صيف 1983، الهدوء الحذر يسود أوساط المثقفين والناشطين المسلمين في البوسنة والهرسك، وملامح الترقب تبدو على وجوه متابعي أشهر محاكمة سياسية في يوغسلافيا السابقة، حوكم فيها الفكر، وكان هو التهمة الأولى والوحيدة ربما، والتي سميت بـ«محاكمة المثقفين المسلمين»، أو «قضية سراييفو» كما اشتهرت.

تروي «ميرسادا حسين» ما جرى معها في مارس/آذار من العام ذاته ،قبل أن تقرّر هي وزوجها الفرار من الاعتقال في يوغسلافيا:

دقّ باب البيت، كنت مع صديقتي، فتحنا الباب وإذا بصالح صديق العائلة يقول: لن أدخل، ‪ سأقول لكما شيئًا ما بسرعة وبعدها لن تروني ولا أريد أن تكون لكما بي أي علاقة، أخبرني شخص ما يعمل في وزارة الداخلية أن أمر الاستدعاء قد صدرت بحقك وحق زوجك، ولكن صوركما لم توزع بعد على نقاط الحدود كمطلوبين، اتخذا إجراءً ما بسرعة فالوضع خطير

لا تعتقد «ميرسادا» أن قرارهما بالفرار كان خاطئًا، فالوقائع التي جرت بعد ذلك، وكمّ الضغط والتعذيب والقهر والتلفيق الذي مُورس على الذين تم استدعاؤهم كان كبيرًا لا يتمناه أي أحد، والأحكام الصادرة وظروف السجن ظالمة إلى أبعد مدى.

كان سبب الاشتباه بنا وصدور الأمر بالقبض على زوجي هو ترددنا على «Tabački mesdžid» أو المسجد التبتشكي، حيث كان أساتذة وطلاب كلية العلوم الشرعية في سراييفو يعقدون ندوة أسبوعية تناقش التحديات والأسئلة التي يواجهها مسلمو البوسنة والهرسك وهم يحاولون الموازنة بين تمسكهم بدينهم وواقعهم السياسي والاجتماعي ضمن دولة اشتراكية هامش الحرية الدينية فيها محدود

آنذاك، وعلى مدى أربعين عامًا تقريبًا من الحكم الشيوعي، جرى طمس الهوية الدينية للبشناق، وكذلك ثقافتهم وتاريخهم.يذكر «جمال الدين لاتيتش»، أحد شعراء البوسنة المشهورين في العصر الحديث، كيف كانت المساجد مهجورة، وتعامل معاملة المتحف أو المعرض الفني، وكيف كان طلاب المدرسة الشرعية يعاملون معاملة المغضوب عليهم، فلا تقبلهم أي كلية في تخصصاتها، ونشأ شعور بالنقص عند المسلمين أنفسهم بسبب اعتبارهم أقل ثقلًا ومكانةً في الدولة من نظرائهم الصرب أو الكروات أو السلوفينيين الذين يشتركون معهم في المواطنة ضمن يوغسلافيا الاتحادية، ولذلك بعد عامين من إنشاء كلية تدرس الدين الإسلامي كان من الطبيعي أن تحاول القلة الباقية أن تتمسك بالأفكار الإسلامية ونشر الوعي والثقافة الإسلاميتين.

«لم تُطرح أبدًا قضايا سياسية، ولم تكن هناك أي دعوة للعنف ضد الآخر، كانت مناقشاتنا تدور أكثر في إطار الحياة اليومية وكيف نتعاطى كمسلمين معها، والندوة مفتوحة لكل من يريد الحضور». تقول ميرسادا.

لكن يبدو أن السلطات كان لها رأي مخالف تمامًا ،فقد اعتبرت هذه الندوة بمثابة الدعاية لأفكار تسعى لتأسيس نواة تجمع قومي إسلامي يهدف لقلب نظام الحكم، وإقامة دولة إسلامية في البوسنة والهرسك وتطهيرها من الأديان الأخرى، وربطتها بمجموعة أخرى من المثقفين المسلمين الأكبر سنًا، على رأسهم الرئيس البوسني الراحل «علي عزت بيغوفيتش»، الذي كان قد ألّف كتابه «الإعلان الإسلامي» ومُنع من نشره في يوغسلافيا، وما ورد فيه من أفكار كان دليل الاتهام القاطع الذي رفعته المحكمة.

يقول علي عزت بيغوفتش عن كتابه: «وعلى الرغم من أنني كتبته في سراييفو، إلا أن جل اهتمام الكتيب كان مُنصبًا على العالم الإسلامي وليس يوغسلافيا، حتى إنه لا يوجد ذكر ليوغسلافيا في ذلك النص، وتدور الفكرة الرئيسية في الكتيّب حول المبدأ القائل، إنّ الاسلام هو وحده الذي يستطيع إعادة إحياء القدرات الخلّاقة للشعوب المسلمة بحيث يمكنهم مرة أخرى من أن يلعبوا دورًا فعّالًا وإيجابيًا في صنع تاريخهم».

ما جرى هو اجتزاء لمقاطع بهدف إثبات التهمة بالسعي لتشكيل مجموعة منظمة سرية تطبّق ما ورد في الكتاب، واعتبر الإدعاء أن كتاب «الإعلان الإسلامي» يفصّل كيفية إحياء تنظيم «الشباب المسلمين».

من يتصفح الكتاب يتضح له أنه فكري بحت، يناقش بعقلانية وليس خطابًا دعائيًا يهدف لحشد الناس، وحتى القضاة العاملون في مستويات عليا أقروا ذلك، ولكن ما جرى في الحقيقة هو اجتزاء لمقاطع منه بهدف إثبات التهمة عليه وعلى رفاقه بالسعي لتشكيل مجموعة منظمة سرية تطبّق ما ورد في الكتاب، واعتبر الإدعاء أن كتاب «الإعلان الإسلامي» يفصّل كيفية إحياء تنظيم «الشباب المسلمين»، وبالتالي فإن الكتاب ونشاط المثقفين المسلمين في المنتدى يندرج تحت المادة 114 المتعلقة بالتآمر ضد الدولة، ويعلّق بيغوفيتش في كتابه «سيرة ذاتية وأسئلة لا مفرّ منها» على هذه التهمة: «تُظهر التهم أنه تم إسناد دور قيادة المجموعة لي، وهو ما كان محض افتراء وتلفيق، لأنه لم تكن هناك أي مجموعة أصلًا، حتى إنني لم أعرف بعض الأشخاص الموجودين معي في قفص الاتهام في المحكمة».

التهمة الثانية، تتعلق بـ «الجنحة الكلامية»، وهي تهمة سهل إثباتها واتهام أيًا كان بها في ظل نظام حكم شمولي متعسّف يحصي على الناس أنفاسهم، فمثلًا اتُهم «مصطفى سباهيتش» بأنه كان يدعو مسلمي البشناق لتسمية أولادهم بأسماء إسلامية، واعتُبر هذا ضمن الدعوة للتطرف الديني والتأثير على أمن ووحدة مواطني يوغسلافيا المتعددة الأديان والأعراق، فكان رد «سباهيتش»: صحيح أنا قلت هذا الكلام ،ولكن أين قلته؟ في المسجد، للأشخاص الذين يأتون للمسجد، وهذا عملي كمعلّم ديني، هذا منطقي، لن أدعوهم لتسمية أبنائهم بأسماء صينية!

التهمة الثالثة، التي وجّهت للمتهمين هي التواصل مع دولة «صديقة» لم تكن إلا إيران، التي كانت تعيش آنذاك زخم الثورة الإسلامية الشعبية ضد الشاه، وما أيقظته تلك الثورة من مشاعر لدى المسلمين من أنحاء العالم، وجهت الخارجية الإيرانية دعوة لناشطين مسلمين في البوسنة للمشاركة في المؤتمر الشعبي للتقارب بين مذهبي السنة والشيعة وشارك فيه خمسة منهم، واعتبرت مشاركتهم غير قانونية لأن ختم دخولهم لإيران لم يكن موجودًا على جوازات سفرهم بل على ورقة منفصلة، على الرغم من أن يوغسلافيا لم تكن حينها فعليًا في وضع العداء مع إيران، ولم يكن السفر إلى إيران ممنوعًا.


التحقيق والمحاكمة

خلال التحقيق الذي دام ستة أشهر، تعرض ستمائة شخص للاستجواب، ومنهم تم اختيار حوالي خمسين، ثلاثة عشر متهما، والبقية كانوا شهودًا، والمثير للاهتمام أنّ من رفض أن يكون شاهد زور على متهم آخر تتحول صفته إلى متهم أيضًا،حدث هذا مع «جمال الدين لاتيتش» و«حسين جيفال» وتعرضا للتعذيب والمعاملة السيئة بسبب رفضهما الشهادة الكاذبة ضد آخرين، وحكم عليهما بالسجن لسنوات عديدة.

بينما اضطر بعضهم للفرار إلى مناطق أخرى كي لا يجبروا على الإدلاء بشهادات كاذبة ضد أصدقائهم من المتهمين، ومن الستة والثلاثين شاهدًا الذين شهدوا أمام المحكمة خمسة عشر فقط التزموا بإفاداتهم التي أدلوا بها خلال إجراءات ما قبل المحكمة، وهي في معظمها في صالح الادعاء، بينما قام 21 منهم بتغيير إفاداتهم في المحكمة بشكل أو بآخر، وقالوا إن إفاداتهم السابقة كانت تحت الإكراه والتهديد.

استعمال العنف والتهديد والضغط النفسي كان سمة ثابتة أثناء التحقيقات. يُذكر أن أحد المتهمين «رشيد برغودا» تعرض لسكتتين دماغيتين خلال فترة التحقيق، ولم يستطع حضور إلا الجلسة الأولى للمحكمة بسبب سوء حالته الصحية، وتوفي بعد فترة وجيزة، وحتى محامو المتهمين كانوا يعرفون أن دفاعهم أمام المحكمة لن يكون مفيدًا لأن المتهمين مدانين مسبقًا وحُددت أحكامهم أيضًا .


الأحكام وردود الفعل

علي عزت بيغوفتش 14 عامًا ،عمر بهمن 15 عامًا، حسن تشنغيتش 10 أعوام، وأتمّ القاضي ذكر أسماء بقية المتهمين الاثني عشر الذين تراوحت أحكامهم بين 10-5 سنوات، باستثناء المتهمة الأخيرة «جولا بيتشاكتشيتش» التي حُكم عليها بالسجن ستة اشهر. وصل مجموع الأحكام التي صدرت ضد المتهمين من محكمة مقاطعة سراييفو إلى 90 عامًا، وأثارت الأحكام صدمة داخلية ودولية، على إثرها قدّم عشرون من أشهر مثقفي بلغراد إلتماسًا إلى الرئاسة اليوغسلافية بإعادة النظر في هذه المحاكمة، وأتبعوه بالتماس آخر بعد أربعة أشهر كتبوا فيه أن المحاكمة كانت ملفقة وغير قانونية، وطالبوا بإطلاق سراح المتهمين فورًا، ورفضت محكمة العدل العليا في يوغسلافيا كل هذه الالتماسات.

وكتبت الصحافة العالمية، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية مطوّلًا عن أن المحاكمة ملفقة، ولقد خلق ذلك جوًّا جعل من الممكن تغيير الحكم ولكن ذلك استغرق ثلاث سنوات، فغيّرت المحكمة الفدرالية من طبيعة التهم ولكنها لم تخفف كثيرًا من مدة السجن. ونُقل المتهمون إلى سجن في مدينة «فوتشا» شرقي البوسنة حيث عاشوا ظروفًا صعبة في السجن بسبب التضييق المستمر عليهم، ووضعهم مع السجناء الجنائيين، وفي داخل السجن كتب علي عزت بيغوفتش كتابه «هروبي الى الحرية».‪

الصحافة ووسائل الإعلام المحليّة قامت بأدوار متحيزة ضد المتهمين، إذ تعاملت معهم منذ البداية كمجرمين، وكانت البلد تعيش حالة تزايد للشعور القومي خصوصًا لدى الصرب بعد وفاة رجل يوغسلافيا القوي «تيتو»، ويبدو أن الحكومة الاتحادية في محاولتها لجم تحركات القوميين الصرب وكبح أصواتهم أرادت أن توجه رسالة أن المعاملة تسري على جميع القوميات بالمثل، فافتعلت قضية تجعل الأنظار تلتفت نحو المسلمين البشناق، و تثبت في الوقت حزم الحكومة في التصدي لكل من يحاول تهديد وحدة الاتحاد اليوغسلافي، أو التأثير في هوية إحدى مكوناته.


ما بعد سنوات السجن

أثارت الأحكام صدمة داخلية ودولية، على إثرها قدّم عشرون من أشهر مثقفي بلغراد إلتماسًا إلى الرئاسة اليوغسلافية بإعادة النظر في هذه المحاكمة.

ساهمت تلك المحاكمة في تعريف العالم الإسلامي بوجود المسلمين في البوسنة والهرسك، إذ انتشرت أخبار المحاكمة ووقائع التحقيق بشكل واسع في العالم، وبعد خروج «علي عزت بيغوفيتش» من السجن قبل انتهاء المدة بسبب صدور عفو رئاسي، تعززت لديه ولدى رفاقه في السجن وعدد من الناشطين المسلمين أهمية تأسيس حزب يمثّل مسلمي البوسنة للدفاع عن حقوقهم، فبدأ العمل على تأسيس حزب «العمل الديمقراطي» في نوفمبر/تشرين الثاني 1989، وفاز في العام الذي يليه في الانتخابات البرلمانية لجمهورية البوسنة والهرسك، والتي أصبح على إثرها «علي عزت بيغوفتش» رئيسًا لجمهورية البوسنة والهرسك ضمن الاتحاد اليوغسلافي قبل أن يتفكك بوقت قصير.

كان لافتًا أن موضوع محاكمة سراييفو قد أثير أثناء الحملة الإنتخابية كدعاية ضد الحزب، وبعد فوزه في الانتخابات سئل الرئيس «بيغوفتش»: هل ستكون هناك أعمال انتقامية ضد الشيوعيين على ما فعلوه به وبرفاقه؟ كانت إجابته أنّه لن يكون هناك انتقام، وهذا ما حدث بالفعل، فقد استمرّ كل أولئك الذين شاركوا بالمحاكمة من ضباط التحقيق والمدعي العام والقضاة في حياتهم بشكل اعتيادي، ويقول «بيغوفتش» تعليقًا على ذلك «لقد سامحتهم كسياسي، ولكنني لم أسامحهم كإنسان».