المكان: ملعب سان سيرو بمدينة ميلانو شمال إيطاليا.

الزمان: الثالث عشر من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2017.

احتشد عشرات الآلاف من الجماهير الإيطالية وقد عقدوا العزم على الصراخ والتشجيع ما استطاعوا طوال 90 دقيقة، من أجل إنقاذ بطاقة التأهل إلى مونديال روسيا 2018، ومع خيبة أملهم من نتائج منتخب البلاد الكارثية خلال مشوار التصفيات، إلا أن كابوس الغياب عن نهائيات كأس العالم لم يسبق لأحدهم مشاهدته من قبل، فآخر إخفاق يعود تاريخه إلى خمسينيات القرن الماضي.

وأمام أنظار جماهير سان سيرو التي لم تتوقف لحظة واحدة عن الهتاف، أنتج لاعبو الآدزوري 27 تسديدة منها 6 على المرمى السويدي دون أن تسكن إحداهن الشباك، في حين سيطروا على مجريات اللعب بنسبة استحواذ بلغت 76%، ومرروا 682 تمريرة بلغت دقتها معدل 84%.

تعالت الصيحات ترج جنبات سان سيرو، ورفع قائد الآدزوري جيان لويجي بوفون رأسه وكفيه إلى السماء لعلها تأتي بهدية تنقذ تاريخه الطويل، ولكن الهدية لم تصل، وأهدر لاعبو الفريق جميع الفرص الممكنة لإنقاذ هيبة بلادهم، وانهالت دموع بوفون وزملائه لتروي أرضية الملعب.

عقب نهاية المباراة، خرج جيامبييرو فينتورا مهندس الفشل وعرّاب الإخفاق ليرفض إعلان الاستقالة أمام جموع غاضبة من الصحفيين، مؤكدًا أنه لن يتخذ قراره قبل أن يجتمع بمسؤولي اتحاد كرة القدم، ولم ينسَ التعبير عن أسفه وحزنه بسبب النتيجة، مشددًا أن الفريق بذل ما في وسعه ولم يكن الحظ حليفه أبدًا.

وفي اليوم التالي خرجت الصحف الإيطالية بعناوين قاسية فشلت جميعًا في وصف صدمة الجماهير والتعبير عن حجم الكارثة، وتحدّث بعضها عن أن الفشل في التأهل لنهائيات المونديال بمثابة نهاية العالم. وأكد البعض على تأثر الناتج المحلي الإيطالي بالغياب عن المونديال، وأن هذا الفشل الذريع سيظل وصمة عار ونقطة سوداء في التاريخ الكروي للبلاد، كما كتب أحدهم مودعًا ليالي كأس العالم السحرية ومشاهد المشجعين الإيطاليين الذين حلموا بالتجول في شوارع موسكو وسان بطرسبورج وكازان وسوتشي وهم يمسكون بقطعة بيتزا وزجاجة عصير، مؤكدًا أن مقاهي روسيا ستفتقد صناعة الإسبريسو صباحًا.

الصفحة الأولى لجريدة توتو سبورت بعد الفشل في التأهل للمونديال.
الصفحة الأولى لجريدة توتو سبورت بعد الفشل في التأهل للمونديال.
الصفحة الأولى لجريدة لاجازيتا ديللو سبورت بعد الفشل في التأهل للمونديال.
الصفحة الأولى لجريدة لاجازيتا ديللو سبورت بعد الفشل في التأهل للمونديال.
الصفحة الأولى لجريدة كوريري ديللو سبورت بعد الفشل في التأهل للمونديال.
الصفحة الأولى لجريدة كوريري ديللو سبورت بعد الفشل في التأهل للمونديال.

وفي سياق آخر صب عشاق الآدزوري في العالم العربي حمم غضبهم عبر منصات التواصل الاجتماعي التي اشتعلت بصور لأساطير كرة القدم الإيطالية مرفقة بأبيات شعر تنتمي لمدرسة البكاء على الأطلال وخراب الديار، وما تيسر من كربلائيات مُقبضة كريهة. كما ذهب البعض للمطالبة بإحضار فينتورا إلى ساحة الدومو في ميلانو من أجل جلده ورجمه وتجريسه جزاءً لما فعل بكرة القدم من جهة، وعقابًا على بلادة مشاعره بعد الإخفاق، وعدم حفاظه على آخر قطرات الخجل بتقديم الاستقالة الفورية مع صافرة نهاية المباراة.

بعد ذلك أعلن الاتحاد الإيطالي إقالة فينتورا من منصبه ليُسدل الستار على حقبة سوداء في تاريخ التكتيك الإيطالي صدَّرت للعالم أقبح وجه لكرة القدم في البلاد. وفي يوم الإثنين الموافق 20 من شهر نوفمبر، أعلن كارلو تافيكيو رئيس الاتحاد الإيطالي لكرة القدم تخليه عن منصبه، وأعرب عن أسفه الشديد لجموع الجماهير الإيطالية قائلًا: لقد حان الوقت لكي تبدأ الكرة الإيطالية عصرًا جديدًا.


التجربة المانشينية

في منتصف شهر مايو/ آيار الماضي، أعلن الاتحاد الإيطالي لكرة القدم تعيين روبيرتو مانشيني مدربًا للآدزوري، وذلك بعد أن كان هو المتجاوب الوحيد مع مفاوضات الاتحاد، حيث لم يرغب أنطونيو كونتي مدرب تشيلسي الإنجليزي حينها العودة إلى قيادة المنتخب، كما فضّل كارلو أنشيلوتي أن يخوض مغامرة جديدة رفقة أحد الأندية (نابولي لاحقًا)، وكانت أسهم مانشيني مدرب فريق زينيت سان بطرسبورج الروسي أعلى من العجوز الخبير كلاوديو رانيري، والشاب الطموح لويجي دي بيادجو، الذي تولى بدوره مهمة الإشراف على المنتخب خلال مباراتي الأرجنتين وإنجلترا في شهر مارس/ آذار.

حقبة مانشيني بدأت بخطة طموحة من جانبه لتجديد شباب الآدزوري، وإعادة المنتخب إلى مكانته التاريخية أوروبيًا، ولكنها لم تدخل حيز التفعيل حتى الآن، فالمنتخب الإيطالي خاض تحت قيادته 9 مباريات، افتُتحت بفوز على المنتخب السعودي وديًا في نهاية شهر مايو/ آيار الماضي بهدفين مقابل هدف، ثم سقوط كبير في أول اختبار جدي أمام ديوك فرنسا بثلاثة أهداف مقابل هدف، أعقبه تعادل بهدف لمثله أمام هولندا التي كانت تداوي جراح الإخفاق في التأهل إلى المونديال.

بعد ذلك انطلق المشوار الرسمي الأول للرجل في دوري الأمم الأوروبية، بطولة مستحدثة ابتكرها رجال الاتحاد الأوروبي من أجل تعزيز الحصيلة المالية، نتائج الآدزوري خلالها تباينت صعودًا وهبوطًا، فتعادل الفريق بشق الأنفس في أولى المباريات أمام منتخب بولندا، قبل أن يسقط أمام البرتغال في الجولة الثانية، وأخيرًا حقق فوزًا عسيرًا أمام بولندا بهدف جاء في الدقيقة الثانية من الوقت بدل الضائع، ثم قدم الفريق أفضل عروضه أمام البرتغال ولكنه عجز عن هز الشباك رغم سيطرته التامة على مجريات اللقاء، وتخلل المسيرة الرسمية مباراة ودية أمام أوكرانيا انتهت بالتعادل بهدف لمثله، وختامًا حقق الفريق فوزًا تم استنساخه من مباراة بولندا، بهدف نظيف في الثواني الأخيرة على حساب الولايات المتحدة الأمريكية وديًا.

حصيلة مانشيني حتى الآن خلال 9 مباريات هي 4 تعادلات، وفوز أمام السعودية وانتصاران بمعجزة أمام بولندا والولايات المتحدة، وخسارة أمام البرتغال وسقوط أمام فرنسا، حصيلة لم ترتقِ بعد لطموحات الجماهير المتشوقة لرؤية ملامح طريق العودة الذي وعد به روبيرتو قبل 6 أشهر.


عقم تهديفي

خلال مباريات المنتخب الإيطالي تحت قيادة مانشيني، سيطرت لغة الاستحواذ والتمرير على النص الفني للآدزوري، ولكن برزت إلى جانبها مشكلة العقم التهديفي، فما فائدة السيطرة في غياب ترجمتها إلى نتيجة ملموسة؟

معضلة كبرى تؤرق المدرب في مرحلة يحاول خلالها إعادة بناء قوام الفريق، وقبل أي مواجهة قد يتساءل مانشيني: أي اللاعبين لديه القدرة على ترجمة السيطرة إلى أهداف؟ هل هو شيرو إيموبيللي أبرز الهدافين الإيطاليين في الدوري والذي يفقد ذاكرته عندما يرتدي قميص الآدزوري، أم أنه الفتى غريب الأطوار ماريو بالوتيللي الذي أضاع أكثر من نصف مسيرته في مهاترات عبثية، أم أنه أندريا بيلوتي مهاجم تورينيو الذي يعيش أوقاتًا سيئة رفقة فريقه تورينو، حتى عندما تهُب رياحه المحلية يفشل في اغتنامها بقميص المنتخب، أم تراه الثنائي ليوناردو بافوليتي وكيفين لازانيا اللذان يفتقدان إلى الخبرة الدولية وما زال أمامهما الكثير من العمل والتطوير؟ الإجابة: لا أحد.


مشروع طويل الأمد

ربما يرى البعض أن الوقت ما زال مبكرًا جدًا لتقييم التجربة، لا سيما وأن الرجل قد تسلم جيلًا يخلو من المواهب، ويحتاج الكثير من العمل لفترة قد تمتد لأعوام، ولكن في الوقت نفسه برزت التجربة الهولندية التي تعد بنتائج كبيرة خلال الأعوام المقبلة.

منتخب الطواحين بعد الإخفاق في التأهل المونديالي، عاد لبناء نفسه مجددًا تحت قيادة رونالد كومان وحقق 4 انتصارات حتى الآن أمام البرتغال وبيرو وديًا، وألمانيا وفرنسا في دوري الأمم الأوروبية، كما أنه يقدم مستويات طيبة للغاية مقارنة بما نراه في مباريات إيطاليا تحت الإدارة المانشينية، ويكفي أن الفريق قد تمكن من العبور إلى المربع الذهبي لدوري الأمم من مجموعة حديدية ضمت آخر بطلين لكأس العالم.

معضلة الكرة الإيطالية قد تكون أشد تعقيدًا، خاصة في ظل غياب كبير لمدارس الناشئين ودورها في تفريخ المواهب الشابة الصاعدة مقارنة بما يحدث في هولندا. وعلى الرغم من تألق اللاعبين الشباب وتأهل منتخب الناشئين تحت 17 عامًا، ومن بعده منتخب الشباب تحت 19 عامًا للمباراة النهائية في بطولات أوروبا الشبابية، إلا أن هذه المواهب عادة ما تضل طريقها ولا تجد الرعاية المناسبة، ويندر أن تشاهد أحد هذه العناصر قد حجز مكانه في تشكيلة أحد الأندية الكبيرة في الدوري الإيطالي.

ولكن إن لم تكن نكسة الثالث عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني هي نهاية العالم القديم للكرة الإيطالية والتخبط الإداري وغياب التخطيط عن أروقتها، وإعلان بداية جديدة تأذن بعودتها للساحة التنافسية مرة أخرى، فمتى ستكون الاستفاقة إذن؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.