حاز التصوف ولا يزال على اهتمام وعناية الباحثين في الشرق والغرب، وقد قدّموا فيه –أي المستشرقين- دراسات كثيرة تنوعت ما بين الدراسة والترجمة لكتب الصوفية الأوائل، وقد تناولوا من خلال هذه الدراسات قضايا التصوف وشخصياته، للكشف عن أصول ومصادر التصوف في الإسلام، ولعل هذه هي أهم القضايا التي تناولها المستشرقون على اختلاف مدارسهم ومناهجهم.

ومن أهم مدارس الاستشراق في أوروبا، والتي تناولت قضية تأصيل التصوف ونشأته، هي المدرسة الفرنسية، وفي مقالنا هنا نتناول أحد أهم المستشرقين لهذه المدرسة، بالنظر إلى أهميتها وعراقتها في دراسة الفلسفة الإسلامية والتصوف على وجه التحديد، ونعني هنا البارون كارادفو.

مصادر الزهد والتصوف عند كارادفو

تناول كارادفو مصدر الزهد عند المسلمين الأوائل، وقد رأى أنهم متأثرون أشد التأثر بما كان عليه الرهبان النصارى، ودليل هذا قوله:

قد أدخل الزهد على الإسلام واتخذ طابعًا سنيًا، وهو المذهب الذي انتحله التصوف، وهو مذهب معين جدًا، فليس هو سوى الزهد النصراني بجميع أقسامه الملائمة لعقائد الإسلام ومبادئه الجوهرية. [1]

وهذا يعني أن الزهّاد المسلمين الأوائل أخذوا مبادئ زهدهم في الدنيا من رهبان النصارى.

أمّا عن التصوف الإسلامي فقد اعتبره كارادفو خارجًا عن الإسلام، ومن ثَمَّ فأصوله غير إسلامية، ودليل هذا يقول:

لا يصدر التصوف الإسلامي عن القرآن، ويظهر هذا أول وهلة، وقد لاحظنا ذلك في كتاب آخر بما فيه الكفاية، وما يرى في الإسلام من تصوف نجد له مصادر غريبة عن الإسلام، وأول ما يرى هو أنه لا يمكن أن يبحث عنها في غير النصرانية والفلسفة اليونانية وأديان الهند وفارس، وفي الفلسفة اليهودية ثانويًا. والواقع أن جميع هذه المؤثرات أثرت في تكوين التصوف الإسلامي. [2]

إذن يحدد كارادفو أصول التصوف في ثلاثة مصادر رئيسية أخذ عنها الصوفية المسلمون تصوفهم وهي: المصدر المسيحي واليوناني والهندي، ودليلاً على هذا يقول:

والخلاصة هي أننا إذا عدونا العلم القبالي الحرفي وجدنا ثلاثة مؤثرات كبرى عملت في التصوف الإسلامي، وهي المؤثر الهندي والمؤثر اليوناني والمؤثر النصراني؛ فأمّا المؤثر الأول فهو إمّا أن يكون قد بقي خارجيًا، أو قد نُزع من الإسلام نزعًا تامًا من عانوه في الأساس، وأمّا الثاني فقد عمل في أناس من ذوي النفوس، وجعل منهم أنصاف ملاحدة فاضطر إلى التواري، ولذا فإن شكل التصوف الذي صار سنيًا نصراني الأساس. [3]

المصدر النصراني

كان للمصدر المسيحي عند كارادفو تأثير بالغ على الصوفية المسلمين أمثال الحارث المحاسبي (ت 243هـ)، والغزالي (ت 505هـ)، والقشيري (ت 442هـ) وغيرهم، فقد ذكر لنا أن كتاب الرسالة القشيرية مُقسَّم قسمين أساسيين عن نظريتين كبيرتين؛ هما الأحوال الصوفية التي أصولها في النصرانية لا ريب، ولكن الصوفية المسلمين قد منحوها ضبطًا وتنسيقًا لم يجرؤ عليه لاهوتيو النصرانية -على حد قوله-  فقد كانوا أكثر تحفظًا. والثانية هي نظرية الأخلاق النسكية التي هي نصرانية. [4]

فالقشيري -على حد قول كارادفو- يسير على العادة النصرانية فيجعل التوبة والعزلة مقدمة لحياة التصوف، فالتوبة هي أول منزل من منازل السالكين وأول مقام من مقامات الطالبين. [5] وهذا الأمر السابق ينطبق على أحوال السالكين إلى الله تعالى من الصمت والحزن والتواضع باعتبارها فضائل للزهاد والصوفية، فيقول كارادفو في مقام:

فحال الحزن يقبض القلب عن التفرقة في أودية الغفلة، وصاحب الحزن يقطع طريق الله تعالى في شهر ما لا يقطعه من فقد حزنه سنين، ويحب الله كل قلب حزين، فكأن القشيري قد اقتبس هذا القول من مزمور «ارحمني». [6]

وقد ذكر كارادفو نفس الدعوى السابقة على تصوف الغزالي، فقد رآه أنه اقتطف من كتب النصرانية فيما يتعلق بالتوبة، والتي هي على ثلاثة أقسام أولها: التوبة وأوسطها الإنابة وآخرها الأوبة. [7]

المصدر اليوناني

أمّا عن المصدر اليوناني، فإن كارادفو قد ذهب إلى أن الأفلاطونية المحدثة وهي واحدة من المدارس الفلسفية اليونانية القديمة قد كان لها نفوذ في التصوف الإسلامي على حد تعبيره، مما أسفر عن مذهب في التصوف الخالص، وهو مذهب الإشراق، حيث كان لهذه الفلسفة تأثيرها الواسع على مذهب الإشراقية نسبت إلى صاحبه الصوفي المسلم السهرودي الإشراقي (ت 687هـ). [8]

الرد على هذه الادعاءات

ويمكننا دحض كل دعاوى هؤلاء المستشرقين حول تأصيل التصوف في الإسلام على النحو التالي:

أولًا

فيما يتعلق برد الزهد للرهبنة المسيحية، فإن الزُهد يختلف تمام الاختلاف عن الرهبنة التي هي انعزال تام عن أمور الحياة الدنيا، لكن الزهد في الإسلام هو عدم الزهد فيها بالكلية، وإنما يجعل منها نصيبًا له في حياته الدنيوية، ودليل هذا قول الحق تعالى:

﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾
سورة القصص: أية 77.

فلا يهمل الدنيا لآجل الآخرة، إنما يعمل لأجل الاثنين معًا بغير إفراط في كل منهما على الأخرى. وذلك كله في حدود ما أحله الله تعالى لعباده.

إذن فليس على الإنسان من حرج في طلب الدنيا، ولكن بالقدر الذي يقيم به شئون حياته، وفي حدود ما أحلّه الله، وبحيث لا يصرفه هذا عن عبادته وطاعته لله في الوقت نفسه، لأنه يوقن أن الآخرة خيرٌ له من الأولى. [9]

ومزيد من الأدلة الواردة في القرآن والسنة النبوية تلك التي تعد أصولًا، اعتمد أو استند عليها الزُهّاد المسلمون الأوَل في أخذ موقف من الدنيا ومتاعها وشهواتها الفانية، عملًا لنعيم الآخرة وخيرها الباقي، ونذكر بعضًا من الآيات القرآنية قوله تعالى:

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
سورة الأعلى أية 17:14.
﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور﴾
سورة الحديد: أية 20.

ثانيًا

فالتصوف مصادره إسلامية صريحة من القرآن الكريم والسنة، والدليل على ذلك أننا نجد المؤرخين الأوائل للتصوف أمثال: أبو سعيد الخراز (ت 286هـ)، والسراج الطوسي (ت 387هـ)، والكلاباذي (ت 380هـ)، والقشيري (ت 465هـ) والغزالي (ت 505هـ) والسهرودي البغدادي (ت 632هـ) وغيرهم، أوردوا الأدلة على كل قضايا التصوف الأساسية؛ بدءًا من الزهد ومرورًا بالمجاهدات والمقامات والأحوال، ووصولاً إلى أعلى درجات الكمال الروحي كالولاية ومن بعدها المعرفة بالله من القرآن الكريم والسنة، مما يؤكد على أصوله –التصوف- الإسلامية الصريحة.

وتأكيد على ما سبق نذكر الحديث القدسي الذي يؤكد على أن الولاية والمعرفة هما أعلى الدرجات الروحية التي يصل إليها الصوفي المسلم:

مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ.
صحيح البخاري: حديث صحيح رقم 6502.

ثالثًا

لكن الأخلاق عند الصوفية المسلمين ليست من أصل نصراني -كما ادعى كارادفو- فإنها تستند لأصول إسلامية صريحة من القرآن والسنة، فالصوفية -فيما يرى أحمد الجزار- اجتهدوا على أن يكونوا عاملين بأخلاق رسول الله، وهذا ما كان عليه صوفية القرنين الثالث والرابع الهجريين، وهما العصر الذهبي للتصوف، إذ غلب على أصحابه الكلام في الأخلاق جنبًا إلى جنب الكلام في المعرفة بالله، ولعل هذا يتضح في مصنفات الأوائل منهم كالحارث المحاسبي (ت 243هـ) والحكيم الترمذي (ت 320هـ) في معظم كتبه وخاصة: «الرياضة وأدب النفس والسلمي» (ت412هـ)، وفي كتابيه «جوامع آداب الصوفية» و«عيوب النفس ومداواتها»، إلى جانب ما كتبه القشيري في رسالته عن الأخلاق. كذلك اتضح في تعريفهم للتصوف على أنه الخلق كما عند السهرودي وحديثه عن ماهية التصوف، فقد أورد من التعريفات التي تؤكد وجهته الأخلاقية. [10]

فيما يتعلق بالمصدر اليوناني وأثره على التصوف الإسلامي عند كارادفو، فإننا بلا شك لا نغفل أن يكون هناك تأثير، ومع ذلك فلا نوافق على دعوى هؤلاء المستشرقين برد التصوف كله إلى المصدر اليوناني، واعتبار الأخير مصدرًا أساسيًا في تصوف المسلمين.

فالصوفية الأوائل لم يكونوا مُقبلين على الفلسفة اليونانية كإقبال المتكلمين أو الفلاسفة، وقد تأثر بعض من صوفية الإسلام كالسهرودي الإشراقي بالفلسفة اليونانية، وذلك بدايات القرن السادس الهجري، فقد مالوا إلى مزج الفلسفة بالتصوف. [11]

المراجع
  1. كارادفو (البارون)، الغزالي، ترجمة: عادل زعتير، المؤسسة العربية للنشر، 1984، ص 157.
  2. المصدر السابق، ص157.
  3. المصدر السابق، ص 158-159.
  4. المصدر السابق، ص164.
  5. المصدر السابق، ص167.
  6. المصدر السابق، ص169.
  7. المصدر السابق، ص167.
  8. المصدر السابق، ص158.
  9. الجزار (أحمد)، فخر الدين الرازي والتصوف، نهضة الشرق، القاهرة، ١٩٩٦، ص48.
  10. الجزار (أحمد): دارسات في التصوف الإسلامي، دار الوفاء للنشر، الإسكندرية. 2015، ص81.
  11. التفتازاني (أبو الوفاء)، مدخل إلى التصوف الإسلامي، دار الثقافة للنشر، القاهرة، 1969، ص34.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.