قبل مقتل القذافي بعدة سنوات دُعينا لأحد فنادق القاهرة الكبرى لنغطي إعلاميا حدث احتفال السفارة الليبية بذكرى الثورة، وأمام قاعة الاحتفال الكبيرة وُضعت منضدة عريضة طويلة في الرواق المتسع أمام باب القاعة عليها كتب عن ليبيا والثورة الليبية، وكان أغلب هذه الكتب هي تلك التي كتبها القذافي، وفي مقدمتها «إسراطين».

كان الاسم ملفتا للنظر ومثيرا للحديث، فالتقاء الكلمتين لم يأت اعتباطا، بل هناك هدف من وراء المزج اللا منطقي واللا أخلاقي واللا تاريخي بين فلسطيننا وإسرائيل، فعزمت على قراءة صفحاته قليلة العدد.

ستة وثلاثون صفحة لا غير سُوّدت بخزي النظم العربية وموقفها من القضية وبرؤيتها الخاصة لحلها، وباستعراض مواقف بعض الدول العربية وتلك الرؤى أدركت أن الفلسطينيون لا يعانون ألما ماديا فحسب جراء الانتهاكات اللا إنسانية الإسرائيلية بالقصف والتدمير والقتل العمد وهتك المقدسات، بل آلاما أخري من أصحاب القضية الآخرين تتمثل في الجهل بحقيقة القضية وتجاهل مصيرها وآلامها.

فالقذافي كان يري أن «إسراطين» كلمة مناسبة إذا تُرجمت على أرض الواقع لحل المشكلة وتسوية النزاع القائم! معترفا ضمنا وصراحة في بعض المواضع بالمساواة بين الفلسطينيين واليهود، ضاربا عرض الحائط بأي فكرة تقول بتحرير الأراضي كلها، وللأسف فإن أكثر الزعماء حماسا للقضية قديما قد تعدوا في خطابهم ورؤاهم للقضية هذه النقطة (تحرير الأرض)، وتعاملوا مع الاحتلال كأمر واقع يجب تسويته بين (متنازعين) دون التطرق إلى الحقيقة الأزلية أن فلسطين لم تكن يوما وطنا لليهود، بل الأغرب والذي تناساه العرب هذه الأيام أن الوطن القومي لليهود كان مقررا بين عدة اختيارات منها قبرص والأرجنتين وأوغندا وفلسطين وسيناء، فالأمر على الحقيقة أن أوربا كانت تسعي بأي شكل كان للتخلص من اليهود وإبعادهم عن حدودها أيا كانت الوجهة في الشرق أو الغرب.

وليس القذافي فقط الذي يري «إسراطين» كحل، فمقترحات الملك عبد الله الأولى (وكما يوضح الكتاب) هي: إقامة مملكة واحدة، إدارات مختارة لليهود في المناطق التي يوجدون بها، برلمان واحد يمثل فيه اليهود بنسبة عددهم، مجلس وزراء مختلط!

ثم كان للملك عبد الله اقتراحات مع تراخي الوقت وخفوت القضية في الضلوع، فقال:

تقسيم فلسطين بين كل من لبنان والأردن ومصر ويترك الباقي لليهود!

وذلك يوضح وبجلاء مدى ثقل القضية على القلوب، والهزيمة النفسية التي تعشش في أحشاء حكامنا وولاتنا.

ولم يكن الملك عبد الله وحده من شارك القذافي «إسراطينه»، بل امتدت الهزيمة لتشمل آخرين كنوري السعيد في 1942 ليقرر أن الحل أيضا دولة واحدة للفلسطينيين واليهود! وتفصيلاته لا تختلف كثيرا عن مشروع الملك عبد الله، وعموما فإن خاطر تحرير الأراضي الفلسطينية العربية بات بعيدا عن الأذهان، والتعامل مع اليهود كمحتلين بات مزحة تاريخية لا تذكر، إذ اتفاقات التطبيع نزعت عنها الرهبة والهيبة والأحقية، وربما في وقت ما قد نصل إلى أن نعتبر الصراع شأن فلسطيني محض، وأن الفلسطينيون هم المحتلون بحكم التوراة، وسنجد من العرب من يؤيد هذا الزعم المفترض كي تبقي القضية بعيدة عن اتخاذهم موقف أكثر عروبة وأكثر قومية.

ولا عجب في ذلك فالقذافي الذي يعرض فكرة اسراطين كوطن مندمج يجمع بين اليهود والفلسطينيين نجده متمسكا حتي بالاسم ولا محيص عنه، ويواجه المعترضين عليه بعاشرة الأثافي قائلا:

علينا أن نقارن بين سلامة اليهود وأن يعيشوا في سلام مع الفلسطينيين ومندمجين معا في دولة واحدة وبين التمسك بالاسم مع التضحية بسلام اليهود وبالسلام في الشرق الأوسط والعالم!

أما مصر وتخليها عن القضية بدورها التاريخي فكانت أكثر ألما عن غيرها، ولعل بناء الجدار العازل في آواخر عصر مبارك كان ضربة مفجعة وُجهت لفلسطين شعبا وقضية على السواء، رضوخا للإدارة الأمريكية ورغباتها في إحكام الحصار على الفلسطينيين.

ذلك الجدار الذي موّلته الحكومة المصرية بمليارات الدولارات، وأشرف على تنفيذه مهندسون أمريكان وفرنسيون بادعاء مزيف أنه من باب أمن مصر في حدودها الشرقية، وما كان الجدار الفلاذي الذي صمم في أمريكا بصفائحه المعالجة ضد تفجير الديناميت يخدم إلا إسرائيل وحدها، ويحقق رغبتها في الفتك بالفلسطينيين المحاصرين.

ولم تكن المملكة العربية السعودية بمعزل هي الأخري عن «إسراطين» بل تراها حل مناسب لصداع أرّقها زمنا كغيرها من البلاد العربية، سواء بما اقترحه الملك فهد في قمة فاس المغربية عام 1982 والمعروف «بالمشروع العربي للسلام»، أو الملك عبد الله بن عبد العزيز في قمة بيروت مارس/2002 علي رأس القمة العربية والمعروف «بمبادرة السلام العربية».

كِلا المشروعين لا يعبرا عن موقف المملكة وحدها من القضية ورؤاها لحلها، بل يعبر عن العرب جميعا من المحيط إلى الخليج، فالمملكة لم تنفرد بإذاعة البيان عبر وزير خارجيتها من الرياض، بل على رأس القمة العربية التي جمعت رؤساء وملوك وسلاطين العرب، وكان ديباجة البيان «نحن ملوك ورؤساء وأمراء الدول العربية المجتمعين كمجلس لجامعة الدول العربية على مستوى القمة في بيروت…».

وذلك يوضح أن إسراطين لا تلزم القذافي وحده، ولم تكن «طقة رأس» ليبية خالصة، بل تعبيرا واضحا عمّا يجول بخاطر القادة العرب إزاء القضية المتوارثة دون أن يبت أحدهم فيها بسهم، وأصبح حلم التحرير الكلي والشامل حلما حراما، فجاء في بنود بيان مبادرة بيروت ما يعني بلا تحامل على النصوص «بيع القضية» نهائيا:

قبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من يونيو/حزيران 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدس الشرقية. يترتب على ذلك: أ اعتبار النزاع العربي الإسرائيلي منتهيا، والدخول في اتفاقية سلام بينها وبين إسرائيل مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة. ب
إنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار هذا السلام الشامل. ضمان رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني الذي يتنافى والوضع الخاص في البلدان العربية المضيفة.

لذلك فليس غريبا ألا تشذ مصر كدولة عربية عن قاعدة أو إطار إسراطين الذي أطلقه القذافي في كتيّب، أو كمقال في النيويورك تايمز منذ عدة سنوات وتسحب مشروع قرار يدين الإستيطان الإسرائيلي، فالقضية باتت ثقيلة على جسد الشيخ الضعيف، وعظامه لم تعد تقوي على حمل أعباء تاريخه وما يستوجبه طوله وعرضه بين ماء المحيط وماء الخليج.

إن الدولة الفلسطينية التي يسعى إليها العرب ليست فلسطين التي نعرفها بأي حال، وإن كان الواقع يقول أن أقصي الأحلام أن تقام دولة فلسطينية على حدود ما قبل 67 فهي أحلام الأطفال التي لم تتجاوز سن الرشد بعد، فالتراب الفلسطيني حرام كله على كل يهودي أن يحكمه، فإن ترابا سقته دماء ثورة 1920 وثورة 1921 وثورة البراق 1929 وما تلا ذلك من أحداث راح ضحيتها الفلسطينيون مدافعون عن فلسطين وعن التراب الفلسطيني كله بما يحمل ذلك التراب من التاريخ ومنذ وجدت علي الأرض بقعة تسمى فلسطين، وليس ترابا ينتهي عند حدود زمنية قدّرها العرب لضعفهم بعام 67.

لكن أخطر ما قد تُمنى به القضية أن تشوش في أذهان الأجيال القادمة إذا توارثت الوضع الحالي، ولا ندري إلى أي مدى قد تصل حقائقها سليمة بلا زيف ولا خداع، لذا فمن الواجب أن نكتب عقائدنا السياسية والقومية من الآن، ونبيّن لمن سيأتي بعدنا أن فلسطين بكامل حدودها الجغرافية وليس لأي يهودي حق فيها، على طريقة القدامي الذين كانوا يكتبون عقائدهم الدينية في الورق ويحفظونه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. إسراطين معمر القذافي
  2. المشكلة الفلسطينية وموقف مصر حكومة وشعبا منها (1917 – 1939)
  3. موقع وزارة الخارجية السعودية.