هناك في بيلاروسيا حيث تغطي الثلوج كل شيء، تحكي قصة شعبية عن رجل فقير كان في منتصف طريقه الطويل نحو قرية نائية لكي يتمم عمله ويقبض أجره، عندما قابل الشيطان. لم يتعرف الرجل الطيب على الشيطان في أول الأمر، فصاح به مرحبًا أيها الغريب. دهش الشيطان كيف لا يعرفه هذا الفقير، فباغته: إن كنت لا تعرفني فدعنا نتعرف على بعضنا البعض.لم يمهل الشيطان الرجل وقتًا للإجابة، وقرر أن يغني كل منهما للآخر أغنية حتى يتعرفا على بعضهما أكثر، أجابه الرجل أن طريقه طويل وعليه أن يتم عمله في قرية نائية لكي يقبض أجره الذي يحتاج إليه بشدة، فاقترح الشيطان أن يحمل كل واحد منهم الآخر فوق ظهره ويسير به في الطريق نحو القرية ريثما ينتهي من أغنيته.ركب الشيطان فوق ظهر الرجل وبدأ في الغناء وأطال حتى تعب الرجل من هذا الحمل، لكنه فطن إلى الخدعة وعرف أنه الشيطان، فاحتمل ثقله وصبر حتى جاء دوره، وبمجرد أن ركب على ظهر الشيطان حتى بدأ في الغناء دون انقطاع وبعد أن انهارت قوى الشيطان سأله هل اقتربت أغنيتك من الانتهاء، فأخبره أنه لم يبدأ في غناء المقطع الرئيسي بعد. ألقى الشيطان الرجل من فوق ظهره وفر هاربًا، مقررًا ألا يصادفه في طريق أبدًا مرة أخرى. تلك حكاية شعبية تُحكى لتقر بأن الفقر والحاجة إلى المال تُكسب المرء حكمة تمكنه من هزيمة الشيطان نفسه، لكن ماذا لو كان الفقر هو الشيطان نفسه.


سانشيز الذي ركب فوق ظهر شيطانه

في النصف الآخر من الأرض هناك في تشيلي حيث تغمر الشمس كل شيء، كانت عائلة أليكسيز سانشيز قد حملت شيطانها فوق ظهور أبنائها لسنين، كان الفقر هو شيطانهم الأثير.ولد أليكسيز في مدينة توكوبيلا بشمال تشيلي، حيث يسيطر نشاط التعدين على مجريات الأمور. ترك والده العائلة وهو صغير رفقة ثلاثة إخوة. بدأت تعمل والدته كخادمة وبائعة للأسماك في الشارع. كان الجميع يحاول أن يساعد في جلب المال حتى أن سانشيز الصغير كان يغسل السيارات عند بوابة مقابر المدينة.عاش سانشيز طفولة بائسة تمامًا، في بعض الأحيان كان يشعر بالجوع لدرجة أنه كان يطرق أبواب الجيران ويطلب الخبز.لم تكن تعلم عائلة سانشيز أن دورها في الغناء سيأتي أيضًا بفضل أقدام ذلك الصغير. ظهرت مهارات أليكسيز منذ الصغر وبشكل لافت للجميع. بدأ اللعب في سن صغيرة في نادٍ محلي بالمدينة، ثم قرر معلمه ومدربه الأول أن يرسله إلى نادي كوبريلوا خارج المدينة التي تعج بالمخدرات وهو في سن الرابعة عشرة.وبمجرد أن وصل إلى ناديه الجديد أخبر مدربه الجديد أنه يريد لعب الكرة ليقدم لأمه حياة آمنة، فوالدته التي رغم فقرها الشديد كانت تؤمن بموهبة صغيرها، فبينما لم تستطع أن توفر له زوجين من الأحذية ليلعب بهما كرة القدم، تقدمت بطلب إلى رئيس البلدية لتزويدها بزوجين جيدين من أحذية كرة القدم؛ لأنها تؤمن أن طفلها سيصبح لاعبًا عظيمًا في المستقبل. تدرج سانشيز في صفوف كوبريلوا، وعندما وصل لسن السادسة عشرة كان يجني 50000 بيزو تشيلي في الشهر، أي ما يعادل 60 جنيهًا إسترلينيًّا. لقد احتمل سانشيز أغنية الشيطان حتى انتهت عن آخرها، وعندما أعطته الكرة فرصة للركوب على ظهر شيطان الفقر بدا أنه لن ينتهي من الغناء أبدًا.

عندما كنت طفلًا كانت والدتي تعمل من أجلنا، وأنا لم أحب ذلك. عندما بدأت العمل كعاملة نظافة في المدرسة التي أرتادها اختفيت لأنني لم أحب رؤيتها هناك.
تصريح سابق لأليكسيز سانشيز

الشيطان يفر هاربًا

لعب سانشيز في الصف الأول لفريق كوبريلوا وهو في السادسة عشرة ولم تحتج موهبته اللافتة للكثير لكي تلمع، هذا اللمعان وصل بريقه لشمال إيطاليا خلال موسم واحد. التقطته أعين النادي الإيطالي أودينيزي عام 2006، ثم أتم إعارته لنادي لوكو لوكو أكبر أندية تشيلي نظرًا لصغر سنه. وفي العام التالي تمت إعارته للعملاق الأرجنتيني ريفر بليت. هذا العام تحديدًا شهد حدثًا مهمًا لسانشيز حينما لعب بقميص المنتخب التشيلي كجناح أيسر خلف المهاجم الأيقونة لتشيلي الأباتشي سالاس. لطالما كان يحلم سانشيز برؤية سالاس مثله الأعلى ومبتغاه في كرة القدم، فها هو يلعب بجواره بل تتجه الأعين نحوه لا نحو سالاس. طوال فترة تألق سانشيز في تشيلي كان لا زال يجرب الغناء لأول مرة، كان شيطان الفقر يراوده رغم ذلك منتظرًا أن ينقض فوق ظهره ويبدأ الغناء مرة ثانية. حانت لحظة الحقيقة أخيرًا، فالنادي الإيطالي قرر أن يكتفي بتلك الإعارات و يستدعي سانشيز الذي أثبت صدق موهبته للعب بصفوف الفريق الإيطالي الأول.لم يكن الأمر سهلًا في البداية، هذا الفقير الذي كان يقترض الخبز من جيرانه ليسد رمقه عليه الآن أن يحيا حياة المحترفين في إيطاليا. تسمى جنة كرة القدم طالما أنك تتألق، لكن في حالات الانكسار فالصحافة الإيطالية لا ترحم. لن يمهلك أحد الكثير لثبت أن ذلك الوجه اللاتيني المبتسم قادر على صنع الفارق. شيطان الفقر ما زال يحملك، ولكنه متأبه للانقضاض فوقك، إذا ما عدت لتشيلي سريعًا. بدأ سانشيز يغني ثم يغني، على أرض الملعب كانت أغنيات سانشيز تطرب الجميع. خطف أنظار أوروبا كلها بأداء تصاعدي من جيد لأفضل. أصبح محل اهتمام الأندية الكبرى في أوروبا. لثلاث سنوات كان سانشيز يغني ويغني على الملاعب الإيطالية، أُرهق منه شيطان الفقر، وعندما سأله هل انتهت أغنيته فأخبره أن المقطع الرئيسي لم يبدأ بعد، فالمقطع الرئيسي سيبدأ هناك في برشلونة. حينئذ ألقى الشيطان الرجل من فوق ظهره وفر هاربًا مقررًا ألا يصادفه في طريق أبدًا مرة أخرى.


من أفقر الفقراء إلى الصفقة الأغلى

بدأ كأفقر فقراء تشيلي، والآن أصبح أغلى لاعب في تشيلي في سوق الانتقالات، وهو في عمر الـ 22. ذلك بعد أن قرر برشلونة الإسباني الفوز بخدمات التشيلي الصغير مقابل 25 مليون يورو. أصبح سانشيز عضوًا في فريق برشلونة التاريخي. كان عليه القتال كما اعتاد دومًا ليحصل على مكان وسط نجوم بحجم ميسي وفيا وبيدرو، حيث كان يجيد سانشيز اللعب في مراكز الهجوم جميعًا.

ما زال في سن صغيرة ويمكنه اللعب في ثلاثة مراكز هجومية مختلفة.
بيب جوارديولا متحدثًا عن سانشيز بعد إتمام تعاقده مع برشلونة

بعيدًا عن تقييم فترة سانشيز رفقة برشلونة من حيث المشاركات والفاعلية، لكن لا ينكر أحد كيف تطور سانشيز وصُقلت موهبته كثيرًا بصفوف البلوجرانا. أصبح سانشيز ببساطة لاعب كرة قدم من الفئة الأولى، قادرًا على قلب موازين المباريات، يجيد المساندة الدفاعية. أصبحت تحركاته في الملعب أكثر خطورة وفاعلية. كان سانشيز يتطور كل يوم وكل مباراة حتى تفهم أليكسيز أنه يحتاج لما هو أكثر .

في برشلونة تعلمت كيف ألعب كرة القدم من جديد، من أندريس إنييستا تعلمت كيفية تسريع إيقاع اللعب، من تشافي كيفية التحرك، من ليونيل ميسي كيفية التفكير.

بداية سانشيز الفقيرة أكسبته ما يلازمه طوال حياته، التصميم على الوقوف تحت بقعة الضوء والطموح للمزيد دائمًا. يمتاز فريق برشلونة بما هو مختلف، حيث يعج الفريق بالنجوم والخبرات والكاريزما والإتقان، وهناك ضوء ميسي الوهاج الذي يطغى على الجميع. أراد سانشيز أن يصبح بطل قصته وأن يتمحور حوله الجميع، كان يشعر أنه الآن أصبح مؤهلًا تمامًا ليتصدر صورة الغلاف وتبنى حوله الخطط، وهو ما وجده في نادي أرسنال الإنجليزي الذي كان بدوره في أشد الاحتياج إلى بطل.

داني ألفيش ظهير برشلونة السابق


بطل دون بطولات

استهل سانشيز بداية فترته مع الأرسنال بتصريح يفيد بسعادته بالانضمام لفريق عظيم ومدير فني كبير ودعم جماهيري هائل، وعلى الجانب الآخر كانت جماهير الأرسنال أكثر سعادة، فاللاعب الذي كان قد قدم أداءً رائعًا في كأس العالم البرازيل 2014 كان بمثابة الحلم لجماهير الأرسنال نحو عودة النادي للبطولات والمنافسة على لقب البريميرليج الذي أصبح بعيد المنال. كان وجود أوزيل وانتداب سانشيز بادرة أمل نحو عودة أرسنال، كانت القصة مثالية، وهو ما لم يحدث للأسف.لم تكن الرواية رومانسية، بل كانت رواية واقعية للغاية، فبمقارنه بسيطة بين انتدابات أرسنال الأبرز التي رافقت سانشيز للأرسنال وانتدابات تشيلسي الذي توج ببطولة الدوري الإنجليزي نفس العام سيتضح الفارق الضخم.انتدب أرسنال داني ويلبيك من مانشستر وتشامبرز من ساوثهامبتون وأوسبينا من نيس، بينما فرط في خدمات بكاري سانيا وتوماس فيرمالين في الدفاع. بينما نجح تشيلسي في انتداب كورتوا ودييجو كوستا ولوكاكو وفيليبي لويس وكواردادو وفابريجاس لاعب الأرسنال السابق، بينما لم يستغنِ عن عنصر أساسي من الفريق سوى صاحب المستوى المنخفض حينئذ فرناندو توريس. القصص الحالمة لا تتفوق على المال، تلك حقيقة يعرفها سانشيز منذ أن ولد. كان الرحيل من أرسنال صعبًا ودراميًّا على جماهير الأرسنال، لكنه كان أمرًا حتميًّا طبقًا لشخصية سانشيز. لن يستطيع سانشيز أن يبقى بطلًا دون بطولات. ربما ما جعل الرحيل أكثر قسوة أنه كان للغريم مانشستر يونايتد بعد أن رفض تجديد تعاقده.


مانشستر يونايتد: حينما يكون مشهد انتقالك هو الأبرز

إنه لاعب عظيم وكنت أعرف دائمًا أنه سيكون ناجحًا عندما غادر، خاصة إذا ذهب إلى مكان ما ليكون بطل الرواية. إنه نوع اللاعب الذي يحتاج ذلك.

من فوق مقعد عازف البيانو ارتدى سانشيز قميص اليونايتد للمرة الأولى، ثم انتهى الإعلان عن انتداب سانشيز بزفرة نجاة زفرها سانشيز من قلب الأولد ترافولد، ربما ذلك عمَّق جراح جماهير الأرسنال التي أحبت سانشيز بصدق. وكأنه أخيرًا نفض عبء الأرسنال من فوق كتفيه لينضم لنجوم اليونايتد، لكن هل ذلك فقط هو ما جعل سانشيز بتلك السعادة البادية على وجهه.فضل سانشيز الانتقال لليونايتد على الالتحاق بكتيبة جوارديولا في السيتي ليصبح سانشيز أغلى لاعبي الدوري الإنجليزي من حيث ما يتقاضاه من راتب، حيث يبلغ ما يتقاضاه 315 ألف إسترليني في الأسبوع، ربما كان يتنهد سانشيز في وجه الفقر، ربما تذكر كيف كان سعيدًا بـ 600 إسترليني في الشهر. ربما لمح الشيطان ما زال يركض حتى لا يلاقيه مرة أخرى.إلا أن تلك اللقطة هي أهم ما يميز فترة سانشيز مع مانشستر يونايتد، وهو بالطبع ما أصاب جماهير الشياطين الحمر بخيبة الأمل. فما بين إصابات متقطعة وجلوسه على مقاعد البدلاء وفترة تعج بالتناقضات تحت إمرة جوزيه مورينهو لم يستطع سانشيز أن يقدم شيئًا رفقة اليونايتد. وأصبح الحديث عن نهاية سانشيز يتردد كما لم يتردد من قبل.إلا أنه هذا التشيلي العنيد يؤمن تمامًا أنه لن ينتهي هكذا، ففي كل عيد ميلاد يعود لتوكوبيلا حيث ولد ليوزع هدايا لسكان المدينة ويدفع أيضًا تكاليف بناء ملاعب كرة القدم في توكوبيلا. يستعيد بكل ذلك عناده وطموحه وتصميمه على النجاح. يدرك أن الناس لا زالوا يؤمنون به.لم يتوقع أحد أن يقال مورينهو بهذا الشكل من تدريب اليونايتد، إلا أن سانشيز ربما كان يعرف في قرارة نفسه أن ذلك سيحدث؛ لأن تلك القصة التي بدأت بهزيمة الشيطان لا يمكن أن تنتهي بتلك النهاية التقليدية، لا زال هناك الكثير.

أخبرني أنه يريد أن يصبح أفضل لاعب في العالم.
تصريح مدرب أليكسيز سانشيز الأول في حياته