يقدم كتاب «العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري» إعادة قراءة للتاريخ من قبل عصور كتابة التاريخ، ويستشرف المستقبل، ويتوقع أن يدخل الجنس البشري الحالي مرحلة تطور جديدة، يتحول من خلالها إلى شبه إله.

يقوم مؤلف الكتاب «يوفال نوح هراري» معلومات تاريخية كثيرة في عدة علوم ويربطها معاً، ويُعيد تحليل المعلومات برؤية مختلفة عن السائد أو التفكير الشائع، فهو يستخدم دراسات طبقات الأرض مع البيولوجيا والأنثروبولوجيا والآثار وعلم الاجتماع والاقتصاد والقانون والنظم السياسيةـ فلا يقتصر على العلوم الاجتماعية ولكنه يستخدم علوم الأحياء والفيزياء وهندسة الجينوم في إعادة قراءة التاريخ واستشراف المستقبل، ليصل إلى نبوءته، التي ويدّعي- في الختام- أنها مجرد استفزاز لخيال القارئ، وأنها أقرب إلى حلم يقظة أعلن عنه وحَكَاه على الملأ.

الخيال هو محور الكتاب وبؤرته ومرجعيته

خيال الكاتب هو منهجه الأساسي في كتابه، فيطرح أسئلة مختلفة ويقدم إجابات متعددة من وجهات نظر مختلفة، ويستفز القارئ باختياره لإجابة غير سائدة، ويخبر القارئ بعدها بعدة سطور عن إدراكه لصدمة القارئ من الإجابة المطروحة.

الخيال هو العنصر الأساسي الذي طوّر البشرية، فالأنظمة مُتخيَلة… والأديان مُتخيَلة… والجماعات مُتخيَلة… والمجتمعات مُتخيَلة… والدولة مُتخيَلة… والشركات مُتخيَلة… والعادات والتقاليد والأعراف والقوانين مُتخيَلة. إن البشرية وضعت خيالاً واختارت أن تُصدِّقه حتى تتعاون تحت مظلة هذا الخيال وتتوحد وتنجح وتتطور.

فيقول:

اخترع الناس قصصاً عن آلهة عظيمة، وأوطان، وشركات مساهمة، لتوفير الروابط الاجتماعية الضرورية، في حين كان التطور البشري يبني شبكات مذهلة من التعاون الجماعي كما لم يحدث من قبل على وجه الأرض.

كانت الشبكات التعاونية عبارة عن أنظمة مُتخيَلة، لم تكن غريزية، ولكن قامت على الإيمان بأساطير مشتركة، لأن الإيمان بنظام معين يُساعدنا على التعاون بفعالية وتشكيل مجتمعات أفضل. فالوطن هو المجتمع المُتخيَل للدولة، وقبيلة المستهلكين هي المجتمع المُتخيَل للسوق. وشركة «بيجو» هي خيال قانوني اكتسب الشخصية الاعتبارية كشركة ذات مسئولية محدودة، وكذلك شريعة «حمورابي» هي من أجل النظام المُتخيَل، مثلها مثل إعلان الاستقلال الأمريكي.

ويوضح أن هناك ثلاثة عوامل تمنع الناس من إدراك أن النظام المتخيل في حياتهم ليس حقيقياً وموجوداً في خيالهم فقط:

  1. أن النظام المتخيل مُدمَج في العالم المادي.
  2. يُشكِّل النظام المتخيل رغباتنا.
  3. النظام المُتخيَل جمعي.

وهنا يظهر تأثر الكاتب بـ«كارل غوستاف يونغ» وفكره عن الوعي الجمعي. فالمال خيال… والذهب خيال… والطبقات خيال… والإمبراطوريات خيال… والتمييز خيال (تمييز على أساس الجنس أو العرق أو الطبقة أو اللون)، فالخيال يجعلنا نتعاون تحت مسميات مختلفة… تجمعنا معاً من الأسرة إلى الجماعة إلى المجتمع إلى الدولة إلى القومية إلى العالمية والعولمة، فالإمبراطورية العالمية التي تُصاغ في زمننا الحالي لا تخضع لأي دولة محددة أو مجموعة عرقية معينة، فالعولمة تحكمها نخبة متعددة الأعراق، تربطها ثقافة ومصالح مشتركة، وتجتذب العديد من رجال الأعمال والمهندسين والخبراء من شتى المجالات في جميع أنحاء العالم للانضمام إلى العولمة. فالعولمة تطور لتوحيد البشر الذين مروا باتجاهات توحيد سابقة من خلال: المال والدين والإمبراطوريات.

يقدم الكاتب رؤيته حول شهود العصر الحديث، وصعود عدد من أديان القانون الطبيعي الجديدة مثل: الليبرالية والشيوعية والرأسمالية والقومية والنازية. ويُوضِّح أن هذه العقائد لا تُحِب أن يُطلَق عليها أدياناً، بل أيديولوجيات. وبذلك يمكن تقسيم العقائد إلى: ديانات تتمحور حول إله، وأيديولوجيات تستند إلى قوانين طبيعية. وتُصنَّف البوذية والطاوية والرواقية كأيديولوجيات وليست ديانات.

ومن هنا يتضح اعتماد الكاتب منهج الخيال أو «علم اجتماع المخيال» الذي نظر له «غيلبرت دوراند» في كتابه «الخيال الرمزي»، ووضحت «فالنتينا غراسي» تكوينه في كتابها «مدخل إلى علم اجتماع المخيال» [1]. حيث طبّق المؤشرات المنهجية لعلم المخيال واستخدمه في تحليل التاريخ والرمز والأسطورة واللغة والرياضيات.

يقول «غيلبرت دوراند»:

وظيفة الخيال هي مثل كل شيء… وظيفة «تورية»، ولكن ليست مخدراً سلبياً، بل دينامية مستقبلية تحاول تطوير موقف الإنسان في العالم عبر كل بني المشروع الخيالي. [2]

ومن هنا استخدم الخيال في بناء نبوءته عن تطور البشرية.

العلم من أجل اكتساب المزيد من القدرة

يوضح الكتاب سمات اختلاف العلم الحديث عن المعرفة السابقة، وذلك عن طريق:

  1. الاستعداد للاعتراف بالجهل.
  2. أهمية الملاحظة والإحصاء الرياضية.
  3. اكتساب قوى جديدة (قوة المعرفة).

ويُبرِز «مشروع جلجامش» -جلجامش الذي عقد العزم على ألّا يموت أبداً- فكرة «الإنسان الخالد»، فلقد تمكّنت الهندسة الوراثية من تمديد متوسط عمر دودة الربداء إلى ستة أضعاف عمرها، فهل من الممكن فعل نفس الشيء مع الإنسان؟

ثم وضّح ارتباط العلم والبحوث العلمية بالاستعمار ورأسمال واستفادة الاقتصاد والسياسة، وتحول البحوث العلمية الطبية من علاج الأمراض إلى زيادة القدرات البشرية، وتوقع بأن ذلك سيخلق نوعاً جديداً من التمييز الطبقي، فبينما سيكون الحق في العلاج مكفولاً للجميع، إلا أن زيادة القدرات البشرية ستكون مرتبطة بالقدرات المالية، حيث سينجح الأغنياء في زيادة قدراتهم، بينما يفنى الفقراء.

ويطرح الكاتب سؤالاً عن السعادة، هل هي إحساس فوري بالمتعة أم رضا طويل الأمد أم هي التوافق بين خيال الشخص وأوهامه حول المعنى والمغزى من الحياة مع الخيال الجمعي السائد؟

ويختم بأننا آلهة… خلقت نفسها بشراكة قوانين الفيزياء، ولا يوجد من يُسائلنا، ونسعى إلى راحتنا ومتعتنا… ولم نجد الرضا… آلهة غير راضية وغير مسئولة ولا تعرف ماذا تريد.

خيال منحاز وغير موضوعي

الكتاب شعبي في تناوله وبساطته، على الرغم من كثافة المعلومات والمعارف المتداخلة فيه، فإن تحليلاته خيالية وغير موضوعية، فعلى سبيل المثال، عندما تحدّث عن المجتمعات المتخيلة، قدّم العراق وسوريا كدول مُتخيَلة لا تحمل بين جوانبها عناصر وحدة الدولة، بينما لم يتحدث عن الكيان الصهيوني المُحتِل لفلسطين كدولة متخيلة منقطعة عن أصولها وتاريخها التي تحاول أن تبتدعه.

الكاتب ينحاز إلى البوذية بوصفها طريقة حياة أو أيديولوجية، ويُقدِّم طقوسها وأفكارها كأجوبة مقترحة وأخيرة ومُفضَّلة عن كثير من الأسئلة الوجودية التي تمر بخاطر كثير من البشر، حول السعادة والرضا والمتعة والأديان والخير والشر.

الكتاب مُستفِّز للفكر ومُثيِر للجدل بينك وبين نفسك كقارئ، فهو يجعلك تعيد التفكير في كثير من معتقداتك أياً ما كانت، ويجعلك تنتقد كثيراً من أفكاره وتبحث عن إجاباتك الخاصة بعيداً عن إجاباته المحتملة، وما يُميِّز الكتاب الأسئلة المطروحة في منتصف الفصول، والتي تبحث عن إجابات مختلفة.

يُعيِد الكتاب تحليل نظريات مثل التطور والانتخاب الطبيعي، ويُبرِز دلائل عدم صحتها من خلال الاكتشافات الأثرية المختلفة، ويُقدِم تفسير تطور مراحل الإنسانية والإنسان بشكل مختلف، ويضع تصوره عن تطور الهندسة الجينية ودورها في الانتخاب الطبيعي، فيقول:

سوف يختفي جنس الإنسان العاقل قريباً، في غضون قرون أو حتى عقود قليلة. وبفعل التقنيات الجديدة، سوف يرقّي العاقل نفسه إلى شيء مختلف تماماً، ليمتلك خصائص الآلهة وقدراتها. بدأ التاريخ عندما اخترع الإنسان الآلهة، وسوف ينتهي عندما يُمسِي الإنسان إلهاً.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. للمزيد: فالنتينا غراسي، “مدخل إلى علم اجتماع المخيال: نحو فهم الحياة اليومية”، ترجمة: سعود المولى ومحمد عبد النور، المركز العربي للأبحاث، 2018.
  2. غيلبرت دوراند، “الخيال الرمزي”، ترجمة: علي المصري، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، لبنان، 1991.