ليس سهلًا أن تكون معارضًا في روسيا. ما بالك خلال حرب مقدسة يخوضها الجيش في أوكرانيا المجاورة دفاعًا عن بقاء الاتحاد الروسي نفسه، ووصولًا إلى إحياء آمال عودة الإمبراطورية السوفييتية؟

وبالنظر إلى التاريخ الحديث للحملات القمعية ضد أعمال الاحتجاج في روسيا، فإن هذا التحالف الواسع الذي يتشكل على ما يبدو ضد الحرب خارق تمامًا للعادة.

منذ غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا، اندلعت احتجاجات جماهيرية مناهضة للحرب في أكثر من 50 مدينة روسية. مقاطع الفيديو التي صورت الاحتجاجات تظهر أن المتظاهرين تعرضوا لاعتقالات شبه فورية، بعد الكثير من الضرب بالتأكيد، على أيدي شرطة مكافحة الشغب الروسية. 

حتى الآن، تظهر الأرقام غير الرسمية، التي نشرتها مجموعة مراقبة الاحتجاجات، أن أكثر من 5,800 شخص اعتقلوا في الأسبوع الأول من انطلاق العملية العسكرية في أوكرانيا، والأعداد تتزايد يوميًا مع استمرار المظاهرات.

الاحتجاج وصل النخب الموالية

الجديد هذه المرة أن لغة الاحتجاج تجاوزت التظاهر في الشارع، إلى روسيين بارزين من عالم الترفيه والأعمال والصحافة، وحتى السلك العسكري، خاطروا بكل شيء من أجل إدانة الحرب، وبينهم أطراف لم يكن يتوقع أن ينضموا إلى معارضة بوتين علنًا؛ إذ وقع علماء وصحفيون وأكاديميون خطابات تندد بالغزو، واحتج رياضيون روس على اندلاع الحرب في منافسات دولية.

الأخطر، أن المعارضة وصلت إلى النخبة العسكرية نفسها، بعدما نشر العقيد المتقاعد الجنرال ليونيد إيفاشوف رسالة مفتوحة إلى بوتين والمواطنين الروس يندد فيها بـ «سياسة بوتين الإجرامية المتمثلة في إثارة الحرب»، كما وصلت إلى مسؤولين حاليين، حيث اعتذر مندوب المناخ الروسي في الأمم المتحدة أوليج أنيسيموف عن الغزو خلال مؤتمر للأمم المتحدة.

إلينا تشيرنينكو، المراسلة الدبلوماسية المخضرمة لصحيفة كوميرسانت، تقول إنها ذهلت عندما علمت أن روسيا تغزو أوكرانيا بالفعل، بعدما كان أقصى ما تتوقعه أن تعترف موسكو باستقلال الأراضي الخاضعة لسيطرة الانفصاليين في شرق أوكرانيا.

تضيف: حتى صباح انطلاق الحرب، رفضت أن أصدق أن روسيا يمكن أن تشن عملية عسكرية واسعة النطاق ضد أوكرانيا، اعتقدت أن كل الحديث عن الغزوات كان هستيريا مروعة. جادلت مع الناس أنه لن يحدث شيء. الآن، ربما لم أعد أفهم أي شيء عن السياسة الخارجية الروسية.

وبعد أن أعلن بوتين العملية العسكرية، كتبت تشيرنينكو رسالة مفتوحة تدين الهجوم على أوكرانيا، وقع عليها ما يقرب من 300 صحفي، بمن فيهم ممثلو وسائل الإعلام الحكومية، ليكون الرد طردها من المجمع الدبلوماسي، الذي غطت أخباره لأكثر من 11 عامًا بدعوى «عدم الاحترافية».

وبينما حذرت الأوامر الرسمية الصحفيين والنوافذ الإعلامية غير الحكومية من «تجاوز الحد» في تغطية العملية العسكرية في أوكرانيا، تحدت صحف المعارضة هذه التعليمات واستخدمت كلمتي «حرب – غزو»، رغم تهديدات روسكومنادزور، منظم وسائل الإعلام في روسيا، بإزالة «المعلومات غير الدقيقة» أو المخاطرة بغرامات قاسية، ورغم اعتقال عدد من الصحفيين أثناء تغطيتهم للاحتجاجات.

نجوم رُوس ضد الحرب

كما تحدث ممثلون وموسيقيون روس مشهورون ضد الحرب في أوكرانيا علانية، ويبدو أنهم عوقبوا بسبب معارضتهم.

يوم الخميس، نشر إيفان أورغانت، مقدم برنامج حواري شهير على القناة الأولى التي تديرها الدولة، مربعًا أسود على إنستجرام، مع عبارة توضيحية تقول «الخوف والألم. لا للحرب». ومنذ ذلك الحين، لم يظهر أورغانت على الشاشة أبدًا. وبينما تقول القناة الأولى إنها مجرد مسألة جدولة، تؤكد العديد من التقارير في وسائل الإعلام الروسية أنه أدرج في القائمة السوداء.

إيلينا كوفالسكايا، مديرة مركز مايرهولد في موسكو، استبَقَت إضافتها إلى القائمة السوداء، فاستقالت من وظيفتها في المسرح الذي تموله الدولة، في عمل احتجاجي على الحرب. كتبت عن قرارها: «من المستحيل أن أعمل لدى قاتل وأحصل على راتبي منه».

كذلك، كتب يوري شيفتشوك، قائد فرقة الروك السوفييتية الكلاسيكية DDT: «مستقبلنا يُسلب منا. سحبونا عبر ثقب جليدي إلى الماضي، إلى القرون التاسع عشر والثامن عشر والسابع عشر. والناس يرفضون قبول هذا».

وبينما كان شيفتشوك معارضًا معروفًا للحروب عمومًا، فإن صوت الاحتجاج وصل لفئات كانت تتجنب الحديث في السياسة عمومًا، حتى نجوم البوب الذين كانوا يخشون خسارة شهرتهم، ومن بين هؤلاء النجوم فاليري ميلادزي، فضلاً عن المزيد من الفنانين ذوي التوجهات السياسية مثل مغني الراب أوكسيميرون، الذي ألغى طواعية ستة عروض كانت تذاكرها قد حجزت بالكامل في موسكو وسانت بطرسبرج، وكتب: «لا يمكنني الترفيه عنك عندما تسقط الصواريخ الروسية على أوكرانيا».

دائرة بوتين الضيقة

وبينما لم تكن التهديدات بفرض عقوبات اقتصادية شديدة كافية لردع فلاديمير بوتين عن غزو أوكرانيا، فإن التكلفة الباهظة على دائرة بوتين الضيقة من رجال الأعمال والنظام تركت أثرًا على ظهور المزيد من الاحتجاجات للعلن، بعدما بدأت البلاد تعاني من نقص السيولة، وسجل الروبل سقوطًا حرًا، ليطالب اثنان على الأقل من النخبة الذين استهدفتهم العقوبات شخصيًا بإنهاء الصراع، حتى لو لم ينددوا ببوتين صراحة.

الملياردير الروسي أوليغ ديريباسكا كتب: «السلام مهم جدًا! يجب أن تبدأ المفاوضات في أقرب وقت ممكن!». بينما كتب ميخائيل فريدمان، مالك الكونسورتيوم الذي يضم مصارف ألفا، والذي تعرض للعقوبات الأمريكية الأسبوع الماضي، أنه «مرتبط بشدة بالشعبين الأوكراني والروسي ويرى الصراع الحالي مأساة لكليهما». وأضاف فريدمان: «ستكلف هذه الأزمة أرواحًا وستدمر دولتين كانتا شقيقتين منذ مئات السنين. وبينما يبدو الحل بعيد المنال بشكل مخيف، لا يسعني إلا أن أنضم إلى أولئك الذين يبدون رغبتهم الشديدة في إنهاء إراقة الدماء». 

وبينما يعتبر مالك تشيلسي، رومان أبراموفيتش، أحد أقرب المقربين إلى بوتين، خرجت ابنته بمنشور عبر إنستجرام كان الأكثر قسوة بين رجال الرئيس؛ إذ قالت إن «الكذبة الأكبر والأكثر نجاحًا في دعاية الكرملين هي أن معظم الروس يقفون إلى جانب بوتين».

انضم إلى كل هؤلاء ميخائيل ماتفييف، عضو مجلس النواب الروسي، الذي يصنف باعتباره «ودودًا مع بوتين»، لكنه هذه المرة، دعا الكرملين إلى وقف الغزو.

مصير نافالني يُهدد الجميع

الاحتجاجات في روسيا ضد غزو أوكرانيا كانت خطيرة في توقيتها كذلك؛ إذ تجري مناسبتان كان يفترض أن يمثلا إنذارًا شديد اللهجة لمعارضي بوتين: تزامنت مع الذكرى السابعة لاغتيال السياسي المعارض البارز، بوريس نيمتسوف، الذي قتل على جسر قرب الكرملين عام 2015، ومع محاكمة المعارض أليكسي نافالني، المسجون حاليًا بعد تعافيه من تسمم بغاز الأعصاب يلقي باللوم فيه على الكرملين، والذي يواجه رسميًا تهمة الاختلاس، رغم تأكيد مراقبين أن المحاكمة سياسية.

ويعطي مصير نيمتسوف ونافالني نظرة ثاقبة لما يخاطر به المحتجون وشخصيات المعارضة البارزة في روسيا – من الاعتقال والاحتجاز والغرامات إلى أحكام السجن والاغتيالات.

وتعود المرة الأخيرة التي شهدت فيها روسيا نشاطًا احتجاجيًا بحجم يماثل ما يحدث حاليًا إلى ما بين عامي 2011 و2013، أثناء حملة إعادة انتخاب بوتين، حيث وصلت أعداد المشاركين إلى 120 ألفًا، وفق تقديرات المعارضة.

هذه المرة، يصعب الحصول على تقديرات موثوقة للمشاركين؛ إذ لا يتجمع المحتجون إلا لحظات قبل أن تتدخل الشرطة. لكن -للمقارنة- فقد وصلت أعداد المعتقلين من المظاهرة الرئيسية في ساحة بولوتنايا ضد تنصيب بوتين، والتي كانت الحدث الفارق في تجريم التظاهر في روسيا، إلى نحو 600 شخص، مقارنة بآلاف المعتقلين حاليًا.

تضييق الخناق

في السنوات التي تلت مظاهرات 2013، جرمت الدولة الروسية الاحتجاج بشكل متزايد. في يوليو 2012، وقع الرئيس الروسي بوتين قانونًا يلزم المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام والأفراد الذين لديهم مصادر تمويل أجنبي بالتسجيل كـ «عملاء أجانب».

ومنذ عام 2014، في سلسلة من القوانين والتعديلات المتعلقة بالتجمعات العامة، جرم نظام بوتين الحق في الاحتجاج بشكل كامل تقريبًا، وفرض قيودًا أكثر صرامة على من يمكنه تنظيم احتجاج، وأين يمكن للناس الاحتجاج ومتى.

ويعمل الجهاز السياسي الروسي على تفكيك حركات المعارضة بشكل منهجي، وخلق مناخ يُقابل فيه أي شكل من أشكال الاحتجاج بالقمع. يفسر هذا التاريخ المظلم لماذا كانت الاحتجاجات الحالية المناهضة للحرب صغيرة حتى الآن وأقل تنسيقًا وتشتتًا، لكنهم لم يفقدوا الزخم. في 28 فبراير مثلًا، دعت حركة نافالني إلى حملة عصيان مدني ضد الحرب.

لكن المعارضة الصاخبة والمتنامية لحرب بوتين في أوكرانيا تشير إلى أن المد قد ينقلب. ومع ذلك، فمن المرجح أن يأتي التغيير السياسي الهادف من النخبة السياسية والاقتصادية في روسيا عندما تبدأ في الوقوع تحت سيف العقوبات وعزلة روسيا عن المجال الدولي.

الهروب من التجنيد؟

وبعدما أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحشد قوات الاحتياط، يقول مختصون، إن آلاف الروس فروا يسعون لتجنب التجنيد الإجباري، بعضهم يحاول الوصول إلى الولايات المتحدة لطلب اللجوء السياسي لتجنب إجبارهم على القتال في الحرب مع أوكرانيا.

وقال محامو الهجرة الأمريكيون إنهم غارقون في طلبات الرجال الروس وعائلاتهم التي تسأل عما إذا كان بإمكانهم الحصول على الحماية السياسية بعد غزو بوتين.

وفي الأشهر الأخيرة، كان عدد قياسي من المواطنين الروس يعبرون الحدود إلى الولايات المتحدة من المكسيك لطلب اللجوء السياسي. لكن محامي الهجرة يتوقعون أن ترتفع الأرقام بشكل كبير بعد غزو بوتين لأوكرانيا، خاصة من الرجال في سن التجنيد.

وقالت إيكاترينا موراتوفا، محامية الهجرة الروسية الأمريكية، لصحيفة الديلي تلجراف: «لم نكن نشهد ازدحامًا بهذا الشكل من قبل. لكن العدد سيرتفع بشكل كبير. لقد تلقيت المئات من رسائل البريد الإلكتروني في الأيام القليلة الماضية. معظمها من الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و55 عامًا ويسألون عما إذا كان بإمكانهم الحصول على الحماية من الولايات المتحدة إذا أمرت روسيا بتجنيد عسكري إلزامي. هؤلاء الناس لا يريدون الذهاب إلى الحرب».

وارتفع عدد المواطنين الروس الذين ألقي القبض عليهم على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة مع المكسيك من 467 في عام 2020 إلى 9736 في عام 2021.

والآن، تقول موراتوفا إن مكتبها يتعامل بالفعل مع عشرات الأشخاص الذين سافروا جوًّا إلى المكسيك أسبوعيًا من روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا المجاورة، حيث سلكوا بعدها الطريق إلى أمريكا، وسلموا أنفسهم إلى حرس الحدود الأمريكيين مطالبين باللجوء السياسي لتجنُّب خوض حرب بوتين.