عندما كان في السابعة عشرة من عمره، طالبًا في المدرسة الثانوية الفرنسية في بيروت، بدأ في كتابة المقالات لجريدة النداء التابعة للحزب الشيوعي اللبناني، في البداية كانت تلك المقالات بلا توقيع، لكن أسلوبها الأدبي وكلماتها المباشرة لفتت الأنظار إلى الكاتب المجهول؛ لذا في نفس العام بدأت الصحافة اليومية الناطقة بالفرنسية تطلب منه أن يمدّها بمقالاته، كان على رأس الصحف التي كتب معها سمير قصير صحيفة لوريون لوجور.

في تلك النقطة، ومبكرًا قياسًا للمسار المعتاد لأي صحفي، بدأ قصير في كتابة مقالات لصالح مجلة لوموند الفرنسية المرموقة، ظل 19 عامًا يكتب لها، من عام 1981 حتى أواخر عام 2000، لكن في تلك السنوات لم يجعل إسهامه الصحفي قاصرًا على لوموند وحدها.

فمثلًا ما بين عامي 1981 و1982 كان قصير المحرر الرئيسي لنشرة إخبارية بعنوان لبنان المُكافح، النشرة عُنيت بشكل حصري بالحديث عن إنجازات المقاومة اللبنانية في وجه الاحتلال الإسرائيلي، كما كان في الفترة ما بين عام 1986 حتى عام 2004 عضوًا في اللجنة التحريرية للصحيفة الناطقة بالفرنسية التابعة لمعهد الدراسات الفلسطينية، وفي تلك الفترة أيضًا بدأ الكتابة بالعربية لصالح جريدة الحياة اللندنية.

في نقطةٍ ما قرر قصير أن يُؤسس جريدته الخاصة، تحمل روحه وأسلوبه الخاص في الكتابة والتوجّه، فأنشأ مجلة لوريون لكسبريس، مجلة شهرية سياسية وثقافية، بدأها عام 1995، لكنها توقفت عن النشر عام 1998، وتوقفها جاء لأسباب مادية بسبب عدم اهتمام الجمهور باقتنائها، بالتالي واجهت الجريدة ضغطًا في إقناع المعلنين وإيجاد مصادر للتمويل.

 بعد إخفاق الجريدة توجه قصير للعمل أستاذًا في معهد العلوم السياسية التابع لجامعة القديس يوسف في بيروت، ودراسته السابقة ساعدته في الوصول السهل لهذا المنصب، فهو من خريجي جامعة السوربون الفرنسية الشهيرة، وقد حصل أيضًا على شهادة الدكتوراه في التاريخ الحديث.

انتفاضة داخل الانتفاضة

في أثناء عمله الأكاديمي بدأ في الكتابة والتحرير لصالح جريدة النهار، وذاعت شهرته في تلك الجريدة تحديدًا بسبب عموده الأسبوعي فيها، كانت معظمها مقالات حادة اللهجة ضد الحكومة السورية ومناصريها، وكان في المرات القليلة التي ظهر في البرامج التلفزيونية بصفته خبيرًا سياسيًا، يهاجم الاحتلال الإسرائيلي والحكومة السورية، فقد كان من أبرز معارضي أي تدخل خارجي في لبنان، لهذا أسس مع رفاقه حزب اليسار الديموقراطي عام 2004، بجانب إلياس عطالله ونديم عبدالله.

في تلك السنوات كانت مؤلفاته تتراكم في التراث العربي، فكتب تاريخ بيروت عام 2003، وتأملات في شقاء بيروت، وكتب أيضًا ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان: بحثًا عن ربيع دمشق، وصدر له أيضًا عنوان عسكر على من: لبنان الجمهورية المفقودة، كذلك كتب ديموقراطية لبنان من ديموقراطية سوريا، ولبنان: ربيع لم يكتمل.

كما أنه كتب عام 1992 كتابًا تشاركيًا مع المؤرخ السوري، فاروق مردم بك، بعنوان مسارات من باريس إلى القدس، يرصدان في كتابهما تاريخ السياسات الفرنسية في المشرق العربي، خصوصًا في ما يتعلق بالنكبة الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي.

كان جليًا أن رجلًا كهذا لا يجب أن يستمر في التأليف والتنظير لفكرته أكثر، خصوصًا أنه مع مرور الوقت يزداد التفاف الناس حوله، وتتسع دائرة تأييده. خصوصًا أنه كان من المحركين للانتفاضة الشعبية ضد الهيمنة المخابراتية السورية على لبنان، وهو من أطلق عليها لقب انتفاضة، نسبة إلى الانتفاضة الفلسطينة في وجه الاحتلال الإسرائيلي، والأهم من إطلاق الاسم، فقد كان سمير من أوائل من فطنوا إلى ضرورة وجود برنامج سياسي لتلك الانتفاضة.

فبقاؤها من دون برنامج سياسي يرسم مستقبل لبنان بعد التخلص من الهيمنة السورية يشكل خطرًا عليها؛ لهذا حرص الرجل على الوجود في ساحة الشهداء باستمرار يناقش الإعلاميين والمتظاهرين في ما يجب فعله حين تنجح حركتهم. كذلك كان سمير حريصًا على التمييز بين الانتفاضة على الهيمنة السورية كنظام ومخابرات، والتعامل مع السوريين كأفراد وأهل، هو نفسه من أب فلسطيني وأم لبنانية سورية.

أفكار لا تموت

في البداية تلقى الرجل ذو القامة الممشوقة، والوجه المبتسم دائمًا، والعينين المتوهجتين، اتصالًا هاتفيًا من اللواء جميل السيد، مدير الأمن العام آنذاك، يهدده فيه بشكل مباشر، ثم أرسل اللواء لاحقًا مجموعة من السيارات تطارد سمير، كما صادرت قوات الأمن جواز سفره في مطار بيروت الدولي، لكن بعد حملة دولية من الاستنكارات أعادت الأجهزة الأمنية إليه جواز السفر.

في يونيو/ حزيران عام 2005 اغتيل سمير قصير، الصحافي ووالد البنات، بسيارة مفخخة في القسم المسيحي في بيروت، لا أحد حتى الآن يعرف من قتله؟ فعلى المستوى الرسمي لا يزال التحقيق جاريًا في تلك الجريمة، لكن دون تحديد هوية الفاعل.

لكن الأقاويل المتناثرة تشير بأصابع الاتهام إلى الحكومة السورية، أو على الأقل فرقة مشتركة لبنانية وسورية، خصوصًا أن قصير كان يهاجم حكم الرئيس إميل لحود، كتجسيد للهيمنة السورية على لبنان، لكن بالطبع أنكرت أجهزة الأمن السورية واللبنانية تلك التهم جملة وتفصيلًا، ويبدو أن سر الاغتيال دُفن مع قصير في الرابع من يونيو/ حزيران في جنازته التي سار فيها المئات من متابعيه وقرائه.

كان سمير قصير رائدًا، لا في مجال الكلمة فحسب، بل في الاغتيالات أيضًا، فقد كشفت الأيام اللاحقة أن اسمه كان المقدمة لقائمة طويلة من الاغتيالات التي مزّقت لبنان، من أبرزهم اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في فبراير/ شباط عام 2005، كما اغتيل جورج حاوي، الزعيم الأسبق للحزب الشيوعي اللبناني، حتى طالت القائمة مي شدياق، مذيعة وصحفية في قناة إل بي سي، نجت شدياق من الحادثة بحياتها، لكن لم تنجُ قدمها و ذراعها.

لكن حتى اغتيال سمير قصير لم يمحُ مؤلفاته أو يمنع كلماته من الانتقال عبر الزمن، وفي عام 2006 أنشأ الاتحاد الأوروبي جائزة تحمل اسمه لحرية الصحافة، تُمنح تلك الجائزة كل عام في ذكرى اغتيال الصحافيين والكتاب الذين يتبنون مواقف داعمة لحرية التعبير.

وفي العام نفسه قررت مجموعة من المثقفين والمعجبين بسمير إنشاء مؤسسة سمير قصير، مؤسسة غير ربحية تهدف لنشر ثقافة الديموقراطية في لبنان والعالم العربي أجمع، كما تُعنى بدعم وتشجيع المواهب الصحفية الشابة.