فجأة… أصبح السلام خياراً استراتيجياً!

من الذي جعله خيارنا الوحيد؟

هل بإمكان شعوبنا أن تُقيم ذلك السلام الذي حصلت عليه؟

وهل كنا نملك أي خيارات غيره؟ وهل نملكها الآن؟

وهل كان السادات العبقري الذي سبق زمنه؟ أم خائناً لوطنه؟


السادات: من يُمثّل؟

منذ ولادة ذلك الكيان الصهيوني ونحن في عداء مطلق معه؛ شعوباً وجيوشاً، تحدث خيانات وتنازلات وحروب وانتصارات وهزائم، ويظل العداء هو الثابت الوحيد.

كان الحكام العرب بعضهم يبغض ويعادي إسرائيل للأسباب المعروفة؛ فهو كيان محتل وغاصب للأرض، متطلع للاستيلاء على الدول المجاورة. وكان بعضهم يبغضها ويعاديها لأن فقط الشعوب العربية والإسلامية تكرهها، ومهما كانت قوة وبطش الحاكم العربي، فإنه يخشى أن يُتهم بالخيانة والعمالة من قبل مواطنيه أو من دول عربية وإسلامية أخرى تُعادي إسرائيل. فكأنما عداء إسرائيل هو وسيلة لكسب شرعية الحكم وإرضاء العوام وتوحيد المعارضة في الداخل.

وكان بعضهم وإن لم يُرد معاداة إسرائيل في قراره نفسه، فإنه لا يجرؤ على إعلان ذلك، خوفاً من عداء الدول العربية والإسلامية له، فيخسر بالتالي مصالحه الأكبر معهم. استمر ذلك الوضع الى أن ذهب السادات في ذلك اليوم الأسود من تاريخ أمتنا 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1977م، لزيارة إسرائيل فجأة ودون استشارة أحد أو أخذ رأي المصريين في ذلك.

يقول السادات في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي: «وسبق أن أعلنت من قبل، لم أتداول في هذا القرار مع أحد من زملائي وإخوتي رؤساء الدول العربية، أو دول المواجهة، ولقد اعترض من اتصل بي منهم بعد إعلان القرار، لأن حالة الشك وفقدان الثقة بين الدول العربية والشعب الفلسطيني من جهة وبين إسرائيل من جهة أخرى لا تزال قائمة في كل النفوس».

الرجل مستعد أن يذهب الى أخر العالم وإلى الكنيست ذاته، ويُذيب الحواجز الحربية والنفسية بيننا وبين إسرائيل لكي يقف أمامهم ويخبرهم أنني لم استشر أحدا من قومي، لا حكومتي ولا شعبي ولا حتى رؤساء الدول العربية، وأن ما أقوله لكم هي أفكاري أنا وحدي، وأنني الوحيد الذي يرى ذلك صواباً، من يُمثّل إذن هذا الرجل؟ هو لا يمثل إلا نفسه، كيف لم تخبره عبقريته الرائعة تلك أنه سيتم اغتياله لا محالة!


هل كان السادات خائناً حقاً؟

اختلفت الآراء كثيراً حول السادات بدايةً من اتهامه بالخيانة والعمالة لإسرائيل، إلى وصفه بأنه العبقري الذي سبق عصره وحقق السلام الدائم، ولكن الموضوعية والأمانة تحتم عدم وضع الرجل في أي من الكفتين. فالحكم على السادات بالذكاء سذاجة لا تنطلي على أحد، ورغم ذلك لا ننكر أنه كان ماهراً وخبيثاً في الداخل، واستطاع خداع العديد من أبناء وطنه ووزرائه ومساعديه، واستطاع التخلص من مراكز القوى الناصرية، وأحكم قبضته على البلاد بمهارة وحنكةـ إلا أن المُطّلع على تاريخ الرجل وقراراته لابد أن يحكم عليه بالغباء كبقية الرؤساء المصريين.

ولكن النقطة الأكثر شيوعاً هي الخيانة، وفي اعتقادي أيضا أن السادات لم يكن خائناً لوطنه بالمعنى الحرفي. وهنا نُفرّق بين أمرين الخيانة الكاملة من حيث التجسس والعمل لحساب العدو، وبين ارتكاب فعل الخيانة فقط، فارتكاب فعل الخيانة لا يحكم على الرجل بأنه خائن، وتُعَرف الخيانة اصطلاحاً بأنها «عمل من اؤتمن على شئ بضد ما اؤتمن لأجله، بدون علم صاحب الأمانة».

يمكننا إذن القول بأن السادات ارتكب «فعل الخيانة» عن غرور وتكبر واستعلاء بالرأي على المصريين والعرب جميعاً، وأنه لم يكن خائناً تماماً بمعنى الجاسوسية والعمالة، والحقيقة المؤسفة هي أن كل رؤساء مصر بلا استثناء تقريباً ارتكبوا «فعل الخيانة» هذا، بسبب سلطاتهم المطلقة، فمن الظلم إذن اتهام السادات وحده بالعمالة إذا كنا بصدد التعميم على من يعقد الاتفاقات وحده سراً في الخفاء.


هزيمة سياسية كاملة

قال السادات أيضاً في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي: «إنني لم أجيء إليكم لكي أعقد اتفاقاً منفرداً بين مصر وإسرائيل، ليس هذا وارداً في سياسة مصر، فليست المشكلة هي مصر وإسرائيل، وأي سلام منفرد بين مصر وإسرائيل، أو بين دولة من دول المواجهة وإسرائيل، فإنه لن يقيم السلام الدائم العادل في المنطقة كلها. بل أكثر من ذلك، فإنه حتى لو تحقق السلام بين دول المواجهة كلها وإسرائيل بغير حل عادل للمشكلة الفلسطينية، فان ذلك لن يحقق أبداً السلام الدائم العادل الذي يلح العالم كله اليوم عليه».

إذن كان السادات يخطط لمبادرة تصنع سلام شامل بين الدول العربية كلها وبين إسرائيل، وتتوصل لحل عادل للمشكلة الفلسطينية، ولكنه بعد عامين من المفاوضات أوصلنا إلى كامب ديفيد، والتي هي العكس تماماً مما قال «اتفاق منفرد بين مصر وإسرائيل».

لم يقم أي سلام دائم أو شامل في المنطقة، ولم يصل إلى أي حلول بشأن القضية الفلسطينية، وعزل مصر عن بقية الدول العربية التي ساعدتها في حرب أكتوبر/تشرين الأول، واتُهمت مصر بالخيانة من الدول العربية في الخارج.

إذن لم تحصل شعوبنا على أي سلام، كل ما حدث هو خروج أكبر دولة عربية مؤثرة في الصراع العربي الإسرائيلي من دائرة القتال، وهذا في رأيي «هزيمة سياسية كاملة». ولكي أوضح تلك النقطة فلنضرب نفس المثال من الناحية الإسرائيلية للانتصار السياسي والذي تم بناءه على تلك الزيارة المشئومة.

يقول «إيجال آلون»، قائد وحدات البالماخ وعمليات الهاجاناه ووزير التعليم والثقافة ونائب رئيس الوزراء الأسبق، في كتابه «بناء الجيش الإسرائيلي»، والذي كتبه في عام 1969م، في ذروة الانتصار الإسرائيلي على الدول العربية:

هذا يعتبر انتصاراً سياسياً لإسرائيل، ففي أواخر السبعينات حققت أعظم مما كانت تخطط له في أواخر الستينات؛ حققت الردع العسكري واحتفظت بقدراتها العسكرية متطورة ومتنامية، ومع ذلك حققت سلام مع أقوى دولة من دول المواجهة، وأيضاً انتزعت الأمل في النصر عليها من عقول أغلب الحكام العرب، في حين صار لنا السلام خيار استراتيجي، وضعفت قدراتنا العسكرية، وانتهى الخيار العسكري من خطابنا الإعلامي تماماً، وأطلقنا على وزارة الحربية مسمى «وزارة الدفاع».


خيارات السادات

من الجوهري لتحقيق السلام انتزاع الأمل الواهم في النصر من عقول العرب مرة وإلى الأبد. وأعتقد أنه لتحقيق هذا الهدف ينبغي توجيه أكثر الجهود السياسية نشاطا وواقعية من جانب إسرائيل نفسها وجميع الدول الأعضاء في المنظمة الدولية الذين يريدون سلاماً في الشرق الأوسط. وإني أعترف بأن عقد صلح مع إسرائيل قد يكون بالنسبة للزعماء العرب لأسباب سيكولوجية وعاطفية، مهمة شاقة، ومع ذلك قد يتضح أنه أروع إنجاز لهم، فما الذي يمكن أن يكون أروع من التغلب على الكبرياء الكاذب من أجل هدف عظيم كالسلام!

الحقيقة أن السادات جلب لنا أسوأ الخيارات، فلقد كان أمامنا خيارين آخرين كلاهما أفضل من الواقع الحالي.

الخيار الأول هو الخيار العسكري المطلق، وعداء إسرائيل تماماً، ومحاربتها بالقوة العسكرية حتى تحرير كامل الأرض العربية، وهو اختيار صعب في الواقع، ولا أحد يستطيع إنكار ذلك، ولكننا فقط نقول أنه كان ممكنا رغم صعوبته وليس مستحيلاً على الإطلاق.

وقدّم لنا الفريق سعد الدين الشاذلي صاحب أروع تخطيط وانتصار على إسرائيل في تاريخنا، هذا المقترح في كتابه «الخيار العسكري العربي»، والذي هو ممنوع من النشر في مصر وأغلب الدول العربية. كتبه في منفاه الاختياري في الجزائر عام 1984م، وحدد فيه بدقة شديدة وبأرقام وحسابات واضحة ميزان القوى العسكري بيننا وبين إسرائيل، بل وتناول أيضا حساب ميزان القوى الاستراتيجي ولا يخفى على أحد أن الميزانين كانوا في صالحنا تماماً في ذلك الوقت، ولكن يمنع تحقيق ذلك الانتصار التشرذم والفرقة العربية، والتي كان السادات مسئول عن جزء كبير منها بسبب السلام المنفرد.

فيقول الشاذلي في كتابه:

إن الوطن العربي يمتلك كل عناصر الوحدة، ولكنه في نفس الوقت مصاب بجميع أمراض التجزئة. إنه يملك وحدة اللغة والدين والثقافة والتاريخ والقيم والعادات، ولكنه أيضاً يقاسي من ثلاثة أمراض خطيرة؛ المرض الأول هو اختلاف الأيدولوجيات السياسية، المرض الثاني هو الخلل في توزيع الثروات الطبيعية، أما المرض الثالث فهو الطموحات الشخصية.

فكان الرجل يقول أنه بافتراض الوحدة، أو على الأقل التنسيق من أجل حرب إسرائيل، في حال علاج تلك الأمراض ولو جزئيا، سنكون قادرين عملياً وفعلياً على سحق إسرائيل والاستمرار في الخيار العسكري وحده.

ورغم كل ذلك ورغم تاريخ الرجل العسكري الطويل، فلم يهملالخيار الأخير؛ وهو السير في خط متواز بين الخيار العسكري وخيار السلام، فقال في نفس الكتاب:

كنت ولا زلت أؤمن بأن الخيار العسكري هو الخيار الوحيد الذي يمكن عن طريقه أن يسترد العرب أرضهم وكرامتهم، ومع ذلك فإني لا أعترض على طرح الخيار السياسي الذي يُعبّر عن آمالنا في تحقيق سلام عادل ودائم لشعوب المنطقة، ولكن قبول الطرح السياسي شئ وإسقاط الخيار العسكري شئ آخر. ولا أستطيع أن أتصور مطلقا أن إسرائيل يمكن أن تتصدق على العرب وتعيد لهم أرضهم وأموالهم التي نهبتها منهم وهي طاعية مختارة، إلا إذا تأكدت من أن العرب لن يلجأوا إلى العنف كوسيلة أخيرة، إذا فشلت جميع جهودهم السياسية، كما وإني لا أستطيع أن أتصور مطلقا أن أي خيار سياسي يمكن أن يكتب له النجاح، إذا لم يكن يسير في خط متواز مع خيار عسكري.

والمؤسف أن هذا هو الخيار الذي حقق لإسرائيل النصر السياسي الذي تمنته طويلاً، وهو أيضاً خيار كل الدول القوية المنتصرة، فلا داعي للعيش في الأوهام عزيزي القارئ. الحقيقة الواضحة كالشمس هي أن زيارة السادات لإسرائيل لم تجلب لنا غير ذلك السلام القائم على القهر والذل، وإن إدراك هذه الحقائق من جانب شعوبنا هي الخطوة الأولى لتغييره.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.