استطاع الدوري السعودي في نسخته الماضية والمتوج بها نادي النصر أن يستحوذ على اهتمام غير مسبوق. أسماء كبيرة على مستوى اللاعبين والمدربين، إخراج تلفزيوني مثالي وانتداب الصفوة من أطقم التحكيم في العالم. مباريات درامية وأهداف استثنائية ومستوى فني جيد بشكل كبير مقارنة بمستوى الكرة في المنطقة العربية.

الحقيقة أن هذا الاهتمام المستحق والقدرة على جذب قطاع كبير من المهتمين بكرة القدم العربية لم يأتِ فقط كنتيجة. بل إن هذا الاهتمام كان غرضًا مهمًّا سعى إليه المسئولون عن الرياضة السعودية كحلقة مهمة في سلسلة السعودية في ثوبها الجديد.

الحديث عن محاولة السعودية لكي تصبح بمثابة «دبي الجديدة» ليس بالجديد. تخطو السعودية خطوات واسعة نحو التغيير منذ تولي الأمير محمد بن سلمان مقاليد الأمور. تقدم المملكة نفسها الآن للعالم كواجهة جديدة للفنون والثقافة والرياضة، حتى إن هذا التغيير نال أحد أهم جوانب السعودية، وهو الجانب الديني.

اقرأ أيضًا:السعودية بين هيئتين: من الأمر بالمعروف إلى الترفيه

ولا يخفى على أحد أن كرة القدم بما لها من شعبية جارفة تبقى راية واسعة تستظل بها الأنظمة المختلفة لتقديم نفسها للعالم. لكن جمهور الكرة تحديدًا بما له من عين ناقدة بشكل مستمر ومع انفتاح محبي كرة القدم في المنطقة العربية على الكرة الأوروبية بشكل كبير كان لا بد من خطوات واسعة لكي تقدم لهم منتجًا يستحق المتابعة والإشادة. خطوات واسعة ومكلفة وخطوات أخرى ثانوية قد تفيد أو لعلها حدثت على سبيل المصادفة وأفادت بالفعل.

دعنا نسير سويًّا على خطين متوازيين لربط أحداث الدوري السعودي في موسمه الماضي، الخط الأول هو الصبغة الريادية التي تسعى لها المملكة بشكل رسمي وكان الدوري السعودي نموذجًا مناسبًا لذلك، وليكن الخط الآخر هو كيف تم تحقيق ذلك.


كأس دوري الأمير محمد بن سلمان

في الثامن عشر من أغسطس/آب الماضي أعلن السيد تركي آل الشيخ، الذي كان يتولى منصب رئيس الهيئة العامة للرياضة حينئذ عن الاسم الجديد للدوري السعودي للمحترفين. وبعد ديباجة لا غنى عنها تحدث فيها آل الشيخ أنه بعد اجتماعه بالمسئولين لاستحداث اسم جديد للدوري السعودي، فكانت النتيجة أسماء مثل دوري النجوم ودوري الأبطال، وهي أسماء على حد تعبيره تليق بقناة سبيس تون للكارتون لا أكثر، ولذا فالاسم المناسب هنا هو «كأس دوري الأمير محمد بن سلمان»؛ تقديرًا وعرفانًا لسموه لما قدمه من دعم لشباب الوطن. وسيكون ذلك لنسخة واحدة فقط.

دعنا نوضح أن اهتمام الأمراء ورجال الأعمال بكرة القدم في السعودية ليس بالجديد، بل هو القاعدة في المملكة. هذا الاسم نفسه ليس بالجديد، ففي مطلع التسعينبات سُمي الدوري باسم كأس دوري خادم الحرمين الشريفين. لكن الأمر هذا الموسم مختلف، حيث أُطلق الاسم الجديد قبل يوم من انطلاق الدوري الجديد، أي بعد انقضاء الميركاتو الصيفي، الذي تم خلاله صرف مئات الملايين من الريالات على صفقات الأندية السعودية كما لم يتم من قبل. ودوري مثل هذا كان لا بد أن يأخذ الصبغة الرسمية.

هنا تحديدًا كانت الإشارة الأولى إلى أن التعامل مع كرة القدم لن يقتصر على فكرة التعامل مع نشاط ترفيهي ثانوي، بل إن التعامل مع كرة القدم سيضفى عليه صبغة رسمية، وهو الأمر المتسق مع الاهتمام بالنشاط الترفيهي في المملكة عمومًا، حيث سيتولى تركي آل الشيخ رئاسة مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه فيما بعد.


زيادة عدد اللاعبين الأجانب

قرر الاتحاد السعودي لكرة القدم -الذي يتضمن قوامه الحالي في عضويته للمرة الأولى امرأة وهي السيدة أضواء العريفي كأحد مظاهر السعودية الجديدة- زيادة عدد اللاعبين الأجانب إلى ثمانية لاعبين بمشاركة سبعة لاعبين أساسيين وواحد في قائمة البدلاء.

فتح هذا العدد الكبير الطريق لعمل ميركاتو تاريخي في الدوري السعودي بدعم من محمد بن سلمان ومتابعة تركي آل الشيخ. حيث نشر الأخير تغريدة عبر صفحته الرسمية أوضح خلالها أن الدوري السعودي يصنف السادس عالميًّا في القيمة السوقية للانتقالات، وذلك حسب تقرير رسمي من الفيفا. كما نشر فيديو يظهر أن الأندية السعودية أنفقت 152.1 مليون دولار أمريكي على الانتقالات خلال الصيف الماضي.

رقم ضخم للغاية لم ينفق في دوري عربي من قبل، هذا الرقم صاحبه اهتمام بنوعية اللاعبين وتوزيعهم على عدد من الأندية لضمان المنافسة. ضم الدوري السعودي خلال السنوات الأخيرة لاعبين مميزين بحجم كريستيان ويلهامسون ومارسيلو كماتشو وتياجو نيفيز، لكن خلال الموسم الماضي كانت الأسماء أكبر بكثير.

لكن خلال تلك السنوات بما فيها الموسم الأخير أيضًا كان زيادة عدد اللاعبين الأجانب يشكل خطرًا على المنتخب السعودي. فالأخضر الذي كان دومًا ضمن مرشحي قارة آسيا لتمثيلها خلال مباريات كأس العالم أصبح ترتيبه متأخرًا ضمن منتخبات القارة. فالأموال لا تتدفق على قطاعات الناشئين لتصب في مصلحة المنتخب السعودي كتجربة المنتخب القطري المميزة على سبيل المثال . يؤكد كل ذلك أن تلك الأموال لم تدفع لمصلحة المشجع السعودي، بل لخطف أعين العالم نحو دوري قوي في المنطقة العربية كأولوية سياسية مهمة.


الاهتمام بالنوعية وهجرة اللاعبين العرب

انتدب الهلال لاعبين بحجم كارلوس إدواردو البرازيلي، وأندريه كاريلو البيروفي، وكذلك جوميز الفرنسي. بينما يملك أهلي جدة باولو دياز التشيلي ودي سوزا البرازيلي، والقائمة ستطول بذكر نادي النصر الذي يملك حارس مرمى أستراليًّا ومدافعًا برازيليًّا وآخر بيروفيًّا ولاعب خط وسط برازيليًّا، بالإضافة لأحمد موسي هداف نيجيريا الأبرز خلال كأس العالم الأخيرة.

لن نستطيع أن نحصر كل الأسماء المميزة من اللاعبين الأجانب في الدوري السعودي. ولكن تلك الأمثلة التي ذُكرت للاعبين اُنتدبوا من أوروبا مباشرة. وهم لاعبون من جنسيات تمكنك من إحداث نقلة نوعية في مستوى الدوري ككل. وهو المستوى الذي استطاع أن يخطف أعين متابعي كرة القدم في المنطقة العربية رغم الاهتمام المتزايد بالكرة الأوروبية كما ذكرنا من قبل. لكن الدوري السعودي قدم منتجًا في غاية الجودة وقادرًا على جذب الاهتمام.

على الجانب الآخر وتحقيقًا لمبدأ الريادة الذي لم تغفل عنه السعودية كانت هجرة اللاعبين العرب المميزين للدوري السعودي بمن لهم من متابعين.

كانت البداية مع الإماراتي عمر عبد الرحمن الذي يعد الموهبة الأبرز عربيًّا على الإطلاق في السنوات الأخيرة. حيث أُعير من نادي العين الإماراتي في صفقة قُدِّر أنها تخطت حاجز الستين مليون ريال للعين واللاعب نفسه خلال موسم واحد فقط. هذا المبلغ الخيالي هو أكبر من أن يترجم كمقابل مهارات وإمكانيات عموري الجيدة بالفعل. لكنه مبلغ دُفع على سبيل الإنفاق مقابل الريادة المطلقة.

اُنتدب باقي لاعبي العرب ووُزعوا على الأندية السعودية. الهلال لم يكتف بعموري الذي أصيب بقطع في الرباط الصليبي ولم يكمل الموسم. حصل الهلال على عمر خربين السوري والحبسي من عمان. أما النصر فانتدب نور الدين مرابط وحمد الله المغربيين. أما الأهلي السعودي فاحتفظ بالسوري عمر السومة والمصري عبد الشافي كما تم انتقال عبد الله السعيد في ظروف استثنائية من الأهلي المصري.

مع التدرج المنطقي لمستويات الأندية في السعودية وُزِّع اللاعبون الأقل تأثيرًا، ولكن يكفي أن تعلم أن اللاعب فرجاني ساسي الذي يصنف في نظر الكثيرين كأفضل لاعبي الدوري المصري خلال الموسم الحالي، أهداه تركي آل الشيخ لنادي الزمالك بعد موسم غير موفق مع فريق النصر، كما أن لاعبًا بحجم التونسي فخر الدين بن يوسف استطاع نادي الاتفاق أن يحصل على خدماته بعد عودته من فرنسا وعبر بوابة الترجي.


البث والملاعب والتحكيم

في البداية وكما هي العادة بتغريدة صرح تركي آل الشيخ أنه بناء على توجيهات سمو ولي العهد سيُنقل الدوري السعودي مجانًا. والحقيقة أن مع تلك الملايين التي دفعت من أجل دوري أفضل، فالمنطق كان يحتم بث هذا الدوري بشكل حصري. لكن كيف تتم الريادة في ظل دوري مشفر.

أدرك مسئولو الرياضة السعوديون أن البنية التحتية من خلال الملاعب جودة البث التلفزيوني وعناصر التحكيم هي عناصر أساسية تمامًا في صناعة كرة القدم الحديثة. ولن تستطيع تقديم منتج مميز في عالم كرة القدم بدونها.

في نطاق الملاعب فالمملكة تملك تاريخًا جيدًا من الملاعب الجيدة الضخمة مثل ملعب الملك فهد الذي يعود تاريخ إنشائه لثمانينيات القرن الماضي، هذا بالإضافة لاستاد الجوهرة والعديد من الملاعب الجيدة.

أما على مستوى البث فلم تمر أشهر قليلة حتى خرج السيد تركي آل الشيخ بتصريحات غاضبة حول مستوى البث والتعليق على الدوري السعودي، مما يستلزم على حد تعبيره وقفه. وبعد أيام قليلة ترأس بنفسه اجتماعًا في نيويورك يضم ممثلي البث السعودي بالإضافة إلى شركة عالمية لم يتح اسمها لمناقشة ملف النقل التلفزيوني للمسابقات المحلية.

أما على مستوى التحكيم فقد اُنتدب حكام بحجم نيستور بيتانا الذي أدار نهائي كأس العالم الماضي والحكم التركي كونيت شاكير الذي يصنف من أفضل حكام العالم، حيث أدار دربي الهلال والنصر، والذي كان الديربي الأكثر إمتاعًا على المستوى العربي منذ سنوات.


ما هي الريادة: ديربي القاهرة نموذجًا

كانت مباراة ديربي النصر والهلال مثالًا جيدًا لكل ما نتحدث عنه. أقيمت المباراة في التاسع والعشرين من مارس 2019 على استاد الملك فهد الدولي بقيادة الحكم كونيت شاكير وتعليق المميز فهد العتيبي. مباراة درامية وتحكيم ممتاز استخدم تقنية الفار بشكل جيد ونقل تلفزيوني رائع ومستوى فني ممتاز.

بعد يوم واحد فقط لُعبت مباراة الأهلي والزمالك في ديربي القاهرة. أقيمت المباراة على استاد برج العرب والذي كان قد تحول لبركة مياه فعلية في مشهد أشبه بمباريات الشوارع، حيث تتوقف الكرة في كل تمريرة بسبب المياه وسوء أرضية الملعب. ولا أحد حتى الآن لديه سبب لعدم تأجيل المباراة. كانت المباراة بقيادة الحكم الروماني ستيفان كوفاكس الذي لا يعرفه أحد سوى مسئولي اتحاد الكرة المصري. وبتعليق مدحت شلبي الذي تفرغ لتقديم إفيهاته خلال المباراة التي لم تقدم أي ملمح فني على الإطلاق.

هل دخول تركي آل الشيخ مجال كرة القدم المصري ومحاولة السيطرة عليه من خلال السيطرة على النادي الأكبر في مصر النادي الأهلي المصري، ثم فشله في ذلك وما تلاه من شرائه نادٍ مصري ودعمه لآخر هو على سبيل المصادفة، ربما.

ربما قبل سنوات من الآن كانت المقارنة بين الدوري السعودي والدوريات العربية متقاربة، لكن خلال هذا الموسم الأخير اكتسح الدوري السعودي الجميع، وأعلن أن الريادة السعودية على المستوى الرياضي حقيقة لا تقبل الشك الآن.