منذ لا أدري وقعت في شباك كرة القدم. أسرتني اللعبة وتفاصيلها. جبت شوارع قريتنا لأمارس اللعبة أحيانًا، وأخرى لمشاهدة كثيرين اعتقدت وما زلت أعتقد أنهم استحقوا فرصة للتواجد في عالمها الحقيقي.

تلك قصتي وربما قصة الكثيرين منا مع كرة قدم الشارع، الملاذ الأول وأحيانًا الأخير لممارسة اللعبة. تعج الأزقة والحواري بالمادة الخام للمواهب الحقيقية لكرة القدم، حتى صار هناك ارتباط وثيق بينها وبين الموهبة؛ فالعلاقة طردية على طول المسار.

قلائل هم من حالفهم الحظ للخروج من هذه الأزقة نحو نور اللعبة الحقيقي، لكن الأكيد أننا صرنا نُعرف كل موهبة تلعب كرة القدم من أجل المتعة، بأنها لا شك وليدة الشارع.

بطلنا هو أحد هؤلاء الذين تنتصر موهبتهم للغرض الرئيسي للعبة، وفي قصته رمزية لحكاية كرة قدم الشوارع، وقصة كرة القدم في بلاده.

مستحيلة يا سالم

لم تكن المواد الدراسية ضمن أولوياته. تتكرر تلك المقولة عن معظم من سحرتهم كرة القدم، وبالأخص عند هؤلاء ممن نبعوا من الشارع، هكذا كانت الدراسة بالنسبة لسالم – بطل قصتنا – مستعصية، إن لم تكن مستحيلة.

كانت المناهج الدراسية بالنسبة لسالم الدوسري كالطلاسم، وما كانت الحصص المدرسية إلا مكانًا يأخذ فيه قسطًا من النوم بين جولات لعب كرة القدم، على الرغم من أنه شبَّ في أسرة تمتهن التدريس، حيث يعمل أبوه وأخوه الأكبر.

عرج الدوسري على كل شوارع وجنبات الرياض ليلعب كرة القدم، وقبلها جدة التي اُضطرت أسرته لمغادرتها نحو الرياض لظروف عمل والده، لكن احترافه اللعبة بدا مستحيلًا في البداية.

لم يكن في المملكة العربية السعودية حينها نظام للكشف عن المواهب ورعايتها، بل كانت العلاقات هي ما يتحكم في مصائر الراغبين في احتراف كرة القدم؛ وهو ما عانى واستفاد منه سالم في نفس الحين.

مغلق لحين إشعار آخر

إذا كنت أحد هؤلاء ممن حلم بممارسة كرة القدم في صغره، فبالتأكيد خضت تجربة اختبارات الناشئين في الأندية التي تنتهي غالبًا بالرفض، وينتهي عندها مصير آلاف المواهب حول العالم، فلا يجدون أمامهم سوى العودة للشارع وممارسة اللعبة كلما سنحت الظروف.

مرَّ سالم بهذه الرحلة هو الآخر. أول صدمة كانت من النادي الفيصلي، إذ شاهده محمد عسعوس – الإداري في الفئات السنية بالنادي – ليقرر اصطحابه لمدرب الفريق. لم يقتنع الأخير بموهبة الدوسري، لكن ذلك لم يثنِه عن مواصلة السعي خلف حلمه.

الوجهة الثانية كانت مركز العسيري، وهو المصدر الأساسي الذي يستمد منه نادي النصر مواهبه، وبالفعل نجح المدرب وقتها إبراهيم عسيري في تجهيز سالم للفريق الأول، لكن منيف الشهراني، الإداري في نادي الهلال، قطع الطريق على النصر، عرض عليه الانتقال للهلال، ليرحب سالم كثيرًا.

ظن سالم أن الحياة ابتسمت له أخيرًا، لكنه وبعد أن ظل تحت الاختبار لمدة 43 يومًا في نادي الهلال، رفضت الإدارة التوقيع معه، معللة ذلك بأن سالم لا يصلح للعب للزعيم.

لم تنتهِ القصة بعد

عند النقطة الماضية يتهاوى عدد لا بأس من المواهب التي تقرر عدم العودة مرةً أخرى لطرق أبواب كرة القدم، وهي النقطة نفسها التي تكشف الحال الذي كانت تُدار به كرة القدم السعودية، فلا يوجد ما هو أصعب من الإصرار على لفظ موهبة كسالم.

لكن سالم رجل يعشق المستحيلات ويهوى خوض دروبها، تمامًا كما سيفعل في أهدافه لاحقًا.

«لا أريد الآن إلا اللعب للهلال فقط»، جملة قالها الدوسري في يناير 2011، عندما سأله المسؤولون عن طلباته أثناء تسجيله كلاعب هاوٍ بالنادي.

سبعة أهداف سجلها سالم في أول موسم له كهاوٍ بالزعيم، وكان هذا الموسم كافيًا ليخطف أنظار خالد القروني – المدير الفني للمنتخب السعودي للشباب وقتها – ليقرر اصطحابه ضمن بعثة الأخضر في كأس العالم للشباب كولومبيا 2011، ويبدع بالمونديال، ليكون بوابته للفريق الأول في الزعيم ويبدأ عهدًا جديدًا دون معوقات، فقد حجز مكانه في التشكيل الأساسي بسرعة البرق.

خطوات على الطريق

بعد العودة من كولومبيا حانت لحظة الانطلاق الحقيقية، ولم تكن أي لحظة بل هي ديربي الرياض أمام الغريم التقليدي النصر، دخل سالم بديلًا ليهز شباك العالمي، ويدخل تاريخ الديربيات من أوسع أبوابه، ليتم توقيع أول عقد احترافي له في مارس 2012 مع الهلال.

لم يلبث سالم أن نال إعجاب الجميع، يومًا تلو الآخر، يثبت الدوسري جدارته، وسط متابعة ممن رفضوه في بدايته، ليستحق الانضمام للمنتخب السعودي الأول رفقة الهولندي فرانك ريكارد وهو ابن الـ 20 عامًا فقط.

موسم تلو الآخر، تزداد فيه شعبية سالم، ليس فقط بين جموع مشجعي الهلال، ولكن بين عموم الجمهور السعودي ككل. موهبة لم تجُدْ بها أراضي السعودية من قبل. أصبح الطريق ممهدًا للدوسري ليكون النجم الأول للكرة السعودية، لكنه لا يزال ينقصه شيء ما يعيق تلك الخطوة.

احترم عقولنا يا رجل

تزامنًا مع رؤية السعودية 2030، حاز ملف تطور كرة القدم السعودية الذي انطلق عام 2017، وتحولها إلى الاحتراف الكامل المشمول، دعمًا مباشرًا من ولي العهد السعودي، وبعمل إدارة رياضية متطورة تضع أهدافًا استراتيجية مستمرة.

كان من ضمن هذه الأهداف تطوير آلية عمل مراكز التدريب لتأسيس الناشئين، وإنشاء برنامج تطوير الفئات السنية في الأندية، والاهتمام بأبرز النجوم السعوديين الحاليين، وعلى رأسهم كان الدوسري بلا شك.

كانت الخطة هي اتفاقية مشتركة مع رابطة لا ليجا، خرج على إثرها أكثر من لاعب سعودي للاحتراف بإسبانيا، ومن ضمنهم سالم إلى فريق فياريال، وبالرغم من  أنها كانت تجربة محبطة من ناحية المشاركة، فلم يشارك إلا في 33 دقيقة فقط خلال ستة أشهر، إلا أنها ساهمت بشكل كبير في تطور مستواه فنيًّا وبدنيًّا بعدها.

عاد سالم من إسبانيا وكأنه شخص آخر، فلم يعد ذاك اللاعب – الحريف – الذي يهدر الفرص أمام المرمى، ولا سالم الذي ينتظم في التدريبات ويتغيب عنها وقتما يحلو له، قاد الهلال لحصد لقب دوري أبطال آسيا للمرة الثالثة في تاريخ النادي والأولى في تاريخه هو كلاعب، ومن قبلها لقب الدوري المحلي ولقب السوبر وكأس الملك، ومؤخرًا لقب دوري الأبطال للمرة الثانية.

حقق سالم سبع بطولات مع الهلال في ست سنوات، دوري سعودي مرتين، كأس الملك مرتين، كأس السوبر المحلي مرة، وكأس ولي العهد مرتين، وكانت بصمته واضحة في جميعها، بالإضافة إلى قيادته لمنتخب بلاده لفوز تاريخي على الأرجنتين في كأس العالم 2022، وهو ما أهله للفوز بجائزة أفضل لاعب في قارة آسيا لعام 2022.

تحكي لنا قصة سالم قصة كرة القدم في السعودية، لكنها في الأساس تحكي لنا قصة حقيقية عن المواهب الضائعة في شوارع كرة القدم، وبخاصة في عالمنا العربي، تلك المواهب التي تحتاج فقط إلى رعاية مبكرة في المراحل العمرية المختلفة، حينها سنرى 1000 سالم في كل فرقنا ومنتخابتنا العربية، ولمَ لا 1000 صلاح تحت نور الملاعب الأوروبية، دعنا نقول نهايةً إننا كنا سعداء الحظ لعدم ضياع موهبة سالم الدوسري.

الدوسري لاعب بمواصفات أوروبية، ليست مواصفات سعودية أو عربية، سالم موهوب كالبرازيليين.
ناصر الشمراني نجم الكرة السعودية السابق