يُجري العاهل السعودي الملك «سلمان بن عبدالعزيز» زيارة إلى روسيا، اليوم الخميس بدعوة رسمية من الرئيس «فلاديمير بوتين»، في لقاء يكشف الكثير عما يدور داخل السياسة السعودية التي لا يهمها الآن سوى النهوض بأوضاعها الاقتصادية والتعاون مع روسيا لرفع أسعار النفط، إلى جانب ضمان حيادها عن قطر، بل -إن أمكن- التعاون معها لتضييق الخناق على قطر، وكذلك محاولة شراء موسكو وسحب دعمها لإيران غير المحدود لصالح الخليج، فهل يفلح أم أن لموسكو حساباتها المعقدة؟


عودة العلاقات في سياق المصلحة

سلمان، بوتين، السعودية، روسيا
الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» والعاهل السعودي «سلمان بن عبدالعزيز»

دخلت العلاقات السعودية الروسية مرحلة من الفتور مع اندلاع الثورة السورية في 2011 ودعم موسكو لنظام «بشار الأسد»، وكانت الرياض في المقابل تدعم جماعات سورية مسلحة تعتبرها روسيا إرهابية ومناهضة لمصالحها، ليدخل الطرفان بعد ذلك في حرب نفطية، اتهمت موسكو المملكة بالوقوف وراءها بتحريض أمريكي حيث هبطت أسعار النفط إلى أقل من 50 دولارًا للبرميل في 2014.

تخلت السعودية عن المعارضة السورية بعد إدراكها أنها أصبحت خارج اللعبة ولا طائل من دعمها، لهذا لن تجد غضاضة في التعاون مع روسيا مجددًا

واستمرت العلاقات في الفتور إلى أن كسرت زيارة ولي العهد السعودي ووزير الدفاع «محمد بن سلمان»، الجليد بين البلدين في يونيو/حزيران 2015،وقع خلالها البلدان 6 اتفاقيات من بينها اتفاقية تعاون في مجال الطاقة النووية، وتفعيل اللجنة المشتركة للتعاون العسكري.

وأتبعها بزيارة أخرى في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه التقى فيها «بوتين»، في زيارات أكدت أن القضية السورية لم تعد الآن ذات أولوية في سياسة المملكة وأنها لا ينبغي أن تحدد مصالحها لأن الأمور خرجت من يدها ولم تعد ذات تأثير كبير هناك، في ظل تراجع الدعم الغربي للمعارضة السورية.

لم تقف اللقاءات عند هذا الحد، حيث أجرى ولي العهد زيارة ثالثة إلى روسيا في مايو/آيار 2017، ليؤكد أن اللقاءات السابقة لم تكن مجرد زيارات عادية وإنما محاولة لبدء مرحلة جديدة لبناء تعاون بين الجانبين، وخاصة فيما يتعلق بأسعار النفط وطغى هذا الأمر على اللقاء، الذي جاء بعد موافقة منظمة «أوبك» وروسيا على تمديد اتفاق خفض إنتاج النفط حتى مارس/آذار 2018، وساعد ذلك في تحسن الأسعار قليلًا وتخطيها حاجز الـ 50 دولارًا للبرميل منذ هبوطها في عام 2014.

وتأتي زيارة الملك سلمان اليوم إلى موسكو لتتوج عودة العلاقات بين الطرفين، فروسيا تعلم أن المملكة فاعل مؤثر في أسواق النفط، وفيما يتعلق بموقفها من سوريا تدرك أن الرياض لا تتخوف سوى من طهران وهو ما قد تكون ضمنته موسكو للرياض بتحجيم إيران وعدم إضرارها بالمصالح السعودية هناك، لكنها لن تصل إلى درجة تخلي الروس عن الإيرانيين مثلما تريد المملكة.

ويؤكد ذلك ما أعلنه وزير االخاريجة الروسي «سيرجي لافروف» من أن إيران وتركيا لعبتا دورًا مؤثرًا في سوريا، قائلًا: «نعتقد أن الجهود المشتركة بين روسيا وتركيا وإيران نجحت في تغيير الأوضاع في سوريا على نحو أفضل، ودمرت مراكز مقاومة داعش وجبهة النصرة وغيرهما من الجماعات الإرهابية».


ما أفسدته السياسة تصلحه «الدولارات»

كانت أسعار النفط الباب الذي عادت منه العلاقات السعودية الروسية مجددًا، باعتبارهما أكبر مصدرين للنفط على مستوى العالم، ولهذا ستحتل هذه القضية مباحثات سلمان وبوتين، فالمملكة أرادت استرضاء روسيا والدخول من هذه البوابة لأنها أدركت تخلي الولايات المتحدة عنها في فترة الرئيس السابق «باراك أوباما» وتوافقه مع إيران على حساب دول الخليج العربي.

ومع مجىء «دونالد ترامب» للبيت الأبيض ورغم دفع السعودية ما يزيد على 300 مليار دولار لترامب خلال زيارته الشهيرة للرياض في صورة صفقات عسكرية واقتصادية إلا أن المملكة لا تزال متوجسة من «ترامب»، حتى في ظل معاداته لإيران. ورأت على إثر هذا أن الخصومة مع موسكو غير مجدية لها والأفضل التعاون معها، فموسكو عادت بقوة وخاصة في الشرق الأوسط ومن الأفضل لأيِ ما كان التوافق أو على الأقل التفاهم معها وليس الاشتباك معها.

وجاءت المشاريع الاقتصادية والاستثمارات السعودية في روسيا كعامل إغراء، فلطالما لعب المال السياسي السعودي دورًا كبيرًا في شراء الكثيرين، آخرهم «ترامب» الذي كال الاتهامات مرارًا للمملكة بدعم الإرهاب والتطرف أيام كان مرشحًا رئاسيًا، وروسيا الآن بحاجة إلى الأموال لدعم اقتصادها المنهك بفضل العقوبات الأمريكية والأوروبية بجانب انخفاض أسعار النفط.

بالنظر إلى التعاون الاقتصادي بين البلدين حتى الآن نجد أنه ضعيف جدًا، مقارنة بحجم تجارة وعلاقات البلدين الخارجية، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين العام الماضي نحو نصف مليار دولار فقط، منها 350 مليون دولار صادرات روسية إلى السعودية، مقابل واردات بقيمة 150 مليون دولار من المملكة، وفي محاولة من «محمد بن سلمان» لكسب ود روسيا أطلق خلال زيارته لموسكو في 2015 صندوقًا استثماريًا مشتركًا بقيمة 10 مليارات دولار لتمويل مشاريع في روسيا.


مصالح آنية لا شراكات استراتيجية

يكشف حجم العلاقات التجارية عن ضعف بين البلدين فكلاهما لا يثق في الآخر، لكن المرجح أن تراوح العلاقات مكانها

لا تعول روسيا بشكل كبير على قدرتها على إقامة علاقات استراتيجية مع المملكة خلاف التعاون معها لضبط أسعار النفط، فهي تدرك أن دول الخليج بشكل عام وليس الرياض فقط غير قادرة على الخروج من المظلة الأمريكية، وإنما تريد -دول الخليج- تحقيق بعض المكاسب الآنية كـإيجاد مخرج للأزمة السورية يحفظ ماء وجه الأنظمة التي تسببت في عسكرة الثورة ثم تخلت عن المعارضة بشكل كبير وأوقفت دعمها عسكريًا، بجانب ضمان عدم دعم إيران بشكل كبير على حساب الخليج.

وتحاول روسيا أيضًا من جانبها السعي لعدم تجدد الدعم العسكري السعودي لبعض فصائل المعارضة، مما يشكل تهديدًا لنجحاتها هناك؛ على سبيل المثال،أعلن جيش الإسلام الموالي للسعودية عن حل نفسه وهو أحد أكبر التشكيلات المسلحة في سوريا تحت ستار إعادة بناء جيش جديد للمعارضة يضم كافة الفصائل وهو ما لن يحدث بشكل كبير وإنما هو بمثابة إنهاء لوجود الرياض العسكري في سوريا.

استغلت روسيا الأزمة القطرية لتحقيق أهدافها بسوريا ومن الوارد أن تحاول بالتعاون مع دول المقاطعة إقصاء قطر كأحد أكبر مصدري الغاز

كذلك ترغب موسكو في استغلال فرصة المقاطعة الخليجية لقطر وحصارها واتهامها بدعم الإرهاب من أجل وقف دعمها لبعض الجماعات السورية المسلحة، باعتبارها أحد أكبر الداعمين للجماعات السورية، وبذلك تكون ضمنت الحفاظ على نجاحاتها، خاصة مع تخلي تركيا أيضًا عن المعارضة السورية وتركها لحلب ثم انشغالها الآن وإيران بانفصال إقليم كردستان العراق.

ومن ناحيتها تريد السعودية أيضًا تحسين أسعار النفط لسد العجز في خزانتها بسبب إنهاكها اقتصاديًا في حرب اليمن التي تجاوزت العامين بجانب الأموال التي دفعتها لترامب والدول الأخرى لشرائها في هذه الحرب والتدخل في بعض دول الربيع العربي، كذلك ترغب المملكة في ضمان عدم ميل الروس لقطر بل التعاون مع موسكو في ضرب الدوحة كأحد أكبر مصدري الغاز في العالم باعتبار أن روسيا من أكبر المصدرين له أيضًا.

وتحاول المملكة مع ذلك التعاون مع موسكو للضغط على إيران من أجل وقف تهديداتها لدول الخليج ووقف دعمها للحوثيين في اليمن حيث أنهكت هذه الحرب المملكة التي أعلنت وقت إطلاق «عاصفة الحزم» في مارس/آذار 2015 أنها لن تستغرق سوى ثلاثة أشهر.

وختامًا، من المرجح ألا يقدر المال السعودي على شراء بوتين فهو لن يضحي بمصالح آنية على علاقات استراتيجية كالتي مع إيران أو تركيا التي دعمها في مواجهة الانقلاب الفاشل رغم انقطاع العلاقات بين البلدين في ذات التوقيت على خلفية الأزمة السورية وإسقاط المقاتلة الروسية على حدود تركيا الشمالية، إلا أن المصالح الاستراتيجية دفعته إلى نجدة الأقربين.