دق سقوط نظام الرئيس العراقي صدام حسين ناقوس الخطر في العاصمة الليبية طرابلس. خشي الرئيس الليبي الأسبق معمر القذافي أن يلقى نفس مصير صدام، فقرر تغيير سياسته الصدامية مع الغرب بشكل شبه كامل. أسال التوجه الليبي الجديد لعاب سياسيي أوروبا، فتنافسوا للحصول على جزء من خيرات الخزانة الليبية الغنية بأموال النفط، متناسين أن يد العقيد التي قَبّلها بعضهم – حرفيًا – ملطخة بدماء الليبيين، بل والأوروبيين أيضًا.


ساركوزي سيئ الحظ

لم يكن الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي أول السياسيين الأوربيين الذين حظوا بـ «علاقة خاصة» مع القذافي، لكنه كان أسوأهم حظًا. فهو الوحيد الذي وجهت له اتهامات بتلقي «رشاوى» مباشرة من نظام القذافي، لتمويل حملته لانتخابات الرئاسة عام 2007.

فتحت هذه الكلمات، التي ذكرها رجل الأعمال اللبناني – الفرنسي زياد تقي الدين، أبواب الجحيم على ساركوزي، ليصبح أول رئيس دولة يتهم بالحصول على رشوة من النظام الليبي البائد. أخذت الشرطة الفرنسية الأمر على محمل الجد وبدأت تحقيقًا موسعًا، مستمرًا منذ 5 سنوات، للكشف عما إذا كان هناك تمويل ليبي غير قانوني لحملة ساركوزي الانتخابية عام 2007 أم لا؟

ورغم نفي ساركوزي المتكرر لهذا الاتهام، وتأكيده أن «من يتهمونه اليوم يريدون الانتقام منه لإصداره قرارًا بنشر مقاتلات فرنسية خلال الانتفاضة التي أطاحت بالقذافي عام 2011»، فإن استقباله التاريخي للقذافي بعد شهور من توليه السلطة عام 2007، والذي سمح فيه للعقيد بنصب خيمته البدوية المميزة قبالة قصر الإليزيه، تجعل من هذه التهم قابلة للتصديق، على الأقل على المستوى الشعبي.


بيرلسكوني يقبل يد ولي النعم

يعد رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سلفيو برلسكوني أكثر قادة أوروبا قربًا من العقيد القذافي، وصاحب الفضل في تقريب وجهات النظر بين أوروبا وليبيا. كان لدى الرجلان علاقة معقدة اختلطت فيها المصلحة العامة بالمصلحة الخاصة، وتلاشت الحدود بينهما. فبعيدًا عن العلاقات الرسمية، يجمع الرجلان مصالح تجارية مشتركة، إذ تمتلك شركة «لافتي تريد» الليبية، والتي تسيطر عليها الشركة القابضة «لا فيكو» العائدة لعائلة القذافي، نحو 10% من أسهم شركة الإنتاج السينمائي «كوينتا كومونيكيشن»، بينما تملك «فيني فيست» القابضة المملوكة لعائلة برلسكوني نحو 22% من أسهم ذات الشركة. كما تمتلك شركة «كوينتا كومونيكيشن» وإمبراطورية الإعلام المرئي «ميدياسيت» التي أسسها برلسكوني، 25% من أسهم قناة فضائية شهيرة في المغرب العربي.

كان من ثمار هذه العلاقة توسع استثمارات ليبيا في إيطاليا، إذ زادت طرابلس حصتها في أكبر بنوك إيطاليا «يوني كريديت إس بي آي»، من 2% إلى نحو 7% في صيف عام 2010. وامتلك صندوق الطاقة الليبي ثاني أكبر حصة في الشركة الإيطالية للنفط والغاز «إيني»، التي كانت تمتلك حينها أكبر مخزون من النفط الخام الأفريقي، ويأتي نحو 14% من إنتاجها من ليبيا. وتمتعت إيطاليا بتصدير نحو 20% من حجم الواردات إلى ليبيا. كما تم التوقيع على اتفاقية للحد من الهجرة غير الشرعية.


توني بلير الناصح الأمين

تمتع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير بعلاقة خاصة مع القذافي ونجله سيف الإسلام، فـ«بلير» هو أول رئيس وزراء بريطاني يزور ليبيا منذ زيارة تشيرشل عام 1943. كما نجح جهاز الاستخبارات البريطاني (MI6)، خلال عهد بلير، بمساعدة الجواسيس الليبيين في اختطاف بعض الشخصيات المناوئة للقذافي. فقد تم اختطاف اثنين من أبرز شخصيات المعارضة الليبية اللذيْن فرا من البلاد، أحدهما تم اختطافه من هونغ كونغ، والآخر من تايلاند، ومن ثم أُحضرا إلى طرابلس مع زوجاتهما وأطفالهما.

وتعرض كلا الرجلين للتعذيب الشديد. واعتقلت الشرطة البريطانية بعض المعارضين لنظام القذافي، والذين عاشوا لسنواتٍ طوال بشكلٍ قانوني في بريطانيا، وقامت بمحاولات لترحيلهم إلى طرابلس. كما سلمت المخابرات البريطانية تفاصيل المكالمات الهاتفية الخاصة بالشخصيات الليبية المستهدفة لجهاز الأمن الخارجي الليبي، مما ترتب عليه اعتقال وتهديد أقاربهم وأصدقائهم داخل ليبيا.

واستمرت هذه العلاقة بعد خروج بلير من الحكومة، إذ كشفت لجنة برلمانية بريطانية مطلع عام 2016، أن بلير هاتف القذافي مرتين خلال ثورة 17 فبراير 2011، ونصحه فيهما بالرحيل والبحث عن مكان آمن. كما طلبت صديقة سيف الإسلام، الممثلة الإسرائيلية وعارضة الأزياء السابقة أورلي فاينرمان، من بلير التدخل لإنقاذ «صديقه القديم» سيف الإسلام، كاشفة أن الأخير عمل بشكل وثيق مع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، قبل إلقاء القبض عليه.


وزراء مالطة في خدمة العقيد

سلمت في عامي 2006 و2007 ثلاث حقائب مليئة بأموال نقدية من فئة 200 و500 يورو إلى ساركوزي ومدير مكتبه كلود غيان. بلغت قيمة هذه المبالغ 5 ملايين يورو، وكان مصدرها القذافي.

تمتع العقيد معمر القذافي بعلاقات وثيقة مع السياسيين المالطيين طوال فترة حكمه. كانت حكومة جورج بورج أوليفييه من بين أوائل من أقاموا علاقة مع القذافي بعد انقلابه الذي أطاح بالملك إدريس عام 1969، ومنذ ذلك الحين عقد القذافي اجتماعات مع كل رئيس وزراء مالطي. زار العقيد «إخوة الدم» في مالطا، كما كان يصفهم، لأول مرة عام 1973، ولم تنقطع بعدها الزيارات، فزارها مرات أخر في أعوام 1974 و1976 و1978 و1979 و1982 و1984.

تمتع القذافي بعلاقة خاصة مع حزب العمال المالطي، مكنته من حضور الاجتماع الجماهيري للحزب عام 1978، كما كان قريبًا بشكل خاص من السياسيين دوم مينتوف وكارمينو ميفسود بونيسي، اللذين توليا رئاسة حزب العمال والحكومة المالطية سابقًا. وكدليل على قوة وخصوصية هذه العلاقة، حذر بونيسي القذافي مسبقًا عام 1986، عندما أرسل الرئيس الأمريكي رونالد ريغان قاذفات لتفجير مجمعه في طرابلس، بعد اتهام عملاء ليبيين بتفجير ملهى في برلين يرتاده جنود أمريكيون. وقامت الحكومة القومية المالطية في عام 2004 بمنح القذافي وسام الاستحقاق الوطني كرفيق فخري.