيا الأدوات اللازمة للتحديث، حيث إن تعميق العلاقات مع الصين يمكن أن يساعد روسيا على تنويع أسواق تصدير الطاقة، ولكنه لن يقدم لروسيا التكنولوجيا الحديثة التي تلزم تحديث قاعدتها الصناعية وتطوير قدراتها التنافسية.

ما اتفق عليه الجميع تقريباً في روسيا هو أن توجه روسيا شرقاً سيجعلها في موقف تفاوضي أفضل مع الغرب، لكنهم اختلفوا على تقييم أبعاد هذا التوجه من حيث أهدافه ومخاطر مكونات هذه الهوية الأوراسية وشكلها.

رؤية جديدة بثلاثة محاور

مع تراجع التفاؤل الروسي بشأن التوجه نحو الشرق على أساس التنمية الاقتصادية أصبحت هناك حاجة إلى تطوير رؤية جديدة للسياسة الخارجية الروسية بثلاثة محاور: المحور الأول تمثل في إعادة إنتاج لهوية أوراسية مركزية برؤية جديدة فسرها كاراغانوف بأنها تعني «الاستقلال الأخلاقي والسياسي عن الغرب»، وفي ذات الوقت تساهم في «تعزيز المواقف في علاقات روسيا مع الغرب»، أي تجمع روسيا فيها بين علاقات تعاون وثيقة مع القوى الآسيوية الصاعدة مثل الصين والهند ضمن إطار منظمة شنغهاي للتعاون، بحيث لا يقتصر التوجه الشرقي لروسيا على أساس اقتصادي فحسب، بل تدمج فيه مهام أمنية وعسكرية وجيوسياسية جديدة تعزز مكانة روسيا في الفضاء الأوراسي. 

المحور الثاني قدمت فيه روسيا اقتراح إطار جديد للعلاقات الروسية الأوروبية على حساب العلاقات الأوروبية مع الولايات المتحدة التي راهن الروس على تراجعها التدريجي بعد سلسلة الإخفاقات التي منيت بها سياسات أمريكا الخارجية منذ عهد جورج بوش الابن. هدف الروس إلى تقديم بديل يشجع التطلعات الأوروبية الطموحة لإيجاد خيارات أوروبية بعيداً عن الشريك الأمريكي وحلف شمال الأطلسي. ولدعم هذا المحور، تبنت روسيا نهج القوة الهجينة عبر التدخل في الانتخابات الأوروبية وتمويل شخصيات وجماعات وأحزاب بمعظمها ينتمي إلى اليمين أو اليسار المتطرف ولا تتبنى نظرة سلبية تجاه أفعال روسيا في أوكرانيا، بل تروج للرواية الروسية وتوجد مبررات لها، بالإضافة إلى استخدام سلاح إمدادات الطاقة الروسية للاتحاد الأوروبي، وبالتحديد ألمانيا، بفعالية من خلال التوسع في مشاريع أنابيب الغاز التي نُفذت بالتعاون مع شركات أوروبية لزيادة حصة شركات الطاقة الروسية، وأبرزها غازبروم، من إجمالي إمدادات الطاقة، الأمر الذي سيزيد اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية.

المحور الثالث ركزت روسيا فيه على مراكمة رأس مال جيوسياسي دولي يتيح لها لعب دور وسيط أمني مستقل في مجال العلاقات الدولية. وقدم التدخل الروسي في سوريا 2015 فرصة كبيرة لعودة قوية لروسيا إلى الميدان الدولي، وسمح لها بكسر العزلة التي فُرضت عليها بعد التدخل في أوكرانيا واحتلال شبه جزيرة القرم. النجاح الروسي في منع تغيير النظام في سوريا منح المزيد من الثقة لتطوير تفاهمات واتفاقات مع دول منطقة الشرق الأوسط وتعميق علاقاتها مع دول رئيسية في الإقليم مثل إيران وتركيا وإسرائيل. كذلك وظفت روسيا موقعها في مجلس الأمن بقوة لفرض دور لها في كل تفاوض أو تسوية متعلقة بالإقليم. ولم تتوقف روسيا عند حدود إقليم الشرق الأوسط، بل بدأت توسع من حجم تدخلاتها في مناطق أخرى مثل أفغانستان ومالي. بذلك أصبح أحد الأهداف الرئيسة للسياسة الخارجية الروسية توظيف الوجود المتزايد لروسيا في المناطق التي تتواجد فيها للعب دور وسيط أمني مستقل.

القوة العسكرية والسيادة والتعددية القطبية

يوغسلافيا والعراق هما مثالان على الأحادية القطبية الأمريكية يستشهد بهما الروس كثيراً، حيث تجاهلت الولايات المتحدة سيادة هاتين الدولتين وتجاوزت القانون والأعراف الدولية لتحقيق مصالحها، والذي سمح للولايات المتحدة القيام بذلك هو استسلام العالم لمفهوم الأحادية القطبية في النظام الدولي التي تمثله الولايات المتحدة.

يفسر خبراء المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية التعددية القطبية من خلال منظور التدخلات العسكرية ونهاية «التوسع غير المقيد للمؤسسات الغربية». واستناداً إلى هذا التفسير فإن تدخلات روسيا في أوكرانيا وسوريا دليل على أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تحقيق أهداف سياستها الخارجية دون الأخذ بعين الاعتبار رأي القوى العظمى الأخرى الممتلكة لقوة عسكرية تمنع تحقق تلك الأهداف مما يعني نهاية الأحادية القطبية وظهور أقطاب متعددة في النظام الدولي، بكلام آخر العالم متعدد الأقطاب هو عالم القوة العسكرية التي تستحوذ على فضاء جغرافي وتعتبره مناطق نفوذ لها وتنظم الشئون الدولية من خلال عقد صفقات مع القوى العظمى الأخرى.

هذا المفهوم بنسخته الروسية مرتبط بفكرة السيادة، وهو ما عبر عنه بوتين في أحد تصريحاته: «نحن بحاجة إلى السيادة لحماية مصالحنا وضمان تنميتنا». وللقوة العسكرية الدور الأبرز في حماية هذه السيادة، لذلك ليس كل الدول لديها سيادة طالما أنها ليست قادرة على حمايتها، فبوتين يرى أن «الهند لديها السيادة […] وكذلك الصين […] هناك بلدان أخرى أيضاً، ولكن ليست كثيرة». ووفقاً لوجهة النظر هذه، فإن بلدان قليلة تتمتع بالسيادة، ما يعني ضمناً أنه يحق لروسيا انتهاك سيادة دول لا تعتبرها ذات سيادة وضمها إلى مناطق نفوذها.

نجاح روسيا في ضمها لشبه جزيرة القرم وتدخلها في سوريا وليبيا ومالي وازدياد نفوذها في أوروبا إلى جانب كونها قوة تتمتع بقدرة الردع النووي وقدرات عسكرية تقليدية كبيرة، وكذلك علاقاتها الوثيقة على مستويات متعددة مع قوى صاعدة مثل الصين والهند، وأخيراً وضع حدود لمجالها الجيوسياسي المتمثل في الفضاء الأوراسي، كل هذا ساهم في تراكم رأسمال جيوسياسي ضَخم من ثقة روسيا بقوتها، وبأحقيتها في أن تطالب بإعادة صياغة الترتيبات الدولية في ضوء عالم متعدد الأقطاب يعترف بها قطباً دولياً.

لم تنجح روسيا في انتزاع الاعتراف بها من بايدن كقطب دولي مساوٍ للولايات المتحدة في لحظة تاريخية رأى الروس فيها الولايات المتحدة تمر بلحظة ضعف استثنائية نجمت عن الاستقطاب غير المسبوق داخل المجتمع الأمريكي، والتداعيات الاقتصادية لوباء كوفيد، واهتزاز ثقة حلفائها في دورها ومكانتها في العالم نتيجة للقرارات التي اتخذها ترامب خلال رئاسته والأحداث الداخلية التي رافقت انتهاء ولايته وعملية انتقال السلطة، إضافة إلى الخروج الفوضوي للقوات الأمريكية من أفغانستان وانهيار مشروعها هناك.

أدى هذا الفشل إلى تكريس فكرة أنه لا مفر من المواجهة لانتزاع الاعتراف بمكانتها كقطب دولي. لتحقيق هذا الهدف الضخم، اختارت روسيا أوكرانيا كميدان للفعل وتغيير المنظومة الأمنية الأوروبية كهدف نهائي يفرض ضمناً الاعتراف.