تتزامن العودة الروسية إلى التورط النشط في الشرق الأوسط مع انسداد أفق التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، ونضوج الوضع نسبيًا لإيجاد صيغة للتقارب بين طرفي الانقسام الفلسطيني، فتح وحماس، الأمر الذي أوجد نقطة لتقاطع مصالح الفرقاء الفلسطينيين مع بعضهم من ناحية ومع موسكو من ناحية أخرى، ليُنتج في النهاية مشهدًا لاجتماع الفصائل الفلسطينية في موسكو بحثًا عن صيغة للتفاهم وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وهو المشهد المسبوق بآخر قريب العهد، حين استضافت موسكو جولة للتفاهم الفلسطيني–الفلسطيني عام 2011.


إعادة تموضع موسكو

خلال السنوات القليلة الماضية، بدت بوادر توجه إستراتيجي جديد في الولايات المتحدة يدفع باتجاه تقليل التورط الأمريكي في الشرق الوسط، فيما يشبه انسحابًا تدريجيًا وإن لم تكن هناك نية للمضي فيه حتى النهاية. فرؤية الولايات المتحدة لنفسها ودورها العالمي كقوة عظمى –بغض النظر عن اختلاف الإدارات الديمقراطية والجمهورية المتعاقبة- تمنعها من الانسحاب الكامل وإدارة ظهرها لأي إقليم، خاصة الشرق الأوسط بما هو موطن لمصالح إستراتيجية أمريكية تاريخية.

لكن صعود أقطاب دولية جديدة –آسيوية بالأساس– كالصين والهند، فرض على الولايات المتحدة إيلاء اهتمام أكبر للاشتباك مع الصعود الآسيوي، وإن استلزم تقليل عمق تورطها في الشرق الأوسط دون نزع أيديها منه.

وجدت الإدارة الروسية البوتينية الُمغامِرة نفسها أمام فرصة تاريخية نادرة لاستعادة دور تاريخي مفقود في الشرق الأوسط.

وإذ ذاك تجد الإدارة الروسية البوتينية الُمغامِرة نفسها أمام فرصة تاريخية نادرة لاستعادة دور تاريخي مفقود في الشرق الأوسط، لا يتيح لها بالضرورة تبادل الأدوار مع الولايات المتحدة في المنطقة، وإنما يمنحها على الأقل فرصة الندية في الاشتباك مع قضايا الإقليم أمام الولايات المتحدة.

وهكذا راحت موسكو تتقدم لملء كل مساحة فراغ تنشأ عن ترجمة التوجه الأمريكي الجديد على الأرض، فبدا واضحًا دورها القيادي في مكافحة التنظيمات المتطرفة الناشئة من رحم الحرب الأهلية السورية، كما لم تُخفِ تلهفها وترحيبها بتعزيز صلاتها مع مصر، وإن كان يبعد عن الظن إغفالها لاحتمال كون مساعي التقارب المصري معها تتم في إطار مناورة مصرية للإدارة الديمقراطية الأمريكية الراحلة.

مؤخرًا وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تستكشف موسكو إمكانيات لعب دور أكبر في قضية الشرق الأوسط المركزية بكل تعقيداتها، وهي قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فقبل أربعة شهور تقريبًا أبدت روسيا استعدادها لاستضافة مباحثات بين القيادتين الفلسطينية والإسرائيلية لاستئناف التفاوض حول تسوية نهائية للصراع، غير أن إسرائيل لم تبد ترحيبًا بالدعوة الروسية كونها روسية خالصة لا تتم في إطار دولي مثل الرباعية الدولية، ولا تتضمن مشاركة الولايات المتحدة وهي سندها الأكبر.

أما القيادة الفلسطينية فقد أبدت ترحيبًا شابه الفتور نوعًا ما، ولعل السبب في ذلك تفضيل القيادة الفلسطينية للمألوف من التفاوض برعاية أمريكية أو غربية بالأساس، بالرغم من العقم البادي لهذا المسار، كونها تدرك أن الوجه الآخر لحقيقة كون الولايات المتحدة الداعم الأكبر لإسرائيل هو أنها من يملك أقوى الأوراق للضغط على إسرائيل، ومن ثَمَّ فهي الأكثر جدارة وتأهلًا لرعاية تسوية ما وضمان التزام إسرائيل بها.


توغل في عمق الشأن الفلسطيني

لم تكتف موسكو بعرض وساطتها بين طرفي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وإنما قررت تعميق توغلها في هذا الشأن ومد الخط على استقامته، إذ رعت بشكل غير رسمي –من خلال معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية– لقاءً في منتصف الشهر الجاري، يناير/كانون الثاني 2017، جمع مسئولين من قطبي الخلاف الفلسطيني، حركتي فتح وحماس، إلى جانب مسئولين من فصائل فلسطينية أخرى ذات وزن، لبحث إمكانيات المصالحة وتشكيل حكومة وحدة وطنية، في خطوة ربما تفلح في إنهاء الانقسام الحمساوي الفتحاوي الذي يدخل عامه العاشر.

بعد تورطها في سوريا، ربما تسعى موسكو إلى تبييض وجهها عبر بوابة القضية الفلسطينية، سواءً عبر ملف المصالحة أو قضية السلام مع الإسرائيليين.

وربما كان ثمة دافع آخر -مرتبط أيضًا بجهود إعادة التموضع الروسي في المنطقة- وراء اهتمام روسيا بملف المصالحة الفلسطينية، ذلك أن إستراتيجية إعادة التموضع والمصالح الروسية مع نظام بشار الأسد في سوريا قد ورطت موسكو في مستنقع الحرب الأهلية السورية، فلم تتردد في قصف مناطق سيطرة المعارضة السورية المسلحة غير مبالية بحياة المدنيين السوريين، الأمر الذي صدّر انطباعًا بأنها ترتكب مجازر تستهدف الشعب السوري لا المعارضة المسلحة، ووضعها في مواجهة تهديدات انتقامية كان آخرها مقتل سفيرها لدى أنقرة، حيث أفصح القاتل صراحة عن دوافعه المتمثلة في الانتقام لشهداء سوريا –حلب تحديدًا– من المدنيين.

من ثَمَّ ربما تكون موسكو قد قررت تبييض وجهها عبر بوابة القضية المركزية في المنطقة، وهي القضية الفلسطينية، سواءً عبر رعاية مفاوضات فلسطينية إسرائيلية، أو رعاية لقاءات مصالحة بين الفرقاء الفلسطينيين، مستفيدةً من تمتعها بالوقوف على مسافة متساوية من أطراف الانقسام الفلسطيني –وهو ما لا تتمتع به الولايات المتحدة التي ترفض بحزم التعامل مع حركة حماس–، ومستفيدة ربما من الإخفاقات المتكررة للجهود العربية لرعاية المصالحة الفلسطينية، بسبب تشكك أطراف الانقسام في بعض الدول العربية الفاعلة في الملف؛ مثل موقف حركة حماس من النظام المصري وموقف حركة فتح والسلطة الفلسطينية من قطر.


مصالح الفرقاء تتلاقى

في الوقت الراهن، يبدو كلا طرفي الشقاق الفلسطيني –فتح وحماس– أميل للتهادن وأكثر استعدادًا لتليين التصلب في المواقف، فالسلطة الفلسطينية/الفتحاوية تشعر بأنه لن يكون هناك اختراق قريب أو انفراجة في مسار التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي، وترصد جيدًا مدى ارتياح الحكومة الإسرائيلية لإدارة ترامب، وإدراكها غياب أي نية لدى الأخيرة للضغط على إسرائيل لتقديم أي تنازلات.

ومن ثَمَّ فربما كانت بحاجة إلى اختراق في ملف المصالحة الوطنية، علّه يُحسّن صورتها في الشارع الفلسطيني، ويُشكّل ورقة مساومة في مواجهة الإدارتين الإسرائيلية والأمريكية، اللتين لا ترتاحان بالقطع لأي تقارب بين طرفي الانقسام الفلسطيني، لا سيما إن تمخّض عن تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم في عضويتها حماس وتنظيمات المقاومة المتمسكة بالسلاح، تكون أكثر قدرة على تلافي الانقسام مرة أخرة وتجد صيغة وآليات للتوافق.

أما حماس فقد ساءت علاقاتها الإقليمية كثيرًا خلال سنوات ما بعد الربيع العربي، خاصة مع النظام المصري الذي كانت تبدي بعض الثقة لرعايته جولات التفاهم والمصالحة مع فتح، والذي يتمسك بموقفه المتصلب منها منذ الإطاحة بحكومة الإخوان المسلمين في 2013.

كما وضعت الثورة السورية حاجزًا بينها وبين نظام الأسد ذي التاريخ الطويل والدموي من الخصومة مع الإسلاميين وفي القلب منهم حركة الإخوان المسلمين وحماس أحد روافدها، فغادر رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل دمشق دون عودة في 2012، وانعكس ذلك بطبيعة الحال على علاقات الحركة بطهران.

وربما تجد حماس بعض التعويض في علاقتها مع حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، لكنه تحالف لا تطمئن له حماس إلى آخر الخط، إذ لا تضمن تطورات الحوادث في تركيا نفسها –والتي شهدت محاولة انقلاب عسكري منتصف العام الماضي 2016– وربما تتخوف الحركة من مساومة تركية مع الغرب تكون هي ضحيتها، خاصةً وأن التقارب والتفاهم النسبي بين أنقرة وموسكو خلال العام الماضي أفرز تحولاً في موقف الأولى من دعم التنظيمات الإسلامية المتشددة المحاربة لنظام الأسد في سوريا.

ولئن كانت رعاية تركية ما لجهود المصالحة بعيدة عن احتمالات النجاح، كون أنقرة تصطف مع معسكر إقليمي مناوئ لمعسكر السلطة الفلسطينية/الفتحاوية، ومن ثم فهي تُعد فتحاويًا أقرب إلى وضع الخصم لا الحكم –والأمر ذاته ينطبق على قطر- فإن موسكو لا تتحمل التهمة ذاتها وربما تتمتع بالقبول من جانب طرفي الانقسام الفلسطيني،فعلاقتها بحماس جيدة للغاية منذ تشكيل الحركة للحكومة الفلسطينية في 2006.

وإن كانت روسيا تُصنف حركة الإخوان المسلمين المصرية كحركة إرهابية، فهي لا تسحب الأمر نفسه على حماس، والأخيرة بدورها متعطشة لأي اعتراف دولي أو جسور لصلاتها بالعالم الخارجي.


أفق الجولة

وجدت فتح نفسها في حاجة إلى اختراق في ملف المصالحة الوطنية، علّه يُحسّن صورتها في الشارع الفلسطيني، ويُشكّل ورقة مساومة أمام الأمريكان والإسرائيليين.

في 17 يناير/كانون الثاني الجاري،اتفق ممثلو الفصائل الفلسطينية المجتمعة في موسكو على تشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء انتخابات تشريعية لتشكيل مجلس وطني جديد. ولئن أفلحت هذه الجولة في إفراز تفاهم فلسطيني–فلسطيني قابل للحياة والاستمرار وإحداث تحول على الأرض، فسيكون الفضل في ذلك عائدًا إلى حاجة طرفي الانقسام للتقارب، كل لأسبابه ودوافعه، وليس للرعاية الروسية في حد ذاتها.

لكن حال نجاح الجولة والمضي في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه خلالها، سيتذكر الجميع أن هذه مخرجات «اجتماع موسكو»، وسيتعزز دور الأخيرة كطرف قادر وفاعل في ملفات المنطقة، وربما تكرر التجربة ذاتها في مناطق الانقسامات مثل ليبيا أو اليمن.