رحل إلى جوار ربه العلامة الدكتور محمد عمارة يوم الجمعة 4 رجب 1414هـ/28 فبراير 2020م. رحل ونحن نبكيه ويبكيه الخلق وتبكيه الأوراق والأقلام والأحبار والأفكار والعلماء وطلاب العلم. وإنا على فراقه لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: «إنا لله وإنا إليه راجعون».

العلامة محمد عمارة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، وصاحب أكبر مشروع فكري إسلامي معاصر. وهبه والده في طفولته للأزهر الشريف، ووهب هو نفسه للعلم والذود عن الإسلام والمسلمين. قال لي ذات مرة: آثرت التفرغ للبحث والكتابة، وتركت الوظيفة الحكومية وزهدت في التطلع للمناصب منذ تخرجت في كلية دار العلوم، وفضلت أن أظل حراً مشتغلاً بالعلم، وأن أكون كالجالس على «الحصيرة»؛ لأن الجالس على الحصيرة لا يصيبه الأذى إذا ما وقع من عليها! هذا التشبيه البليغ يلخص مسيرة حياة هذا العالم الفذ بدقة بالغة، ويفسر جوانب كثيرة من هذه الحياة الحافلة بالعلم والعمل والمواقف الكبار. لقد عرك الحياة وعركته، وترسخ مشروعه الفكري في الوعي الجمعي لأجيال متعاقبة من أبناء الأمة من شرقها إلى غربها، ومن شمالها لجنوبها.

 أتذكر أنني قرأت مقالة للشيخ محمد الغزالي، يصف فيها العلامة عمارة مداعباً إياه في لقبه: أنت لست «عمارة»؛ أنت قلعة حصينة شامخة شديدة البأس؛ تكر منها على أعداء الإسلام وشانئيه، ولا ترضى الإياب إلا بعد أن تتركهم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية. أو هكذا كتب الشيخ الغزالي رحمه الله.

العلامة محمد عمارة ظل مرابطاً على ثغور الإسلام الفكرية مدة تربو على سبعين عاماً على الأقل. يرد عادية المعتدين، ويدفع غارات المغيرين بحول الله وقوته وكده وسهره إلى حد كان يجعل أمثالنا من صغار تلامذته يخجلون من أنفسهم لما يرونه من عزم وحزم وصبر ومثابرة في أعماله ومواقفه كلها.

ولد الدكتور محمد في قرية «صروة» إحدى قرى مركز قلين بمحافظة كفر الشيخ في 27 رجب 1350 هـ / 8 ديسمبر 1931م. حفظ القرآن الكريم في كتاب قريته، والتحق بالمعهد الأحمدي الأزهري بطنطا، وأكمل دراسته الجامعية بكلية دار العلوم وحصل منها على الماجستير سنة 1970م، والدكتوراه سنة 1975م في تخصص الفلسفة الإسلامية. وتفتحت اهتماماته الوطنية والعربية والإسلامية وهو صغير. وكان أول مقال نشرته له صحيفة «مصر الفتاة» بعنوان «جهاد عن فلسطين».

في بعض أحاديثه الشفوية كان يبادر محدثه بروح الأسد الهصور حفظه الله قائلاً: تعرف فلاناً (ويذكر اسم أحد الشانئين للإسلام، أو الكارهين لأمته وتراثها في مصر أو خارجها) فيقول: نعم. فيرد: لقد كتب كذا وكذا، وتهجم على ثوابت الأمة في كذا وكذا. ثم يقول: «بس إيه… أنا مسبتوش…إلا بعد ما «وضبته» وما أن يسمع أحد من أهل مصر كلمة «وضبته» (عامية تعني: أدبته وبالغت في تأديبه، فأحسنت صنعاً) حتى يفهم كل مقول القول، ولا يبقى إلا الاسترسال في الضحك معه والاستماع إلى حلو حديثه.

أستاذنا العلامة عمارة هو في المركز من مدرسة التجديد والإحياء الإسلامي المعاصر، كما أنه امتداد وإضافة أيضًا لهذه المدرسة التي تبدأ من رفاعة الطهطاوي وتمر بمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، ورشيد رضا، وغيرهم. هو في ركب هؤلاء الكوكبة من أكابر العلماء.

 من مآثره رحمه الله التي سيذكرها التاريخ على مر الزمن أنه صاحب الفضل الأكبر في إحياء أعمال مدرسة التجديد الإسلامي الحديث، وأنه هو من تحمل عبء التنقيب عنها عشرات السنين في أضابير السجلات ومحفوظات المكتبات العامة والخاصة. وهو من تجشم مخاطر نشرها والمحافظة عليها من خلال مشروعه الضخم الذي صدر تباعاً منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي تحت عنوان «الأعمال الكاملة»؛ لرواد الإصلاح والتجديد الإسلامي: الأعمال الكاملة للطهطاوي، والأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، والأعمال الكاملة للأفغاني، والأعمال الكاملة لقاسم أمين … إلخ.

خاض العلامة عمارة معارك فكرية على جبهات كثيرة جداً، وفي وقت واحد. خاض معركة الإحياء والتجديد، كما ذكرنا، وخاض معركة الدفاع عن أصول الإسلام وعقائده ومبادئه العليا، وخاض كذلك معركة الدفاع عن الأمة ومصالحها في الميدان السياسي، وميدان الجهاد والاستقلال، ومحاربة الاستعمار والتدخل الأجنبي في شئوننا الداخلية.

 كان منذ نعومة أظفاره منخرطاً في الحركة الوطنية وفي الدفاع عن مصر، وعن العالم العربي، وعن الأمة الإسلامية، وعن قيم الحق والخير والعدل والحرية.

كان علامتنا الدكتور عمارة في هذا الموقع الإسلامي يتقدم الصفوف دوماً. يذكرك بسيرة السلف الصالح من العلماء العاملين الذين لم يخشوا في الله لومة لائم. كان في زهده وصلابته يذكرك بأن أمتنا بالفعل سلطنت العلماء فعرفت «سلاطين العلماء» ـ وليس فقط علماء السلاطين ـ ومنهم مثلاً العز ابن عبد السلام، وعرفت «سلاطين العاشقين» ومنهم مثلاً سيدي عمر ابن الفارض، وعرفت «سلاطين العارفين»، ومنهم مثلاً البسطامي، والجيلاني، وإبراهيم بن أدهم وغيرهم كثيرون.

 خاض العلامة عمارة أيضاً معارك ثقافية لا حصر لها لدحض آراء المناوئين للفكرة الإسلامية. وهو من أكبر كبار العلماء في عصرنا الذين فندوا دعاوى العلمانية ودعاوى الإلحاد، وكل المبادئ التي رآها تتطاول على أصول الإسلام وتشوه حقائقه في أذهان الأجيال الشابة، وله عشرات المؤلفات في هذه القضية، وهي واسعة الانتشار ومعروفة جداً.

وكذلك كانت له اهتمامات على جبهة رابعة، وهي جبهة الاجتهاد والتجديد، فهو قد أسهم في تجديد كثير جداً من القضايا؛ منها قضايا التعددية في النظام الحزبي وفي الحياة الاجتماعية بشكل عام، وقضايا العلاقة مع الغرب والموقف من الغرب، والموقف من الحضارة الأوروبية، ورأي الإسلام في الفن والفنون الجميلة … إلخ.

خاض معركة المصطلحات، وحذرنا وحذر أجيالاً عديدة من خطر استخدام المصطلحات الوافدة والمستوردة من الخارج. وأدلى برأيه في كل القضايا المهمة، ليس مدافعاً فقط وإنما مجدداً أيضاً، في كل هذه الساحات مرة أخرى هو قلعة حصينة من قلاع الإسلام.

هذه المعارك التي أشرنا إليها وانخرط فيها العلامة الدكتور عمارة منذ أكثر من نصف قرن، كيف قام بها؟ هل فرضت عليه؟ أم هو بادر بالدخول فيها؟ هذه أسئلة نظرية مهمة تحيلنا إلى دور العلماء المسلمين في حياة الأمة. فالعلماء لهم ثلاثة أدوار في حياة الأمة:

الدور الأول: هو تثبيت أصول العقيدة، وحمايتها، ونقلها وتوريثها من جيل إلى جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

الدور الثاني: هو الدفاع عن هذه الأصول في مواجهة الخصوم، ودحض افتراءاتهم ورد دعاواهم وبيان زيفها.

الدور الثالث: هو التجديد والاجتهاد لحل المشكلات والتحديات التي تستجد في حياة الأمة بين الحين والآخر.

والدكتور العلامة محمد عمارة بحكم أنه عالم كبير من علماء الأمة كان يقوم بهذه الوظائف بحسب الظروف؛ فأحيانًا تجده في الدائرة الأولى مع المثبتين والناقلين لأصول العقيدة والمورثين لها للأجيال المتعاقبة، باعتبار أن هذا هو الميراث النبوي؛ «فالعلماء ورثة الأنبياء».

وأحيانًا تجده في الدائرة الثانية، وهي دائرة الدفاع – كما قلنا – وهذه القلعة الحصينة التي تحدثنا عنها. وبالمناسبة، فإنه في هذه القلعة الحصينة لم يخسر – ولله الحمد – أية معركة خاضها. ودليلنا على ذلك أنك ترى كل خصومه صرعى أو مطروحين أرضاً، سواءٌ كانوا من العلمانيين أو من المتهجمين على الإسلام من أصحاب الدعوات الهدامة والعقائد الفاسدة من داخل مصر ومن خارجها. فكل معاركه كانت ناجحة، وخرج منها منصوراً مظفراً، مرفوع الهامة موفور الكرامة، حامداً ربه وشاكراً فضله.

وأحياناً أخرى تجده في الدائرة الثالثة، وهي دائرة الاجتهاد والتجديد؛ ومن ثم يصعب جداً أن نحدد هل هو بادر بالانخراط في تلك القضايا والمشكلات؟ أم أنها فرضت عليه؟ هو يقوم بوظيفته كعالم. والعالم لا بد أن يقوم بنسب متفاوتة ومختلفة بالوظائف الثلاثة التي تحدثنا عنها.

أعود وأكرر القول: إن الدكتور عمارة كان من كبار رواد مدرسة الإصلاح والتجديد في العصر الحديث. هو من الذين تابعوا وأضافوا على اجتهادات الإمام محمد عبده وغيره من رواد هذه المدرسة. وهو من الذين كتبوا كثيراً، وحاضروا كثيراً، ونشروا أصول القضايا الكبرى التي اعتنت بها مدرسة الإصلاح والتجديد في العصر الحديث، وخاصة في القضايا المتعلقة بالمبادئ السياسية للرؤية الإسلامية؛ بأنها رؤية جوهرها الاعتدال ، وسمتها الثقة بالذات الحضارية. رؤية تتوافق مع الفطرة الإنسانية وتتطابق معها. كان رحمه الله يؤكد هذه الصفات الأساسية، ويفند كل الدعاوى الأخرى التي تتطرف يميناً أو يساراً عن هذه المنطقة الوسطية.

ومفهوم الوسطية لدى الدكتور محمد عمارة أعمق بكثير من أن يكون مرادفاً للموقف الوسطي؛ فالوسطية عنده مفهوم شامل يتطابق مع فطرة الإنسان، وليس مفهوماً وسطاً بين رذيلتين.

إن مفهوم الوسطية عنده هو المفهوم نفسه الذي جاء به القرآن، وما جاء به القرآن هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها. ومن خصائص الفطرة أنها تجرب كل الأفكار، وتجتهد في كل الاتجاهات، وتمارس حياتها (تخطئ وتصيب)، أما أن نتصور أن مفهوم الوسطية هو مفهوم رياضي أو حسابي؛ فهذا أبعد ما يكون عن مفهوم الوسطية الإسلامية، وأبعد ما يكون عن مفهوم الدكتور محمد عمارة الذي يطرحه في كتاباته وأعماله الكثيرة.

يقول بعضهم إن الدكتور محمد عمارة لم يلق التكريم الذي يستحقه، أو لم يحظ بهذه الجائزة أو تلك من جوائز الدولة. وأنا أقول عكس ذلك، وكلي ثقة بما أقول: إن الدكتور عمارة لقي ما يستحق من التكريم وهو تكريم الأمة؛ وهذا هو أعظم تكريم للعلماء. وهذا ما ناله العلامة الدكتور عمارة عن جدارة. ويشهد له بذلك احتفاء أبناء الأمة به وبكتاباته واجتهاداته، التي تتلقاها بالقبول أجيال متتالية منها، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وفي كل مناطق العالم. ويشهد له اليوم بكاء الخلق على رحيله في مشارق الأرض ومغاربها. هو ليس في حاجة إلى تكريم رسمي أو حكومي أو من أية جهة أخرى.

كرامة العلماء في التراث الإسلامي وفي تاريخنا الحضاري الإسلامي تأتي من قبول الأمة لهم ومن إجلالها لأعمالهم، ومن سيرها على درب الأفكار والاجتهادات التي يقدمونها لهم. وهذا أعظم تكريم للدكتور محمد عمارة، وله منه حظ وافر.

الدكتور محمد عمارة – كما أعرفه شخصياً – لم ينتظر ولم يهتم على الإطلاق بأنواع تكريم أخرى يلهث وراءها آخرون في هذا البلد أو ذاك، ويُعْطَوْنَ من أموال الضرائب التي يدفعها أبناء شعوب أمتنا من قوت يومهم. هي أموال تُعْطَى بغير حق إلى من يهاجمون عقائد السواد الأعظم من المصريين، وإلى من يعتدون على مقدساتهم وثوابتهم العقيدية وهويتهم الذاتية.

الدكتور محمد عمارة كُرِّم بالفعل، ولن يكون من السهل شطبه من وعي الأمة ومن ضميرها على مدى أجيال طويلة جداً. وأكرر مرة أخرى: إن هذا برهان على قيمة الدكتور محمد عمارة وعلى ثبوت قدمه في قلب الأمة وفي ضميرها وفي وجدانها، كما ثبت قبل ذلك أسلافه من كبار العلماء. فالأمة مثلاً ذكرت، وتذكر، وستذكر الإمام أبا حنيفة النعمان؛ هذا العلم الفذ لم يكرمه الحكام ولا الخلفاء، وإنما كرمته الأمة بقبول فقهه وبالسير على نهجه منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، والناس حتى الآن في مصر عندما يعقدون عقود الزواج يقولون: «على سنة الله ورسوله، وعلى مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان»، وكفى به من شرف.

الدكتور محمد عمارة في هذا المقام، وسيكرر أبناء الأمة القول بأن: «هذا ما قاله الدكتور محمد عمارة»، أو يقولون: «كما قال الدكتور عمارة»، «كما رأى الدكتور عمارة»، وهذا أعظم تكريم بالنسبة إليه. اللهم ارحمه برحمتك الواسعة وأنزله منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين، واجزه عنا وعن أمتنا خير الجزاء وأحسنه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.