تعارفت الدول على إطلاق أسماء رموزها القومية على بعض الشوارع البارزة والطرق المهمة. غالبًا ما يكون الأمر تشريفًا رمزيًا فحسب، فالناس تحتفظ في ذاكرتها بالاسم المشهور للطريق والشارع بغض النظر عن الاسم الجديد الذي تطلقه عليه الدولة. لكن في حالات نادرة تُجدي تلك الطريقة، تُجدي إلى الحد الذي يصبح فيه الطريق والشارع هو الحافظ لتاريخ الشخصية من النسيان، وهو الإشارة التي تومض أمام الجميع لتلفت نظرهم لصاحب الاسم.

طريق صلاح سالم إحدى تلك الحالات النادرة، فالطريق من أبرز الطرق في مصر. ويحثك دائمًا على تذكر تاريخ الرجل صاحب الاسم. صلاح سالم أحد المؤسسين في الضباط الأحرار الذين قادوا التغيير في مصر بثورة يوليو/ تموز عام 1952. وكذلك كان الرجل هو أول من نشر مذكراته من الضباط الأحرار، ربما كان يشعر أنه سيكون أولهم رحيلًا عن الدنيا أيضًا. تاركًا وراءه إرثًا سياسيًا مؤثرًا في مصر والسودان.

صلاح مصطفى سالم، وُلد في 25 سبتمبر/ أيلول عام 1920، نفس عام ولادة الملك فاروق. وُلد الرجل في مدينة سكنات، الواقعة شرق السودان. أبواه مصريان متوسطا الحال، ووالده كان يعمل موظفًا في الحكومة السودانية. وهناك تلقى صلاح تعليمه الأولي في كتاتيبها. ويخبرنا في مذكراته أن أول مرة يُضرب فيها كانت في كُتاب الشيخ علي. حيث كان الزي الرسمي لطلبة الكتاب هو الجلباب الأبيض والعمامة، وفي يوم نسيّ عمامته فتلقى عَلقته الأولى. بين ثنايا مذكراته يُلقي صلاح سالم جملةً يقول فيها إنه تمنى لو عاد للكُتاب مرة أخرى بعدما صار ضابطًا. لم يقل ماذا يريد من تلك العودة، لكن شخصية صلاح التي سيعرفها الجميع لاحقًا ربما تُجيب عن ذلك.

عاد إلى مصر في عمر السادسة، والتحق بالتعليم المصري وحصل على البكالوريا من الإبراهيمية الثانوية. التحق أولًا بكلية الهندسة في جامعة فؤاد الأول، لكن الحربية استهوته فذهب إليها. خصوصًا بعد معاهدة عام 1936 التي جعلت بإمكان أولاد الفلاحين والطبقات المتوسطة أن يتطلعوا ليصبحوا ضباطًا، لا جنود فحسب، في الجيش المصري. تلك المعاهدة التي فتحت الباب أمام ثمانية ممن أصبحوا في تنظيم الضباط الأحرار بعد ذلك.

عهد الأصدقاء

بدأ صلاح سالم حياته الرسمية في مرسى مطروح. كان عمره 18 عامًا عند التخرج، لكن كان ذلك مصادفًا للحرب العالمية الثانية. وبحكم وجوده في مطروح فقد عاين الشاب ما حدث في جبهة العلمين على الأراضي المصرية. انتهت الحرب وتركت داخله شوقًا لمزيد من الفهم، فالتحق بكلية أركان حرب. تخرّج فيها عام 1948، قبل بضعة شهور فحسب من اندلاع حرب فلسطين، فانضم إلى كتائب المتطوعين.

في الحرب تقابل سالم وجمال عبدالناصر. في عراق المنشية، قريبًا من الفالوجة التابعة لغزة، ظل الرجلان معًا في الحصار المفروض عليهما، يحتميان من نيران العدو بسور من التين الشوكي. يخبرنا سالم أنه في تلك اللحظة أخبره عبدالناصر عن الضباط الأحرار، فانضم إليهم وتعاهد أن يصبح جزءًا أساسيًا منهم. غير أن هناك رواية أخرى تقول إن تعرف سالم وعبدالناصر قد تم قبل حرب فلسطين، في وجود جمال سالم، وإنه هو من قدّم أخاه لعبدالناصر، ورشحه للمشاركة في تنظيم الضباط الأحرار.

في ليلة حركة 23 يوليو/ تموز كان صلاح مع أخيه جمال سالم يقودان قوات الجيش في فلسطين وسيناء وشرق القناة. وكانت لهما السيطرة المباشرة على القوات الموجودة في العريش، كانا عاملًا مهمًا في منع أي تحرك من ضباط الجيش الموجودين في تلك المناطق. يحكي سالم أنه سافر للقاهرة يوم 26 يوليو/ تموز على بعد أن اطمأنوا جميعًا أن الأمور قد استقرت للضباط الأحرار.

تولى سالم أول وزارة له، وزارة الإعلام، الإرشاد القومي آنذاك. في مذكراته يُقّر سالم أن عبدالناصر كان الوزير الحقيقي، وأنه كان مجرد واجهة له. ويضيف في موضع آخر أنه يعتقد أن جميع العاملين في الوزارة كانوا يتلقون أوامرهم من عبدالناصر مباشرة، لا منه. ورقابة الصحف كانت تعود لعبدالناصر فيما يُشكل عليها. ربما كانت معركة سالم المهمة هي المطالبة بإعدام الملك في ميدان عام.

وزير عن دولة لا يعرفها

تُعتبر تلك الوزارة مرحلة بسيطة في حياة سالم مقارنةً بالمنصب التالي لها. سيجمع الرجل بينها وبين منصب وزير الدولة لشئون السودان، يُضاف ذلك إلى إشرافه الفعلي والمستمر على أمور الجيش المصري الموجود في السودان. وفي تلك اللحظة بدأت علاقة سالم بمسقط رأسه تقوى، ويبدآ في تشكيل مصير بعضهما البعض مرة أخرى.

وإذا كان هذا هو التكليف الرسمي له بالتصرف في شئون السودان، فقد روى محمد نجيب الرئيس المصري، في مذكراته واقعة التكليف الكامل للرجل. يقول نجيب إنه طلب من المختصين بشأن السودان طباعة مذكرة لعرضها على الضباط الأحرار. حين وضعها نجيب أمامهم صُدم الضباط من ضخامة حجمها، فقالوا، كما يروي نجيب، إن المشكلة تتلخص في كلمتين، اتركوها لصلاح سالم. ليقوم مجلس الضباط الأحرار، بالكامل، بترك حرية التصرف لسالم في شئون السودان دون الرجوع لأحد.

الغريب أن ثقتهم في سالم كانت لأنه وُلد في السودان، وحماه، والد زوجته، خدم في الجيش السوداني، فاستنتجوا أنه لا بد أنه يمتلك دراية بمسقط رأسه. لكن سالم نفسه يخبرنا أنه لا يعرف شيئًا عن السودان، ولم يقرأ عنه في حياته، ولا يعرف حتى كم عدد سكانه. للمصداقية يقول إنه قرأ كتابين عنه، واحدًا عن الصيد والمغامرات في جنوب السودان، والآخر كتاب حرب النهر لوينستون تشريشل.

ربما لهذا اتخذت حركة الضباط الأحرار، وعلى رأسها سالم، موقفًا غريبًا على الدبلوماسية المصرية في ما يتعلق بالسودان. الملك فاروق كان ملكًا لمصر والسودان. مصطفى النحاس قال ذات مرة إنه يُفضل قطع يده على أن تُفصل مصر عن السودان. لكن أتى الضباط الأحرار ليتفاهموا مع الإنجليز على أن السيادة على السودان لن تكون لمصر. يقول سالم في مذاكرته إن ذلك كان خطًأ، ووصفه أيضًا بالخطأ الذي لم يدركه الضباط إلا متأخرًا. فقد كان النص الذي اتفق عليه الضباط مع الإنجليز يستخدم كلمتي «الوحدة» و«الاستقلال»، فجعلوا الوحدة مع مصر دون قصد في نظر السودانيين مضادة للاستقلال ودليلًا على التبعية.

ميلاد كراهية السودان لمصر

لنفهم الأمر أكثر يمكننا أن نستعين بمذكرات عبداللطيف البغدادي. يقول البغدادي إن السودان تحمس للاتحاد مع مصر تمامًا. خصوصًا تحت قيادة إسماعيل الأزهري للحزب الوطني الاتحادي، الذي فاز في انتخابات السودان بسبب حديثه المستمر عن الاتحاد مع مصر. ووصفهما الأزهري في أحد خطاباته، كما ينقل سالم نفسه، بأنهما يدين لجسد واحد، وأن الاتحاد مع مصر هو حماية لحرية واستقلال السودان.

عودة لمذكرات البغدادي نجد فيها نقله أن صلاح سالم كان يُعامل الأزهري باحتقار. الرجل كان رئيس حكومة منتخبة، لكن ظل سالم يعامله باستهانة وعجرفة. يقول البغدادي إن سالم كان يُملي عليه الأوامر. فلم يكن سالم سياسيًا يعالج قضية سياسية، بل تعامل بالمنطق العسكري. يفسر سالم ذلك بأنه صُدم من أن الأحزاب السوادنية لم تكن على رأي واحد، وكانت آراؤها متعددة. ربما لنقص خبرة سالم في ما يتعلق بالسودان لم يدرك أن تلك هي طبيعة الأحزاب السودانية، ولقلة خبرته السياسية كذلك، بإجماع زملائه في مذكراتهم وتصريحاتهم، فلم يستطع أن يتعامل معهم بدبلوماسية، بل كان يتعامل بعصبية وانفعال.

بسبب تلك العجرفة تغير انطباع السودانين عن الاتحاد مع مصر. حاول سالم تدارك الأمر بتقديم رشاوى لبعض الساسة السودانيين. نجحت الاستراتيجية بالفعل، لكن نجاحًا مؤقتًا ما لبث أن انقلب على الجميع. جمال حماد، لواء من الضباط الأحرار، صرّح بأن سياسة الرشاوى التي اتبعها سالم جعلت السودانيين غير مؤمنين حقًا بضرورة الاتحاد مع مصر. خصوصًا مع بدء الصحافة السودانية في مهاجمة الساسة الذين وصفتهم بأنهم مرتزقة صلاح سالم.

يقول البغدادي في مذكراته إن تلك الرشاوى جعلت حتى المؤمنين بالاتحاد مع مصر يصمتون عن الدعوة الشعب السوداني للاتحاد. لأنه لا يتكلم أحد في تلك النقطة إلا وتدور حوله الشبهات بأنه قد تلقى رشوة ما. فبات المناخ العام السوداني كارهًا لمصر ككل، وللمصريين تمامً، بالتالي لم يعد للحديث عن الاتحاد مع مصر مكان.

الطموح يقتل أحيانًا

انتهت علاقة مصر والسودان. قدّم صلاح سالم استقالته باعتباره المسئول عن تلك المأساة. ظل الرجل عضوًا في مجلس قيادة الثورة رغم عدم شغله لأي منصب. بعد فترة قدم الاستقالة من المجلس نفسه. يقول سالم إن ذلك بسبب موضوع السودان. لكن صلاح نصر يرى أن واشنطن هي من تدخلت بطريقة لم يذكرها لإسقاط صلاح سالم لأنه كان متصلًا بالسوفييت. تنبع تلك النظرية من أقوال تناثرت عن صلاح سالم بأنه اعتنق الأفكار الاشتراكية تمامًا، وتأكدت تلك الأقوال بعد زيارته للاتحاد السوفيتي وحديثه الشهير مع خروشوف.

بينما يرى آخرون أن السودان لم يكن سوى حجة، فقد أصاب عبدالناصر قلق من طموح سالم لتوى منصب رئاسة الجمهورية. وتقول رواية أخرى، ينقلها صلاح نصر أيضًا، إن عبدالناصر أقنع سالم بالتنحي عن كافة مناصبه ليقنع الرأي العام أن ثمة تغيرًا في سياسة مصر تجاه السودان. ولا يعرف أحد لماذا قبل سالم بأن يكون هو من يحمل هذا العبء وحده، ربما إخلاصًا لصديقه عبدالناصر كما يقول البغدادي.

لكن الثابت أن عبدالناصر لم يتركه يخرج من الصورة بالكليّة، فعيّنه رئيسًا لتحرير جريدتي «الشعب» و«الجمهورية»، ثم رئاسة مؤسسة دار التحرير للنشر، التي تقوم بإصدار معظم الصحف، التي أسسها الضباط الأحرار أصلًا للرقابة على الصحافة. ربما أعجب الأمر صلاح سالم فجعل نفسه نقيبًا للصحافيين عام 1960. وبذلك أحكم الرجل سيطرته بالكامل على الصحافة وأهلها.

هدية البغدادي الخالدة

ومن الأدوار البارزة التي أدها سالم، دون أن يشغل منصبًا رسميًا بها، هي مهمة هدم صورة محمد نجيب لصالح صديقه عبدالناصر. فقد كان دائم السخرية منه، يقول البغدادي إن سالم كان موقفه عنيفًا من نجيب منذ البداية، ولم يُكن له أي احترام. ويؤكد خالد محيي الدين، في كتابة والآن أتكلم، أن سالم كانت مهمته الأساسية داخل وخارج المجلس هي السب. ويقول إنه أدى تلك المهمة ببراعة حين أطلقه، على حد تعبير محيي الدين، عبدالناصر على نجيب.

كل تلك الأدوار الفاعلة والمؤثرة أداها الرجل ولم يجاوز الأربعين. فقد تُوفي في فبراير/ شباط 1962 عن عمر ناهز 41 عامًا. ربما تكون جنازته هي المرة الأولى التي خلع فيها صلاح سالم نظارته السوداء، فلم يكن يخلعها صباحًا أو مساءً. حتى في الاجتماعات الرسمية، ذكر أكثر من واحد من الضباط الأحرار، أنه كان يرتديها في تلك الاجتماعات أيضًا.

للمفارقة أن إطلاق اسمه على الشارع لم يكن قرارًا من عبدالناصر، بل من عبداللطيف البغدادي. حين مات الرجل متأثرا بالفشل الكلوي، أو السرطان، كان البغدادي يفتتح مشروعًا اقتطعه من المقطم، بصفته وزيرًا للشئون القروية والبلدية، فلم سمع بخبر الوفاة أطلق على الطريق اسم صلاح سالم، ولم يكن أحد يدرك أن يكون هذا الشارع والطريق من أبرز وأشهر مناطق القاهرة، ولم يكن أحد يدرك أيضًا أن يكون الشارع أكثر الأماكن التي يلعنها المصريون بشكل يومي كلمّا تأخروا بسبب زحامه.