استفاد علماء الأمة الإسلامية من انفتاح ديار الإسلام، فلا حواجز ولا أسلاك شائكة، فكانوا ينتقلون من قطر إلى قطر في طلب العلم، غير مبالين بمشقة وغناء وفقر.

تروي كتب التاريخ في ذلك أمثلة شتى، من علماء الحديث الذين جابوا عالم الإسلام لسماع الأحاديث النبوية، وعلماء اللغة الذين رحلوا إلى البادية يقيدون اللغة والأدب، وعلماء الفلسفة الذين رحلوا إلى القسطنطينية في طلب الكتب اليونانية للترجمة. وكذلك الشأن في كل فرع من فروع العلم. [1]

لم تكن هناك قيود من المواطنة والجنسية تعوق ارتحال العلماء والطلاب. ولأن جميع أبناء الأمة متساوون في نظر الشريعة في أي مكان بديار الإسلام، كان الطلاب والعلماء يرتحلون من مشرق العالم الإسلامي إلى مغربه، ومن أقصاه إلى أدناه، دون أن تعوقهم أسلاك شائكة، ودون حاجة إلى حماية وامتيازات. [2]

لكن، هل كانت حياة العلماء وردية في ديار الإسلام؟!

بالطبع لا، فلسنا في الجنة، بل في الحياة الدنيا. ولا يمكن بأي حال مقارنة ما جري للعلماء بأوروبا في عصور النهضة، بما تعرّض له بعض علماء الأمة الإسلامية.

في البدء، نقول إن ديار الإسلام لم تنزلق إلى مهاوي التكفير، ومن أئمة الإسلام من رأي أن من أصول الإسلام النظر العقلي لتحصيل الإيمان، وتقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، والبعد عن التكفير، حتى قال: «إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان على وجه واحد، حمل على وجه الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر»، وقد عارض الإسلام وحارب السلطة الدينية، فليس لأحد بعد الله سلطان، والخليفة ليس موضع عصمة ولا مهبط وحي. [3]

يُعلِّق الإمام محمد عبده ساخراً:

وهل يليق بالحكيم أن يكون من الحمق بحيث يقول قولاً لا يحتمل الإيمان من وجه واحد من مائة وجه؟! إذا بلغ الحمق هذا المبلغ، كان الأجدر به أن يذوق حكم محكمة التفتيش البابوية، ويؤخذ بيديه ورجيليه فيلقى في النار.

الاضطهاد الذي عاناه بعض علماء المسلمين على يد السلطة لم يكن مقصوراً على فئة دون أخرى. لم يُصب على علماء العلوم الطبيعية دون العلوم الدينية. عانى علماء الفريقين من الظلم والاضطهاد على يد السلطة. بل ظلت العلاقات متوترة بين السلطة وعلماء الفقه والحديث فترات طويلة، فالأئمة الأجلّاء رفضوا الاعتراف بشرعية بني أمية وبني العباس، وقد مرّ بنا الموقف المجيد للإمام أبي حنيفة النعمان في مواجهة سوط ودنانير الأمويين والعباسيين، وما لاقاه أهل السنة في محنة خلق القرآن.

يقولون إن عبد الله بن المقفع (106–142 هـ) قُتل قتلة شنيعة، وإن الفلاسفة عانوا الاضطهاد، بخاصة ابن رشد (520–595 هـ)، وهذا دليل على عدم التسامح مع العلماء في ديار الإسلام.

أمّا ابن المقفع، فقد قُتل في عهد أبي جعفر المنصور (حكم 136–158 هـ)، لأسباب سياسية، فقد كان مُتصلاً بعبد الله بن علي أيام خروجه على المنصور، ولما كتب ابن المقفع عهد الإيمان لعبد الله بن علي شدد على المنصور بأن يُطلق نساءه ويعتق عبيده ويحل الناس من بيعته إن نكث عهده لعمه عبد الله أو غدر به، فحفظ ذلك المنصور وأسرها في نفسه. ويُقال إن المنصور أوحى إلى سفيان بن معاوية عامله على البصرة أن يقتل ابن المقفع، وكانت بينه وبين ابن المقفع عداوة، لكثرة استخفاف ابن المقفع بسفيان وكان كبير الأنف، فإذا دخل عليه هزأ به قائلاً: السلام عليكما، يعني بذلك سفيان وأنفه. [4]

أمّا أبو الوليد ابن رشد، فهو يعد مثالاً على «أدلجة التاريخ»، وخلقاً لمشكلة لم توجد [5]، فالمعاصرون يعدونه شهيد الفلسفة، آخر فلاسفة الإسلام، قد خاض معركة تنويرية ضد الفكر السلفي الظلامي لأبي حامد الغزالي (450-505 هـ)، بعدما ردّ على كتاب الغزالي «تهافت الفلاسفة» بكتابه «تهافت التهافت». [6]

ابن رشد، من الشخصيات التي لمعت في سماء الحضارة الأندلسية، لكنه لم يكن شهيد الفلسفة، ولا آخر فلاسفة الإسلام، فقد عاش مُقرّباً من سلاطين الموحدين، أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن (ت 580 هـ)، ومن بعده ولده أبو يوسف يعقوب المنصور (ت 595 هـ)، يتولى قضاء قرطبة وطبيب السلطان.

المحنة التي نزلت على ابن رشد بدأت مع تغير المنصور عليه، بسبب مساعي نُقّاده من الحفاظ والطلبة والفقهاء، إذ نقموا عليه بعض آرائه الفلسفية. [7] والحق أن هذا لم يكن سبب تغير المنصور على ابن رشد، وإنما المبرر أو الظاهر الذي يخفي وراءه الباطن.

فالسلطان الوالد لم يكن من كارهي الفلسفة، بل مُحباً لها، شغوفاً بجمع الكتب، ومُجالسة العلماء، فكان من جلسائه ابن باجة أبو بكر بن صائغ، وابن طفيل أبي بكر محمد، وهو الذي زكى ابن رشد لدى السلطان [8]، وحتى المنصور بعد المحنة التي أنزلها بابن رشد وحرقه لكتب الفلسفة «نزع عن ذلك كله، وجنح إلى تعلم الفلسفة، وأرسل يستدعي أبا الوليد من الأندلس إلى مراكش للإحسان إليه والعفو عنه». [9]

لماذا إذن غضب المنصور على ابن رشد؟

هناك عدة أسباب لا سبب واحدًا، منها أن ابن رشد وثّق علاقته مع أبي يحيي أخي المنصور ووالي قرطبة، وكان بين الأخوين جفاء، ومنها أن ابن رشد كان يرفع التكليف مع السلطان ويخاطبه بقوله «اسمع يا أخي»، ومنها أن ابن رشد كتب في شرحه لكتاب الحيوان «ورأيت الزرافة عند ملك البربر»، يقصد المنصور، في إهانة له. [10]

مراعاة لكبر سن ابن رشد، إذ كان في السبعين من عمره، اختار المنصور أن ينفي ابن رشد إلى بلدة أليسانة قرب قرطبة، وأمر بإحراق كتبه، وهي في معظمها شروح على كتب أرسطو، وضعها ابن رشد بتكليف سابق من السلطان [11]، فأحُرقت نسخ من هذه الكتب بقرطبة، في مشهد يصفه يوسف زيدان بأنه:

مشهد مسرحي لا يعني أكثر من إظهار غضب المنصور على ابن رشد، إذ الجميع يعلم أن لهذه الكتب نسخاً أخرى لا حصر لها، وأنها ستبقى من بعدهم إلى زماننا هذا، حيث تمتلئ رفوف مكتباتنا بنشراتها وتحقيقاتها وركام من الدراسات حولها. [12]

في هذه المحنة المؤقتة، لم يكن ابن رشد وحده، وإنما غضب المنصور وقتها على جماعة من المفكرين والعلماء، منهم القاضي أبو عبد الله الأصولي، الشاعر أبو العباس الحافظ، أبو جعفر الذهبي، أبو الربيع الكفيف، محمد ابن إبراهيم.

يقول عبد الواحد المراكشي في تاريخه «المعجب في تلخيص أخبار المغرب» إن في أيام المنصور «انقطع علم الفروع، وخافه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب بعد أن يُجرد ما فيها من حديث رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) والقرآن. فأحرق منها جملة في سائر البلاد. وكان قصده في الجملة محو مذهب مالك (بن أنس) وإزالته من المغرب مرة واحدة وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث». [13]

وبعد فترة، قيل إنها سنة وثمانية أشهر، وقيل ثلاثة سنوات، رضي السلطان على ابن رشد، وأعاده إلى منصبه بالقضاء في قرطبة [14]، بعد أن تشفع فيه جماعة من أكابر أشبيلية، ونفوا عنه تهمة المروق والزيغ، وشهدوا بسلامة عقيدته، أمّا ابن رشد فقد نفى عن نفسه تهمة العيب في حق المنصور بوصفه «ملك البربر»، وقال، إن صحة الوصف هي «ملك البرين»، وإن مع وقع هو تحريف من الناسخ، فاستجاب المنصور لشفاعة أكابر أشلبية، وقبل اعتذار ابن رشد.

على مدار تاريخ أمة الإسلام، يمكن إجمال الاضطهاد الذي عاناه بعض مفكري أمة المسلمين بـ«أسباب سياسية وشخصية»، كما يرى الإمام محمد عبده، وأستاذ الفلسفة، توفيق الطويل.

أسباب سياسية، مثلما حاول المأمون فرض رأيه فيما يخص مسألة خلق القرآن على مخالفيه من أهل السنة، وهي المحنة الذي قاسى فيها الإمام أحمد بن حنبل ضرباً بالسياط ونخساً بالسيوف. يقول توفيق الطويل:

وهذه المحنة كان من المستحيل أن تقع لو لم يتدخل في الأمر صاحب النفوذ والسلطان. لو ظل الأمر خلافاً في الرأي بين المعتزلة وأهل السنة لظل مقارعة حجةً بحجة وبرهاناً ببرهان، ولكن السياسة تدخلت. [15]

الوجه الثاني من الأسباب السياسية لاضطهاد بعض العلماء، نراه في استجابة أصحاب السلطان لأهواء العامة لخشيتهم من اضطراب أمرهم وفساد أمنهم. يضرب الإمام محمد عبده مثالاً على هذا السبب «الأمني/ السياسي»، بمأساة الحلاج الحسين بن منصور –وكان يقول بالفناء أي فناء الإنسان عن ذاته– «فتضطر السياسة للدخول في الأمر لحفظ أمن العامة، فتأخذ صاحب الفكر، لا لأنه تفكر، ولكن لأنه لم يرد أن يقصر حق الحرية على شخصه، بل أراد أن يُقيِّد غيره بما رآه من الحرية لنفسه، مع أن غيره في غنى عما يراه هو حقاً له. وتخشى الفتنة إذا استمر مدعي الحرية في غلوائه، فلهذا يرى حفاظ النظام أن أمثال هؤلاء يجب أن ينقي منهم المجتمع صونًا له عما يزعزع أركانه». [16]

أمّا الأسباب الشخصية، فهي كما يقول توفيق الطويل:

حسد العلماء للمتفوقين منهم، وضيقهم بشهرة غيرهم وذيوع اسمهم، وقلقهم من ظهور رأي جديد لم يألفوه، وحرصهم على رأي قديم ثبتوا عليه وآمنوا بصحته، والتزمت. [17]

هذا الحسد والغيرة –كما يراه الإمام محمد عبده– ليس مبعثه الغيرة على الدين، «وإنما تجد الحسد هو العامل الأول في ذلك كله، والدين آلة له»، لهذا يقع الأذى على قاضي قضاة كابن رشد أو وزير أو جليس خليفة أو سلطان أو ذي نفوذ عظيم بين العامة.

وهذا الحسد والوشاية كما يقع من الفقهاء مثلاً لإيذاء الفلاسفة، يقع من الفقهاء لإهلاك بعضهم بعضاً. وليس هذا يعد اضطهاداً من الدين للفلسفة، «لأن التحاسد أكثر ما يقع بين من لا دين لهم على الحقيقة وإن لبسوا لباسه. وإنما ذلك الاضطهاد هو الذي يحمل عليه محض الاختلاف في العقيدة، أو ظن المخالفة للدين في شيء من العلم أو العمل لضيق الدين عن أن يسع المخالف بجانبه، وهذا ما لم يقع في الإسلام». [18]

وبعد أن يعرض الإمام للأسباب التي تدفع لاضطهاد العلماء، ويحصرها في التحاسد والسياسة، يقول قولته الشهيرة في لعن السياسة:

فإن شئت أن تقول: إن السياسة تضطهد الفكر أو الدين أو العلم، فأنا معك من الشاهدين. أعوذ بالله من السياسة، من لفظ السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس. [19]

بخلاف هذين الأمرين، لم تعرف أمة الإسلام محاكم تفتيش. لم تظهر قوائم تحوي أسماء كتب مُحرّمة. لم تعرف منْ قاوم القول بدوران الأرض حول الشمس. لم يُحرق عالم لرأي علمي قال به. قال علماء المسلمين بكروية الأرض في أول خلافة بني العباس، فلم يمسّهم أحدهم ولو بشعرة، فلما قال علماء الغرب مثل ما قالوا، اضطربت كراسي الباباوات وعروش الملوك.

المراجع
  1. أحمد أمين، ضحي الإسلام، ج 2، ص 70.
  2. جورج مقدسي، نشأة الكليات: معاهد العلم عند المسلمين وفي الغرب، ترجمة محمود سيد محمد، الطبعة الأولي (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، يناير 2015)، ص 349.
  3. محمد عبده، الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، ص 75. توفيق الطويل، قصة الصراع بين الدين والفلسفة، الطبعة الثالثة، (القاهرة: دار النهضة العربية، 1979)، ص 152.
  4. ترجمة محمد حسن نائل المرصفي لعبد الله بن المقفع، في كتاب كليلة ودمنة، الطبعة الخامسة، مطبعة مصطفي محمد، ص 62-63.
  5. انظر عرضاً لأمثلة على أدلجة التاريخ من جهة الإسلاميين والعلمانيين: أحمد أبا زيد، في بؤس أدلجة التاريخ، جريدة العربي الجديد، 9 يوليو 2015.
  6. انظر في هذا قول ارنست رينان «فلما مات ابن رشد في سنة 1198 فقدت الفلسفة العربية فيه آخر ممثل لها، وضُمن انتصار القرآن على الحرية الفكرية لستة قرون على الأقل!» (ابن رشد والرشدية، ترجمة عادل زعيتر، (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1957)، ص 23). الغريب أن كتب الغزالي قد أحُرقت في قرطبة!
  7. عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق محمد سعيد العريان، (القاهرة: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية)، ص 384.
  8. المراكشي، ص 309: 315.
  9. المراكشي، ص 385.
  10. المراكشي، ص 384، وهو يري أن خطأ ابن رشد في وصف المنصور بأنه ملك البربر كان أكبر الأسباب في محنته. محمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس، عصر الموحدين، ص 224-228. ارنست رينان، ابن رشد والرشدية، ص 438.
  11. عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، ص 315.
  12. حي بن يقظان، تحقيق ودراسة يوسف زيدان، ص 56-57.
  13. المراكشي، ص 354-355.
  14. محمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس، عصر الموحدين، ص 225. يوسف زيادان، حي بن يقظان، ص 57، وهو يضيف أن ابن رشد لم يكن أعظم الفلاسفة المسلمين، فقد كان فيلسوفا كالآخرين يسعي للتأكيد على الصلة بين الإسلام والفلسفة، ولم يكن آخر الفلاسفة، وإلا فأين نضع نصير الدين الطوسي، وابن النفيس، وصدر الدين الشيرازي، وسعد الدين التفتازاني، السيد الشريف الجرجاني، وغيرهم من عظماء الفلاسفة؟!
  15. توفيق الطويل، قصة الصراع بين الدين والفلسفة، الطبعة الثالثة، (القاهرة: دار النهضة العربية، 1979)، ص 148.
  16. محمد عمارة، الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، الإصلاح الفكري والتربوي والإلهيات، ص 330 – 331.
  17. توفيق الطويل، مرجع سابق، ص 155.
  18. محمد عمارة، الأعمال الكاملة، ص 332.
  19. عمارة، ص 338.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.