عقب تنفيذ حكم الإعدام بحق رجل الدين السعودي الشيعي نمر باقر النمر، شهدت المنطقة برمّتها توتراتٍ طائفيةً شديدة؛ حيث قام محتجّون إيرانيون بحرق مقرّ السفارة السعودية بطهران؛ ما أدى لقطع السعودية العلاقات الدبلوماسية والتجارية، وأعلنت وقف الطيران من وإلى طهران، أيضا شهدت العديد من البلدان العربية احتجاجاتٍ ضد مقتله، وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي ملاكمةً حادة بين منحازٍ للسعودية، أو لإيران، أو معتبرٍ لكليهما مشروعًا طائفيا يساوي الآخر.

اتجهت الأنظار مجددًا إلى المنطقة كبؤرة محتملةٍ لصراع عنيف، بين المملكة والجمهورية الإسلامية، فهل كانت هذه أولى التوترات الكبرى في العلاقات بين البلدين؟، وإذا لم تكن كذلك، فعلام كل هذا الاهتمام بها هذه المرة؟


ليست المرة الأولى

أثناء موسم الحج في مكة المكرمة عام 1987 نظم الحجاج الإيرانيون مظاهرةً ضد الموقف السعودي الداعم للعراق، أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وبعد أحداث الشغب مباشرةً، طالب الخميني، المرشد الأعلى للثورة، الثأر للقتلى من الحجاج الإيرانيين والإطاحة بالحكومة السعودية، حيث أدت هذه الأحداث لمقتل 402 حاجًّا من بينهم 275 إيرانيًا، في اشتباكاتٍ بمدينة مكة المكرمة، والتي خرج على إثرها محتجون إلى شوارع طهران، واقتحموا السفارة السعودية، واحتجزوا دبلوماسييها، وقاموا أيضا بحرق السفارة الكويتية، واعتقل الحرس الثوريّ الإيرانيّ، القنصلَ السعوديّ في طهران رضا عبد المحسن النزهة، وعلى إثر ذلك قام الملك فهد بقطع العلاقات رسميًّا في إبريل 1988.

هذه الاحتكاكات في مواسم الحج أصبحت متكررة بشكلٍ شبه دوريّ، كان آخرُها في موسم الحج عام 2015؛ حيث تبادل البلدان التهم عقب أحداث منى التي راح ضحيتها أكثر من ألفي قتيل بحسب تقرير لقناة بي بي سي عربي، وهو الحادث الذي استغلته إيران بقوة للتنديد بانفراد السعودية بعملية تنظيم الحج، الأمر الذي قوبل سعوديًّا باستهجانٍ شديد، وبتوجيه التهم إلى الحجيج الإيرانيين.

إيران تستقبل دفعة من ضحايا تدافع منى .. و«روحاني» يهدد باستخدام «لغة الاقتدار» الخليج الجديد
إيران تستقبل دفعة من ضحايا تدافع منى .. و«روحاني» يهدد باستخدام «لغة الاقتدار» الخليج الجديد

ثورات العرب؛ إيران أقرب للثورة، والسعودية للعرب

منذ اندلاع ثورات الربيع العربي والدولتان تحاولان الاستفادة القصوى منه لصالح زعامتهما للمنطقة؛ إذ بُعَيْد الثورة في مصر وسوريا، لم تعد المحاور التقليدية (الممانعة-الاعتدال) هي السائدة؛ فقد غاب فاعلان إقليميّان مهمّان هما مصر وسوريا، وربما حدث هذا مبكرًا منذ 2009 حيث الحرب على غزة التي أوقعت ورقة التوت الأخيرة عن النظام الإقليمي العربي؛ إذ بدا واضحًا بأن النظام الإقليمي العربي بلا رأس، وتتصارع المحاور الصغرى على قيادته، سواء في مواجهة إيران باستحضار مقولات المدّ الشيعي، والهلال الشيعي، والدولة الصفوية..إلخ من المصطلحات السلفيّة الوهابية، أو في مواجهة مقولات الامبراطورية العثمانية والعثمانيون الجدد، أحفاد السلاطين،..إلخ.

ففي سياق ثورات الربيع العربي، وجدت السعودية نفسها في موضع قيادة تلقائي – أكثر منه مُخطّطا – للمنطقة؛ من هنا وقفت في وجه الحراك الشعبي في البحرين واستطاعت أن تصِمه بالحراك الشيعيّ، وووقفت موقف المراقب بحذر للتطورات في مصر وتونس، بل إن اقترابها من نظام الإخوان المسلمين ربما صبّ أكثر في ناحية قيادتها للمنطقة؛ إذ حاول النظام حينها تصدير نفسه مع المملكة باعتبارهما راعيتَيْن للإسلام السني، وهي المقولات التي غذت أكثر الدور المتنامي للسعودية في المنطقة.

ووجدت إيران نفسها مع وضع إقليميّ جديد، حاولت معه تقديم نفسها كأول نظام (ثوريٍّ) في المنطقة، وحاولت مدّ خيط الثورة الإسلامية ليكون ملهمًا ومرشدًا لثورات الربيع العربي، استقدمت وفودًا من البلاد العربية والإسلامية، وعقدت لهم المؤتمرات والمنح لتسويق هذه الفكرة، أضفت على احتجاجات البحرين اسم (ثورة مباركة)، ونزعت عن ثورة سوريا أيّ صفةٍ شرعية، وبتاريخها مع حركات المقاومة في المنطقة، وعلى رأسها (حماس) و(الجهاد الإسلامي)، حاولت المنافسة على زعامة روح الثورات العربية الجديدة.

بانهيار نظام الإخوان المسلمين في مصر – الذي كان يتشارك مع السعودية في رؤيته لنفسه باعتباره حامي الإسلام السنيّ – و من ثَمّ عملية التحول الديمقراطي برُمّتها، استطاعت المملكة أن تؤكد زعامتها للمنطقة؛ إن بعرقلة جنيف 1 وجنيف 2 بشأن سوريا، من خلال اشتراط رحيل نظام الأسد كخطوةٍ أساسية للتفاوض على مستقبل سوريا، أو بإعلانها تحالفًا عربيّا للدفاع عن الشرعية في اليمن تحت قيادتها، سرعان ما انخرطت فيه العديد من الدول العربية، أو بتشكيلها مؤخرا لتحالف من 34 دولة لمحاربة الإرهاب والتطرف، رغم ما يثار حوله من شكوك في الفعالية في مواجهة داع، أو كونه تحالفًا لإذكاء الصراع السنيّ الشيعيّ.

أسعار النفط السعودي والاتفاق النووى الإيراني

مع انهيار أسعار النفط العالمي، ورغم احتياطاتها المالية واستثماراتها الخارجية الضخمة، بدأت العديد من دول الخليج النفطية تعاني عجزًا في الموازنات منذ عامين، وبدأت تتخوّف من استمرار موجات الهبوط في أسعار النفط، أو حتى ثباته على تلك الأسعار لفترة قد تطول؛ ما يعني عدم قدرتها على تأمين نمو اقتصادي قوي ومتنوع.

ومع توصل طهران والقوى الست العالمية إلى اتفاقٍ شاملٍ حول برنامجها النووي في الرابع عشر من يوليو 2015، تزايدت مخاوف السعودية ودول الخليج من تزايد نفوذ إيران وقدراتها النووية، فيما توالت تطمينات أمريكية وأوروبية للرياض حول الاتفاق وعدم الإضرار بمصالح السعودية ودول الخليج، منذ ذلك التاريخ، تزايد التدخل الإيراني في العراق بدعمٍ قويّ لكتائب الحشد الشعبيّ في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، ودعمٍ قويّ لنظام بشار الأسد، وقدرةٍ على إقناع الحليف الروسيّ بتدخلٍ عسكريّ قويّ في سوريا تحت دعوى محاربة الجماعات والتنظيمات المتطرفة، وأصبحت المخاوف الخليجية حقيقةً تؤرقها من دون وجود حليف إقليميّ أو دوليّ قوي، مع انشغال تركيا بالحرب مع حزب العمال الكردستانيّ وانشغال مصر بالتقلبات السياسية الداخلية والحرب مع تنظيم ولاية سيناء وملفاتٍ خارجيةٍ أخرى.

صراع نفوذ أم توزيع أدوار ؟

كلما تدهورت العلاقات السعودية الإيرانية، أو الخليجية الإيرانية؛ كلما احتاج الخليج أكثر لحليفٍ إقليميّ قويّ كمصر أو تركيا، وبالنظر للتنافس بين المشروعَيْْن التركيّ والسعوديّ، فإن الاحتمال الأقرب للتحقق هو توافقٌ أكبر مع باكستان أو مصر؛ إذ كلتاهما منهمكة في الداخل، والأزمات الاقتصادية والسياسية، وتحتاج لضخّ المزيد من الأموال من أجل الحفاظ على درجة ما من درجات الاستقرار السياسي، وهي من ناحيةٍ أخرى الخزان البشري المكافئ للقوة الإيرانية، وربما مصر بشكل أكبر؛ إذ هي بعد إنهاك خمسة أعوامٍ من الصراع بين تطلعات إصلاحية، وأخرى ثورية، وأخرى تشترك مع دول الخليج في اعتبار الثورات (مؤامراتٍ كونية ضد الأنظمة)، أكثرُ استعدادًا للّحاق بتحالفٍ مع قوىً خليجية من استعدادها؛ لتكوين تحالفاتها الخاصة.

الملك سلمان والسيسي يطلقان مجلس تنسيق سعودياً مصرياً 11نوفمبر 2015- الرياض
الملك سلمان والسيسي يطلقان مجلس تنسيق سعودياً مصرياً 11نوفمبر 2015- الرياض

وخلال الثلاث سنوات الماضية، أبدت مصر استعدادها لتقديم المزيد من خطابات الدعم لدول الخليج، وربما الدعم العسكري المحدود واللوجيستي مقابل مزيدٍ من القروض والمنح والمعونات؛ لمساندة الاحتياطي المصري من النقد الأجنبي؛ فقد حصلت مصر على دعمٍ خليجي، أو وعودٍ بدعم قويّ في المؤتمر الاقتصادي الذي انعقد في مارس 2015، عقب إعلانها المشاركة في التحالف العربي تحت شعار (عملية عاصفة الحزم)، والتي قاربت على العام دون تحقيق نصرٍ حاسمٍ على الأرض، وبوقف إطلاق نار مع إيقاف التنفيذ.

وتتشاطر السعودية ومصر موقفًا متقاربًا في الأزمة اليمنية، بينما تختلفان في العديد من الأزمات والقضايا وأهمها الأزمة السورية؛ إذ ترى القيادة السياسية المصرية أن النظام السوري يعبر عن الدولة السورية، وأن رحيله يشكل خطرًا على المنطقة، بينما تصرّ السعودية على أنه لا تفاوض ولا حل للأزمة دون رحيل الأسد، كما تتفقان في عدم أهلية الإخوان المسلمين للعب دورٍ قويّ في المنطقة، بينما تختلفان في توصيف الجماعة، فالسعودية تقدّم لحزبها – الإصلاح – دعمًا في إطار التحالف العربي في اليمن؛ بينما ألغت تصنيفها للجماعة كجماعة إرهابية، فيما مصر بذلت جهودا مضنية لتوصيف الجماعة وفروعها في العالم العربي والعالم كجماعةٍ إرهابية دون الوصول إلى نتيجة، وتتخذ موقفًا متشددا منها؛ يجعل أي استقرارٍ للنظام على المِحكّ، أيضا سعت مصر لتشكيل قوةٍ عربية مشتركة، وبذلت جهودًا مضنيةً في هذا الاتجاه، فيما فوجئت بإعلان السعودية تحالفًا إسلاميًّا من 34 دولة ووجودها ضمن هذه الدول.

وعن حجم التضامن العربي مع الموقف السعودي؛ قطعت السودان والبحرين فقط علاقاتهما مع إيران، فيما قامت الإمارات بتخفيض تمثيلها الدبلوماسي، فيما دعت المجاملة المسئولين المصريين للقول بأن مصر أول دولة تقوم بقطع العلاقات مع إيران منذ 27 وعشرين عاما ، واكتفت الجامعة العربية ومجلس التعاون بإدانة حرق السفارة، هذا التضامن واختبار الاصطفاف السُنّي مقابل النفوذ الإيراني، قد يكون مكسبًا سعوديّا بحد ذاته.

في المحصلة النهائية، فإن صراعًا سياسيًّا أعمق من مجرد خلاف أيديولوجيّ يقود المواقف الخليجية والإيرانية، إذ ثمّة حربا تخوضها الدولتان على عدة جبهات وبأدوات مختلفة في سوريا، واليمن، ولبنان، والعراق، ومن ثَمّ لا يُعتقد تطور الصراع لنهاياتٍ مغايرة، في سياق الصراعات الممتدة عبر المنطقة، وفي ظل توافق القوى الكبرى على أدوارٍ محدودةٍ للفاعلين الإقليميين في القضية السورية، والتوجه للتدخل مباشرة ودون وكيلٍ فيها، وفي ظل عدوّ مشترك قويّ في العراق وسوريا؛ هو تنظيم داعش الذي دعا أميرُه إلى محاربة السعودية، وهو يمثّل مشروعًا بديلًا للمشروع السعودي؛ في ظل هذه التفاعلات المتسارعة، فإن هذا قد يكون منتهى الصراع السعودي الإيراني، وقد نشهد توافقاتٍ على بعض الملفات بنهاية العام 2016.