تبدأ الشمس بالمغيب، تعلن نهاية النهار، ثم يحلّ الليل ويعلن وصوله. تنظر للسماء فتجد النجوم تتلألأ والكوكبات واضحة يمكنك تمييزها، والقمر جميلًا يُضيء بحسب طوره، يدفعك للتأمل والشرود. في الليل يمكنك الخروج للشارع وتتمشى بلا هدف، تتأمل المحال التجارية والناس، أو يمكنك الخروج برفقة صديقك لتشاهدا مباراة كرة القدم المفضلة في أحد الكافيهات، أو يمكنك بدء مناوبة عملك في مكتب نظيف مرتّب، أو الاحتفال بأمسية خاصة في مناسبة جميلة.

يمكنك فعل ذلك في كثير من بلدان وقرى العالم، لكن في غزة، أصبح الليل يشبه الوحوش العملاقة التي كنا نخافها في صغرنا، حيث تحجب ضوء الشمس بأجنحتها المهولة.

في غزة أصبح قدوم الليل موحشًا وباعثًا على القلق والخوف. فالعدو الإسرائيلي يختار الليل لقصف منازل المواطنين كلما سنحت له الفرصة بذلك. يقصف إمّا بإخطار مسبق وإعطاء مهلة للخروج من المنزل، أو بشكلٍ مفاجئ. في كلتا الحالتين الأمر مُقبض ومُرعب، وأنا أتابع كل ذلك عبر «تويتر»، حيث التغريدات التي تصل بعد خبر القصف تكون سريعة ومتوالية. عندها أشعر بالقلق والخوف مما سأقرأ.

قديمًا كنت أتابع الأخبار عبر التلفاز والراديو، كانت الأخبار تغطي الأحداث من زاوية بعيدة بعض الشيء مقارنة بعصرنا الحالي، عصر الديجيتال ميديا. الخبر كان يأتينا من الميدان بصيغة: «أفاد مراسلنا أن طائرات إسرائيلية قصفت منازل المواطنين في قرية…». كان يمكن تخيّل الوضع التالي للقصف، أو رؤيته في بعض الأحيان من خلال الجرائد والفيديوهات التي تبثّها تلك القنوات، ويُحجَب جزء كبير منها «مراعاةً لمشاعر المشاهدين».

لكن في عام 2021، وخلال ما يجري الآن، وما يزيد على أسبوع منذ بدء الأحداث في حي الشيخ جرّاح؛ كنت أتابع الأحداث لحظيًا عبر زاوية قريبة للغاية، أقرب من مراسل صحفي في الميدان. من داخل بعض المنازل، حيث يغرّد الفلسطينيون عبر «تويتر» كل دقيقة تقريبًا.

أنا لا أعرفهم، كمّ كبير من الناس يتداولون كمًا أكبر من المعلومات والتحذيرات. أعرف فقط أنهم مواطنون- شبّان وشابات مثلنا- كانوا منذ شهر يمارسون حياتهم الطبيعية قدر الإمكان، ثم خلال أيام تمحورت مجمل تغريداتهم عن القصف الإسرائيلي، الإصابات والشهداء، والمظاهرات في شوارعهم، وفي كثيرٍ من الأحيان تكون مجرد تغريدات عما يشعرون به. يبعدون عن أي تطورات ميدانية ليعبّروا فقط عن خوفهم وقلقهم وحزنهم.

أمنيّات بألّا يأتي الليل

يمكن اختصار ما يشعر به الإخوة في غزة في هذه الكلمات التي قرأتها توًا. الليل موحش للغاية، الظلام موحش، وأيضًا إنارة الليل بأضواء القذائف هو شعور مرعب لا يمكن تخيّله. أتابع أنا من مسافات بعيدة وأشعر في بعض الأحيان بأنني على وشك الصراخ. رصدتُ خلال الأيام الماضية العديد من التغريدات التي يدّونها الناس عن ليل غزة الموحش. يمكنك استشعار الخوف والقلق بمجرد قراءتها، تأخذك يداك في بعض الأحيان دون تفكير لإرسال رسالة أو ردًا يطمئنهم. إليك عيّنة صغيرة من تلك التغريدات:

هنا كتبت الإعلامية الجزائرية «آنيا الأفندي» تغريدة تتساءل فيها عن وضع الأطفال في ليل غزة؛ كيف سيقضون هذه الليلة؟ سؤال يرعبني وترعبني إجابته، وأطرحه على نفسي كثيرًا أيضًا.

ثم تغريدات من يوم 18 مايو/أيار:

عائلة «ريهام الكولك»

كنت أتابع التغريدات -قبل التفكير في كتابة هذه التدوينة- وأدعو الله أن يُسلّمهم، وما زلت أدعو بأن يكون ليل غزة رحيمًا بأهلها. يمرّ سريعًا ويرحل وحيدًا، وأن تضلّ قذائف جيش الاحتلال طريقها، ويرد كيدهم في نحورهم. كنت أتابع بخوف وقلق حقيقيين حتى عثرت على تغريدة «ريهام الكولك» التي أبكتني كثيرًا.

التغريدة كما رأيتها تم تداولها منذ بضعة أيام، تُظهر الصورة الملحقة فيها عدة منشورات عبر فيسبوك لشابة فلسطينية من غزة، تكتب بخوف ورعب كبيرين عما يدور حولها. هي تسمع أصوات القذائف تتساقط في محيط منزلها فتدعو الله أن يسلمها وأهلها، وألا تصيب القذيفة منزلهم.

عدّة منشورات كتبتها على مدار أيام، ثم فجأة توقفت ريهام عن الكتابة، وأصبح الآخرون هم منْ يكتبون عنها الآن. استشهدت ريهام وعائلتها في قصفٍ على منزلهم في غزة. عائلة بأكملها- وآخرون- رحلوا جميعًا إلى مكانٍ أفضل بمشيئة الله، وتركت لنا شعورًا قاسيًا بالمرارة والعجز والحزن، حزن لا يختلف كثيرًا عن ذلك الحزن وتلك الدموع التي ذرفتها منذ صغري ومنذ معرفتي بجرح فلسطين، بل زاد تأثيره عمقًا في النفس مع نضجي بما يجري واقترابي للميدان إلى تلك الدرجة، ومع نضجي أيضًا لمعنى الفقد.

حزنت على تلك الشابة وعائلتها وكأنني أعرفهم، مهندسة في أواخر العشرينيات من عمرها تعمل في شركة الاتصالات الفلسطينية كان لديها كثير من الأحلام المستقبلية مثلما حلمت في صغرها، فكبرت وأصبحت مهندسة.

بعد ما قرأت التغريدات منذ بضعة أيام ذهبتُ لفيسبوك مباشرة أبحث عن حسابها، ووجدته بالفعل، ولم تتوقف التعليقات عن الدعاء لها بالرحمة. لكن عندما هممت بكتابة هذه التدوينة اليوم لم أعثر على حسابها. ربما أغلق أو حُجب، لا أدري أين اختفى، هو ذهب كما ذهبت هي، لكن منشوراتها الأخيرة التي توجد في صور تلك التغريدات بقيت… اسمها بقِي، وسأحتفظ بها هنا ولن أنساها، وسأتذكرها وعائلتها دائمًا. رحم الله ريهام وعائلتها، وكل شهدائنا في فلسطين.

ورسالة أخيرة تشبه تلك التغريدات: يا ليل غزة الموحش، خفّف من قبضتك، وكُن بردًا وسلامًا ونصرًا لأهلنا وإخوتنا هناك.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.