بالموهبة يتنبأ لك الجميع بمستقبل باهر، يتخيلونك شيئًا كبيرًا، ومن ثم يبدأ بعض المتابعين في إجراء المقارنات مع من كان يمتلك نفس تلك المميزات ويُظهرها في نفس المكان تقريبًا ولكن منذ عقود سابقة، ومع مزيد من الإعجاب بتلك الذاكرة القوية تتجه عقول هؤلاء فجأة إلى الحنين لاستشكاف المجهول وتبرز محاولة جديدة للربط بين زمنين مختلفين وهما الحاضر والمستقبل، عن طريق قراءة ذلك الكف الذي يومًا ما قد يكون كل أوتوجراف يوقع منه مساويًا لسعر لوحة غالية السعر، ولا داعي للقلق على تربص البعض لتوقعاتك التي قد تصبح خاطئة فيما بعد، فالنسيان مع مرور الأيام يسكب كل القهوة على تلك الآراء التي لم تُصيب من ذلك الفنجان الذي لم يُترك في أي ربع من أرباعه أي قطرة يمكنك أن تقرأ الطالع من خلالها.

يعد أحد أبرز أسباب فشل نسبة كبيرة من المصريين في الاحتراف في أوروبا وبعيدًا عن الحاجة للالتزام بصورة أكبر والصبر للتعود على الأجواء الجديدة من أجل الظهور بصورة طيبة أو بالشكل الطبيعي الذي كان سببا في ضمه، هو أن كلمة محترف في – لغة وسائل الإعلام المصرية – تعني لكثير من اللاعبين أنهم قد نجحوا بالفعل بدليل أنهم جذبوا انتباه أندية في الدوري البلجيكي أو الهولندي مثلًا فلا يبدو أبرز لاعبي الدوري المصري طيورًا مُهاجرة للخارج وإنما مُعارة لهم لفترة قليلة جدًا قد لا تصل إلى عام واحد، حتى انتقل محمد صلاح إلى بازل فأصبحت عقلية اللاعب المصري في أوروبا أكثر نضوجُا وهذا ما ساهم بدوره في تغيير بعض أفكار الأندية والمدربين السلبية عنهم، ولكن حتى محمد صلاح نفسه لم يكتفِ بمجرد الالتزام بما كان يستطيع فعله بل بالسعي للمزيد والمزيد.


القناعة «بالقليل» كنز يفنى بسرعة

محمد صلاح في فريق بازل السويسري.

حتى نتحسس مدى التطور الذي وصل إليه الجناح المصري يجب إلقاء نظرة على بدايته وكيف تم الحكم عليها آنذاك، بدايةً من رحيله إلى بازل في 2012 بعد أن نال إعجاب مدربي الفريق في مباراة ودية بين الفريق السويسري ومنتخب مصر تحت 23 عامًا بعد أن شارك في الشوط الثاني وسجل هدفين، ثم تحققت له أول قفزة في وسائل الإعلام هُناك بعد أن تألق أوروبيًا مع الفريق وبالأخص ضد اللندنيين تشيلسي وتوتنهام وسجل في مرماهما في بطولتي الدوري الأوروبي ودوري أبطال أوروبا، فتم إلقاء الضوء على ذلك اللاعب الذي كان كابوسًا لتشيلسي في مجموعات دوري الأبطال من موسم 2013/2014.

في تلك الآونة كان كل ما يميز صلاح هو سرعته الكبيرة جدًا التي جعلته أخطر لاعبي العالم في المرتدات وقدم جيدة على المرمى كما لو كان مهاجمًا وليس جناحًا ، تلك الطريقة التي كانت مثالية له مع بازل وبالأخص عندما يواجه أندية أكبر منه وبالأخص في البطولات القارية، فنجح في غضون موسمين مع بازل في تسجيل 22 هدفًا وصناعة 19 آخرين في خلال 90 مباراة لعبها وهي أرقام مبشرة للغاية للاعب في الثانية والعشرين من عمره، وبعد مفاوضات طويلة مع ليفربول جاءت مكالمة مورينهو الهاتفية لمحمد صلاح لتنهي القلق الذي كان ينتظر جمهور تشيلسي في كل مواجهة مع الريدز في الدوري إذا نجحوا في التعاقد مع صلاح، ونجح سبشيال وان في خطفه ليظل مختفيًا تمامًا عن الصورة لمدة عام.

في الديدلاين داي من انتقالات شتاء 2015 انتقل إلى فيورنتينا على سبيل الإعارة لمدة 18 شهرًا كإحدى بنود صفقة كوادرادو إلى تشيلسي، وكانت بمثابة طوق النجاة ليست لأنها فرصة جديدة منحها له تشيلسي للعب بشكل أساسي ولكن لأن صلاح هو من قرر استغلالها والبدء من الصفر، وبالرغم من تألقه اللافت مع فيورنتينا إلا أنه رفض العودة إلى تشيلسي مجددًا من أجل الاستمرار في الدوري الإيطالي بقميص آخر وهو روما، مجرد التواجد في نادٍ كبير والحصول على ميدالية الدوري حتى وإن شارك في ثلاث مباريات فقط!، لم يكن هو الهدف أو الطموح، فالمطلوب إثباته هو استحقاق ارتداء قميص ذلك الفريق الكبير بدلًا من أن يُصنف أنه من أسوا الصفقات في تاريخهم، ولطالما كانت القناعة بالقليل كنزًا وهميًا.


التطور الطبيعي للعقلية السليمة

مومو؟ هو لاعب مميز ولديه قدم جيدة، ولكن من ناحية الشخصية فهو حمل وديع.

سباليتي في حواره مع ميدو في بي إن سبورتس.

كان انتقال صلاح إلى فريق روما يحمل في طياته تحديات أصعب، تمثلت في لعب الفريق الأفضل في العاصمة أيضًا وبعد الازدهار مجددًا باللون البنفسجي مرة أخرى، ولكن الفارق أن تلك الضغوطات سيواجهها مرة على الأقل كل موسم بدون الاعتماد على القُرعة في الهروب منها في ما بعد، وإن كان قد تعامل بذكاء شديد مع لاعبي فريق الكيان الصهيوني «مكابي» في مسابقة الدوري الأوروبي عندما كان لاعبًا لبازل عندما هرب من انتقادات عدم مصافحتهم ورد بالطريقة المثالية على صافرات الاستهجان بتسجيل هدف والاحتفال أمامهم، وجد صلاح نفسه في مواجهة كارهين جُدد له في فلورنسا بعد أن رفض استكمال مشواره معهم مفضلًا عرض الذئاب، تم تهديده باللجوء إلى الفيفا بحجة أن الانتقال إلى روما غير قانوني، ولكن تلك الشكوى تم رفضها وإضافة إلى ذلك أخرس صلاح مهاجميه بهدف رائع في مرمى الفيولا على ملعب أرتيميو فرانكي.

منذ أن كان في بازل لطالما حاولت الصحف الإشادة به بوصفه «ميسي المصري» بسبب سرعته ومهارته بالكرة ولكنه في ذلك التعامل النفسي مع المواقف الصعبة به شيء ولو بسيط جدًا من البرتغالي رونالدو، لذلك نجح وبجدارة في أن يكون حامل لواء الأمل المصري في العودة للمشاركة في كأس العالم بالرغم من نهاية عصر الجيل الذهبي لدرجة جعلت البعض يُطلق على طريقة لعب الأرجنتيني كوبر “مرر لصلاح” كنايًة أن المنتخب لا يوجد به سوى لاعب واحد فقط يمكن الاعتماد عليه في صناعة الفارق.

فكيف يمكن أن يكون غريبًا على تلك العقلية الرائعة أن تجيد الرد حتى على الانتقادات الفنية على أدائه داخل الملعب؟، مثلما حدث مرات ومرات من قبل مدربه سباليتي ولعل أبرزها ما جاء في حواره مع ميدو على قنوات بي إن سبورتس عندما قام بمدح شخصية أحمد حسام كلاعب ومتفقًا معه في الرأي بأنها الشيء الذي ينقص «الحمل الوديع» محمد صلاح، وتم وصفه تلك الليلة بأنه يفتقد للكاريزما في الملعب قبل أن ينهي الموسم باختياره أفضل لاعب في الفريق بعد أن صنع 14 هدفًا وصنع 6 أهداف كما هي عادته كلما يُستفز، لأن تلك الموهبة الرائعة يحميها عقل رائع.


الذئب المصري جاهز للانتقال

محمد صلاح في فريق بازل السويسري.
محمد صلاح في فريق بازل السويسري.
صلاح لاعب استثنائي، كان يعتقد أنه يسجل الأهداف بطريقة واحدة ولا يستطيع اللعب في مكان آخر.

سباليتي بعد ثنائية صلاح في الفوز الحماسي على فيرونا

لا أحاول أن أقوم بتخمين رحيله عن روما في سوق الانتقالات المُقبل، ولكن محمد صلاح بات جاهزًا الآن للعب في مستوى أعلى من روما، ولأن يعود إلى تشيلسي ويكون أساسيًا على سبيل المثال؛ لأن التطور التكيتيكي واضح جدًا على مستواه، وكذلك تحطيمه لأرقامه التي وصل لها الموسم الماضي، وتسجيله 15 هدفًا هذا الموسم وصناعة 11 آخرين، بالرغم من أنه لعب عدد مباريات أقل بسبب تواجده مع المنتخب في الكان يفسر نضوجه بشكل مذهل والقدرة على تقديم مستوى عالٍ بصورة شبه ثابتة.

محمد صلاح مع فريق روما الإيطالي.
محمد صلاح مع فريق روما الإيطالي.

يعود السر في تصريحات سباليتي ووصفه بالمُدمر عقب مباراة فيرونا التي سجل فيها هدفين أن محمد صلاح أصبح أكثر جماعية وجرأة في فرض نفسه أمام أي خصم، ومقارنة أرقامه الحالية بالموسم الماضي توضح ذلك، وفيها قلت نسبة المراوغات الناجحة له في المباراة الواحدة من 1.65 إلى 1.20 ، كذلك تعرض للعرقلة 26 مرة هذا الموسم مقابل 43 مرة في الموسم الماضي، مما يعني أنه لم يعد يحتفظ بالكرة أكثر من اللازم، مع زيادة واضحة في المقابل في عدد التسديدات من 72 إلى 80 _ حتى الآن فقط _ منها 61 تسديدة من داخل منطقة الجزاء مقارنةً بعدد 48 تسديدة في الموسم الماضي بسبب الدور الجديد الذي منحه إياه سبالتي بالتحرك بين الخطوط للهروب من الرقابة فبات يمكنه اللعب كـ Shadow striker وInside forward، وشيئًا فشيئًا يصبح أكثر خطورة في صناعة اللعب بعد أن نجح في صناعة 60 فرصة للتهديف هذا الموسم مقابل 57 في الموسم الماضي و60 تمريرة.

من كونه أحد أسوأ صفقات مورينهو في تاريخه إلى نقطة سوداء في تاريخ تعاقدات المو لأنه لم يستفد منه أبدًا، من سخرية جمهور ليفربول من كونه احتياطيًا مع تشيلسي إلى الرغبة في ضمه مجددًا لتعويض ماني إذا ما كان مُصابًا أو حتى يمتلك الفريق أكثر من ماني وهو بالفعل يشبهه كثيرًا حتى في الانطباع الأولي عنه عندما كان يظن الجميع أن تواجده في ساوثهامبتون يعني أنه لن يناسب ليفربول؛ لأن طريقة لعب كومان كانت تعتمد على التنظيم الدفاعي الجيد ومرتدات ماني استغلالًا لسرعته فقط باعتباره جناحًا تقليديًا يجري على الخط ولا يجد أي حلول سوى التسديد دائمًا، حتى أصبح ماني هو أهم لاعبي ليفربول تكتيكيًا وكذلك صلاح بالنسبة لروما.

بدايةً بالاقتناع أن التمثيل الشكلي وليس الفعلي لفريق كبير ليس مُرضيًا، مرورًا بتقبل الانتقادات والتركيز على كرة القدم فقط أكثر من أي أمور أخرى عاطفية سواء كانت مشاعرها المُسيطرة كراهية، غضب أو حب وتقبله للانتقادات بصدر رحب، أصبح للمنتخب المصري لاعب يسير بخطى ثابتة على أعلى مستوى، يستطيع أن يحمل الفريق الذي ينتمي له على كتفيه تمامًا مثل منتخبه، لدرجة تجعلك تشك في تلك الاستمرارية التي لم يحققها محترفون سابقون مثل عمرو ذكي وميدو كما لو كانت هي سر التحنيط لدى قدماء الفراعنة.

المراجع
  1. ميدو و سباليتي يشيدان بمستوى محمد صلاح.
  2. حديث محمد صلاح عن جوزيه مورينيو.
  3. تصريحات سباليتي عن محمد صلاح.