للاحتلال الفرنسي في الجزائر صفحات سوداء مليئة بالدم، ولا يكاد التقويم يخلو من ذكرى مجزرة فرنسية ارتكبت في حق الجزائر. وما يجمع تلك الجرائم كلها أنها جميعًا مرت من دون عقاب أو اعتذار، فمع كل ذكرى سنوية لمجزرة فرنسية يتعنت الفرنسيون أكثر في تقديم الاعتذار عما فعلوه، أو حتى الاعتراف بالأرواح التي أبادوها. لكن ما يميز مجزرة ساقية سيدي يوسف، أن الطائرات الفرنسية لم تُفرّق بين التوانسة والجزائريين، ولا بين حدود تونس والجزائر.

بلدية ساقية سيدي يوسف تقع على الحدود الجزائرية التونسية، بين بلدة لحدادة الجزائرية ومدينة كاف التونسية. موقعها الوسط جعلها منطقة استراتيجية لجيش التحرير الجزائري كي يستخدمها لعلاج مصابيه واستقبال جرحاه، وأحيانًا موقعًا لإصلاح بعض الأسلحة التي تعطلت. وكان التوانسة يمدون المقاتلين بالطعام واللوجيستيات عبر تلك المنطقة.

الفرنسيون أدركوا الأمر فحاولوا مرارًا استفزاز المنطقة لمنعهم من تقديم العون لمقاتلي جيش التحرير، لكن من دون فائدة. تبع تلك الاستفزازات قرار من وزير الدفاع الفرنسي بملاحقة مقاتلي الجزائر حتى لو دخلوا تونس. لذا بات الجيش الفرنسي يمتلك شرعية منحها لنفسه بمهاجمة البلدة التونسية بذريعة وجود جزائريين، وبالفعل تلّقت البلدة أول ضربة عسكرية في سبتمبر/ أيلول 1957.

وبعد 4 أشهر تلقت البلدة الضربة الثانية عقابًا لإسقاط مقاتلي الجزائر طائرة فرنسية، فقرر الفرنسيون معاقبة الساقية لدعمها الثورة الجزائرية. لكن أراد الفرنسيون أن يكون العقاب هذه المرة موجعًا، فاختاروا له يوم سبت كي يوافق السوق الأسبوعية للساقية، حيث يجتمع كل سكانها تقريبًا.

السوق والمدرسة في قلب الهجوم

السبت أيضًا هو موعد تسليم الهلال الأحمر التونسي والصليب الأحمر العالمي المساعدات للاجئيين الجزائريين المقيمين في القرية. لذا ففي يوم السبت يكثر حضور الجزائريين والتونسيين، وبناءً على ذلك حدد الفرنسيون يوم العقاب. وفي يوم السبت 8 فبراير/ شباط 1958، هاجمت قرابة عشرة أسراب من الطائرات الفرنسية بلدية ساقية سيدي يوسف.

الهجوم بدأ من وسط المدينة، ثم طال المدرسة الابتدائية التي لجأ إليها معظم سكان القرية، ظنًا أنهم سيكونون بأمان حين يحتمون بمبنى مسالم ومحايد كالمدرسة. بعد قصف المدرسة أدرك السكان أنه لا مكان آمن فتوقفوا عن التحرك في الأرجاء، ولم تخيب الطائرات الفرنسية ظنهم. فجميع المباني الحكومية طالها القصف، والعديد من المحال التجارية والمنازل تدمرت. كذلك فتحت بعض الطائرات الفرنسية نيرانها على من حاول الهرب من الأهالي. كذلك تعرض الصليب الأحمر ورجاله للهجوم.

أسفرت المجزرة عن إصابة 130 فردًا، ومقتل 70 شخصًا، في أقل التقديرات. ولم يتم تقديم أرقام دقيقة حتى اليوم لما حدث في المجزرة، ولا عن أرقام القوات الفرنسية المشاركة، فلم يحدث أي تحقيق فرنسي أو دولي في المجزرة. لكن وفق العديد من الشهادات المسجلة من الطرفين، الفرنسي والجزائري، فقد شارك في الهجوم قرابة 27 طائرة مقاتلة فرنسية من طراز بي 2. تلك المقاتلات تحمل قنابل تزن كل قنبلة 250 ألف كيلو جرام. ولمدة ساعة كاملة استمرت تلك الطائرات في إلقاء حمولتها من القنابل على مناطق متفرقة من البلدة.

في وقت الهجوم كان الإعلام الفرنسي يمارس دوره في المجزرة، فقد أُذيع بيان يؤكد أن الجيش الفرنسي يُدمر مراكز للثوار الجزائريين على بُعد 1.5 كيلو متر من ساقية سيدي يوسف. لكن صور الصحافيين التوانسة والفرنسيين التي نُقلت بعد انتهاء الهجوم بساعات كشفت عن كذب البيان الفرنسي، فالقرية قد أُبيدت بالكامل بأطنان من القنابل. وأن السوق الأسبوعي للقرية والمدرسة الابتدائية المكتظة بالطلاب كانا في مركز الاستهداف، ولم يصابا بالقنابل عشوائيًا. كما لم ينقل أي صحافي فرنسي خبرًا أو صورة عن وجود مركز للثوار الجزائريين في البلدة، أو صورة لذلك المركز محطمًا بالقنابل.

فرنسا دائمًا في قفص الاتهام

 النتيجة المؤكدة للمجزرة أنها وحدّت المصير التونسي والجزائري بمزج الدميّن معًا. فأصدرت جبهة التحرير الوطني الجزائرية بيانًا أعربت فيه عن دعمها الشعب التونسي، وعن استعدادها للتعاون مع القوات التونسية لصد أي اختراق آخر محتمل من قبل الجيش الفرنسي. كذلك فإن المجزرة تركت شعورًا عميقًا لدى الجزائريين بمسئوليتهم عما حدث للقرية وضرورة تعويضها. لذا بين الحين والآخر في ذكرى المجزرة يصدر قرار جزائري متعلق بالساقية، مثل ما حدث عام 2019 حين أصدرت الحكومة الجزائرية قرارًا بإمداد البلدية بالغاز الطبيعي.

بورقيبة، الرئيس التونسي آنذاك، طرد السفير الفرنسي. ورفعت تونس شكوى لدى مجلس الأمن. نجحت الشكوى في انتزاع اعتراف دولي بالمجزرة الفرنسية، لكن من دون إصدار أي عقاب على الفرنسيين. العقاب أصدره التونسيون أنفسهم، فرغم أن تونس في تلك الفترة كانت مستقلة بالفعل، فإن القوات الفرنسية احتفظت بتمثيل عسكري لها على الأراضي التونسية. لكن بعد المجزرة خرج التونسيون في مظاهرات عارمة في مختلف المدن التونسية تطالب بجلاء الفرنسيين.

حاولت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا التوسط بين فرنسا وتونس لتهدئة الأمور، ولإثناء تونس عن المطالبة بجلاء الفرنسيين، لكن كان الغضب الشعبي قد خرج عن السيطرة. كما أن فرنسا المرتبكة من وجودها في قفص الاتهام أمام العالم أجمع لم تستطع أن تخفي جرائمها في حق الجزائريين أكثر من ذلك، فبدأت الأضواء تُسلط من جديد على الانتهاكات الفرنسية في حق الجزائر وشعبها.

وبحسب شهادة الطاهر الزبيري في كتاب آخر «قادة الأوراس التاريخيين»، فإن المجزرة كان دافعها في الأصل هو الانتقام. ففي يناير/ كانون الثاني 1958 هاجم الثوار الجزائريون بقيادة الرائد الطاهر الزبيري، الذي أصبح قائدًا للأركان فيما بعد، على ثكنة فرنسية. في ذلك الهجوم قتلوا 17 ضابطًا فرنسيًا، وأسروا 5 آخرين. في تلك المعركة تصادف وجود صحافي نمساوي، كارل بريار، أعد الصحافي تحقيقًا صحافيًا عن المعركة وعن جيش التحرير الجزائري.

الأسرى مقابل المقصلة

التحقيق الصحافي، الذي تلقى فيه الصحافي 5 ملايين فرانك فرنسي، كشف للفرنسيين هزائم جيشهم في الجزائر، وكانت تلك الهزائم يتم التعتيم عليها إعلاميًا. وكشف عن ثورة الجزائر، وأن هناك ثورة منظمة وحقيقية تحدث في الجزائر، بينما كان الإعلام الفرنسي يسمي أي هجوم جزائري أو معركة بين الفرنسيين وجيش التحرير، أحداث الجزائر.

وفي محاولة أخيرة لإظهار أن جيش التحرير أضعف من أن يخوض حربًا، اتهم الفرنسيون تونس أنها هي من تمول جيش التحرير بالسلاح والتدريب. الزبيري في شهادته ينفي ذلك الدعم، ويؤكد أن حرس الحدود التونسي يمنع مرور مقاتلي جيش التحرير والفرنسيين على حد سواء. كما أنه لم يتدخل في أي معركة كانت تجري بالقرب من الحدود.

لكن الصحافة الفرنسية أكدّت للمواطن الفرنسي أن تونس هي الداعم الأساسي للجزائر، كما أكدت أن الأسرى الخمسة موجودن على الأراضي التونسية. وأكد الزبيري أنه وضع الجنود الخمسة في مزرعة يملكها أخوه، من دون أن يخبر السلطات التونسية أو الجزائرية، كي لا يخضع لضغوط تسليم الأسرى. يؤكد الزبيري أن الأسرى استخدموا كورقة ضغط لمنع فرنسا من تنفيذ عقوبة الإعدام بالمقصلة في حق الجنود الجزائريين. ومن بين من نجح الزبيري في حفظ حياتهم العقيد أحمد بن شريف، تُوفي عام 2008. وبعد أسر الجنود الخمسة لم تُنفذ حكمًا بالمقصلة في حق أي مناضل أو مقاتل جزائري.

كذلك يقع في خلفية المجزرة قيام مصور سينمائي إنجليزي ببيع صور للقيادة الفرنسية يزعم أنها صور لثكنات عسكرية جزائرية في العمق التونسي. وبذلك أصبح الفرنسيون مقتنعين تمامًا بأن تونس أصبحت قاعدة خلفية لجيش التحرير الجزائري. ومع كل تلك الأجواء المشحونة وصدور قرار حق التتبع، أراد الجزائريون ألا يعرضوا التوانسة لخطر الهجوم الفرنسي فأصدرت قيادات جيش التحرير قرارًا بأن يُنقل كافة الجنود بعيدًا عن المناطق الحدودية.

واستعان العقيد علي كافي، سيتولى رئاسة المجلس الأعلى للدولة عام 1992، بمعتمد، رئيس دائرة، سيدي يوسف بضرورة تسخير كافة وسائل النقل المتاحة لدى البلدة بنقل الجنود الجزائريين بعيدًا عنها. لكن كل ذلك لم يحل دون وقوع المجزرة التي أرادها الفرنسيون انتقامًا مهما كان السبب المُعلن، ومقتل 20 طفلًا و11 امرأة بجانب من قتلوا في تلك المجزرة يؤكد أن الهدف الفرنسي كان الانتقام فحسب.