تبدأ الثورة الأساسية على المنهج العلمي بصورته التقليدية عندما يظهر توماس كون على الشاشة وفي إحدى يديه «بنية الثورات العلمية»، والأخرى مطرقة صلبة نيتشوية تشبه تلك الخاصة بـ ثور، ورغم أنه نفسه ينفي عن نفسه وجود تلك المطرقة بيديه ويزعم أنه يحمل قالب طوب للبناء وبعض الأسمنت، إلا أن الجميع يتعامل معه ويتخيله كذلك، مع تلك المطرقة.

الآن دعنا نبدأ من حيث انفرط العقد،قبل توماس كون كانت آليات المعرفة العلمية موضوعية ومحصنة من أي نقد، يمكن لك بسهولة الحديث كما تحب عن مجتمع العلماء نفسه، عن مشكلاته وتحيزاته، عن إنجازاته ومدى أخلاقية أفراده، لكن العلم نفسه هو كيان موضوعي يتعرف فقط على حقائق العالم أو يتحرّى عنها قدر استطاعته، فإن كانت هناك نظريات تتنافس لتفسير حقيقة علمية ما، يمكن لنا ببساطة عقد تجربة ومقارنة النتائج مع الفرضيات المتنافسة واختيار أيها أقرب للواقع.

لكن ذلك، كما يبدو،وحسب فرضية «دوهيم-كواين»التي استخدمها توماس كون كمركز لفلسفته، غير صحيح؛ حيث يعمل العلم حسب البارادايم الذي يسيطر على الوسط العلمي الحالي، ويمكن لنا تشبيه البارادايم هنا بحالة دولة ما لمدة خمسين عامًا متتالية، في وضع ديمقراطي وفي وضع مستبد، كسكان دولة ديمقراطية يمكن أن نفهم فيها معنى اصطلاحات كـ «انتخابات» و«تمثيل الأقلية» أو «معارضة» مثلًا، لكن في دولة مستبدة لا يمكن لنا تعريف تلك الاصطلاحات أو حتى السؤال عنها.

لا أقصد هنا خوفًا من المستبد، ولكن أقصد أنه في ظل نظام مستبد طويل الأمد فإن هذه الأسئلة لا معنى لها بالنسبة لمواطن، كذلك فإن البارادايم العلمي يعطي مجتمع العلماء آلية يمكن من خلالها النظر إلى المادة العلمية الخاصة بهم، بمعنى أن المراجع تحتوي على أساسات «العلم القياسي» التي يعمل بها العلماء دون الحاجة للتساؤل عنها، بينما يعطي/يسمح البارادايم الحالي للعلماء بأسئلة ضمن نطاقات معيّنة، كتاب فيزياء أيام نيوتن سيقول إن الضوء «جسيم»، يتعامل الوسط العلمي على أن هذا شيء مسلم به، لكن بعد يونج فهو «موجة»، والآن يخضع لـ «ازدواجية الموجة والجسيم».


البويضة أم الحيوان المنوي

للمزيد حول تلك المشكلة وعلاقتها بمجتمع العلماء يمكن لك تأمل مقالين مقترحين للكاتب بعنوان «هل العلم عقلاني؟» و«فلسفة العلم عند توماس كون»، لكن دعنا الآن نتجاوز ذلك إلى سؤال مهم سوف يوضح ما أقصده من هذا المقال، حيث: في رأيك، أي الجمل التالية أصح: «يخترق الحيوان المنوي البويضة ويدخل إليها»، أم «تختار البويضة الحيوان المنوي الأكثر ملاءمة»؟

الحيوان المنوي بالطبع، الجميع يعرف ذلك، حيث تعلمنا في المدارس عن تلك الرحلة القاسية لملايين الحيوانات المنوية التي تتخبط في جدران المهبل ثم إلى الرحم، حيث ينخفض عددها عند تلك المرحلة ولا يتبقى إلا مجموعة صغيرة من ذلك الجيش الضخم. تتسابق تلك المجموعة لتصل إلى البويضة التي تقبع بهدوء وسلام في رحم المرأة انتظارًا للحيوان المنوي الموفّق والذي سوف يكسب المعركة و«يخترقها» لكي يبدأ التخصيب ونحصل على الجنين الذي لا يلبث أن تبدأ خلاياه في الانقسام حتى نصل إلى طفل مكتمل.

ينتج الرجل 200 مليون حيوان منوي في الساعة، بينما تولد المرأة بـمليوني بويضة تستخدم منها 400 تقريبا في الإخصاب، يدفع ذلك بنا لتصور سلبي تجاه البويضة

ينتج الرجل 200 مليون حيوان منوي في الساعة، بينما تولد المرأة بمليوني بويضة تستخدم منها 400 تقريبا طوال عمرها في الإخصاب، يدفع ذلك بنا لتصور سلبي تجاه البويضة، أقصد أن البويضة، تلك النادرة، تقف بشكل سلبي تمامًا لتنتظر الفارس الهمام القادم بعد معركة قاسية، لكن هنا دعنا نتأمل مجموعة من الدراسات حول بويضات سمك السلمون، في التجربة الأولى سوف نضع بويضات سمك السلمون مع حيوانات منوية للسلمون فقط، في الثانية نضعها مع حيوانات منوية للسلمون المرقط، في الثالثة نضعها مع كليهما.

هنا تأتي نتائج تلك الدراساتبجامعة شرق أنجيلا قبل عدة أعوام لتقول إنه في الحالتين الأولى والثانية تتحد البويضة مع الحيوان المنوي المتاح أمامها، كان لنفس نوعها (السلمون) أو لنوع آخر ضمن نفس الفصيلة (السلمون المرقط)، بينما في الحالة الثالثة يحدث أن تختار البويضة فقط أن يتم تلقيحها من قبل الحيوانات المنوية الخاصة بالسلمون (نفس نوعها فقط) وتتجاهل الحيوانات المنوية للسلمون المرقط، يعني ذلك أن البويضة تتدخل بشكل موجب في عملية اختيار الحيوان المنوي الخاص بها.

في الحقيقة،بداية من السبعينيات كانت هناك دلائل طبية واضحة على قدرة البويضة على إفراز جزيئات تتمكن من توجيه الحيوان المنوي وتفعيله من أجل الالتحام، دعنا مثلًا نتأمل تجارب معامل جون هوبكينز على الحيوانات المنوية في أثناء حاجتهم لإنتاج موانع حمل جديدة، كانت التجارب هي أن نحاول سحب الحيوان المنوي عبر آلية شفط ما ونتأمل نمط حركته، هنا كان المُلاحظ هو أن حركة الرأس في الحيوان المنوي أكبر 10 مرات من حركة الذيل، مما أعطى نتيجة تقول إن الحيوان المنوي هو سباح ضعيف لكنه «هارب جيد».

أي أن الحيوان المنوي لا يجيد السباحة، فهو فقط يمشي مع التيار، لكن حينما يواجهه عائقا ما في طريقه ينجح في تجاوزه بمهارة عبر هز الرأس بقوة، لكن أحد تلك العوائق بالنسبة للحيوان المنوي هو البويضة، نعم فهو يعتبرها عائقا في طريقه ويحاول هز رأسه حتى يفلت منها، لكن البويضة هي ما يمسك به عبر الجزيئات التي تفرزها، ثم تجذبه للالتحام بها ويحدث الإخصاب، هنا دعني أراهن بمائة جنيه أنه رغم مرور أكثر من 40 سنة على تلك الأبحاث فأنت تسمعها الآن لأول مرة، إن ما تعرفه هو فقط حكاية البطل المغوار والبويضة السالبة الساكنة، أليس كذلك؟


تأطير معارفنا

إنها الأبحاث الرصينة نفسها، وليس فقط الكتب والمراجع الدارجة بين الأطباء وصغار الباحثين أو كتب العلم الشعبي وبرامج التسالي العلمية الصباحية، هي ما يستخدم تكوينات وتعابير لغوية تتحدث عن هذا الحيوان المنوي الذي يتعب كثيرًا في رحلة طويلة يسبح خلالها بمهارة حتى يصل إلى بياض الثلج Snow White الساكنة السالبة الموقف لينقذها من ثُباتها، العكس هو الصحيح علميًا لكن الفكرة هنا ليست في العلم الموضوعي نفسه، بل في كيفية تأطير معارفنا بحيث تتسق مع وجهة نظر أو نقطة مرجعية ما، لكن الأمر – أضف هنا أنه – أكبر من ذلك.

دعنا في تلك النقطة نرجع إلى فرضية دوهيم-كواين، حيث يفترض هذا النموذج أن هناك حدودا لدرجة حسم النظرية العلمية، فحينما تكذب تجربة ما فرضية علمية فنحن لا نعرف تحديدًا، ولا يمكن أن نعرف، أي من أجزاء تلك الفرضية هو ما تم تكذيبه، قد يكون أحد الفرضيات المساعدة أو الفرضية الأساسية أو حتى نظرية تقع في الخلفية وتبني تلك الفرضية نفسها عليها، قد يكون حتى آليات التجريب أو أدوات التجربة ذاتها، ما يعني أن المعرفة – بتعبير ويلارد كواين – هي شبكة واحدة متصلة لا يمك اختبار أيها بمعزل عن الآخر.

هنا يستخدم توماس كون تلك الفرضية ليدعم وجهة النظر القائلة إن اختيار العلماء بين النظريات العلمية المتنافسة حول تجربة ما قد يكون – وإن بدا غير ذلك – غير عقلاني، قد يكون خاضعا لأهواء القائمين على الفصل بين تلك النظريات أو فقط كنتيجة للصراع بينهم، ويعني ذلك أنه يمكن لآليات غير عقلانية أن تتدخل في تقييم وتحديد صحة أو خطأ المعرفة، كان ذلك هو الباب الواسع الذي انفتح لدخول سوسيولوجيا المعرفة العلمية ومجموعة من الفلسفات النقدية إلى أرض العلم، هنا دعنا نتحدث قليلًا على الأبستمولوجيا النسوية.

تعبر الأبستمولوجيا النسويةفي مضمونها عن مجموعة من الأفكار التي تتفق على وجهة نظر قائلة بأن الجندر يؤثر على مفهومنا عن المعرفة، وعن محصّليها، وعن طريقة ممارستها، تبريرها، والتحقق من صحتها، وبصورة أعم فإن وظيفتها إذن هي التعرف على الآليات المعرفية التي تعمل لصالح الثقافة المسيطرة فتتمكن منهجيًا من إقصاء المرأة، والأقليات المهمشة في العموم، تلك الآليات التي تتضمن إنكار وجهة نظر المرأة كطريقة لتحصيل المعرفة، وتعمل على إنتاج يخدم اهتمامات الثقافة المسيطرة فقط دون غيرها.


النقطة المرجعية

اختيار العلماء بين النظريات العلمية المتنافسة قد يكون –وإن بدا غير ذلك– غير عقلاني خاضعا لأهواء القائمين على الفصل بين تلك النظريات أو فقط كنتيجة للصراع بينهم

يمكن من خلال فلسفة توماس كون أن نفهم النواة المركزية التي تدور حولها الأبستمولوجيا النسوية، وهي ما نسميه النقطة المرجعية للعارف أو الباحث Situated Knower (وبالتالي النقطة المرجعية للمعرفة Situated Knowledge)، وتعني المعرفة التي تعكس وجهات نظر العارف أو الباحث عن الموضوع الذي نبحث خلف معرفته، ما يعني أنه أثناء تحصيلنا للمعرفة عن شيء ما فإننا، حسب نقاطنا المرجعية، نتمكن من أن نرى، نفهم، نمارس، ونبرر حتى، صورا مختلفة لنفس الشيء.

بالتالي فإن موقف التحركات النسوية تجاه فلسفة العلم هو موقف يبدو في بعض الأحيان نسبوي، فهو يرى أن العلم، سواء مجتمع العلماء أو مكونات المعرفة العلمية، مركبا اجتماعيا Social Construct يتحكم في تكوينه – بجانب المعايير الموضوعية ربما – معايير أخرى اجتماعية ترتبط بثقافة الجنس مثلًا، أو العرق الخاص بالمجموعة السائدة دون غيرها، بالتالي فإن الأبستمولوجيا النسوية هي بدورها فرع للأبستمولوجيا الاجتماعية، وبذلك نحتاج هنا للتفريق بين ما تقصده الفلسفة النسوية من الجنس والجندر، فالجنس فارق بيولوجي أما الجندر فهو تقسيم اجتماعي يضع الفارق البيولوجي في صورة مفاهيم، أنماط، ومعايير اجتماعية، يجب اتّباعها لتجعل الرجل رجلا والمرأة مرأة.

جميل جدًا، تهتم الأبستمولوجيا النسوية إذن، تحديدًا أقصد نظرية النقطة المرجعية Standpoint Theory وهي أحد صور الأبستمولوجيا النسوية، بالامتياز الأبستمي epistemic privilege لتلك الأقليات الاجتماعية التي لا تساهم في تكوين الصورة العامة للمعرفة، لكن.. أي امتيازات يمكن أن تحملها تلك الأقليات؟ دعنا هنا نضرب مثالا بسيطا تمتد جذوره في فلسفات أنجلز وماركس عن العارف المثالي Ideal Knower، سوف نفترض أن هناك صاحب مصنع ما، هذا الرجل يكوّن – بسبب وضع طبقته الاجتماعية المهيمنة – شكل المعرفة، لكن حينما ينظر إلى العمّال في المصنع فإنه فقط يكوّن فكرة عنهم كوحدات عاملة، لا حاجة له في الدخول إلى ما هو أعمق من ذلك.

لكن من وجهة نظر عمّال المصنع فإن الأمر يختلف، لأنهم سوف يكوّنون معرفة خاصة بهم، من وجهة نظرهم، عن العالم، وأيضًا سوف يحاولون فهم الطريقة التي ينظر بها صاحب المصنع للعالم، ذلك لأنه يتحكم في قوت يومهم، في مقابل أنه لا يهتم بتلك النظرة ناحيتهم، بالتالي يكتسب العمّال أفضلية أو امتياز معرفي epistemic privilege عن صاحب المصنع، بالتالي تنظر الفلسفة النسوية إلى وجهة نظر المرأة عن العالم بطريقة عمال المصنع، أنها تمتلك امتيازا معرفيا.

من تلك النقطة يمكن أن نرى وجهة نظر غير نسبوية – بالمعنى المفهوم – للأبستمولوجيا، فنظرية النقطة المرجعية هنا ترى أن بعض وجهات النظر – تقصد الوجهة النسوية أو الكيانات المهمشة بالعموم– أقدر على تحقيق رؤية أفضل للعالم (موضوعية قوية Strong Objectivity) دون غيرها (موضوعية ضعيفة Weak Objectivity)، بالتالي فإن تلك فكرة تبدو للوهلة الأولى غاية في الغرابة لكنها تستحق التأمل، فمنظري النقطة المرجعية يطلبون إليك، حينما تود أن تحصل على معرفة جيدة، أن تبدأ بالفئات المهمشة، إنهم ربما – ركز معي هنا قليلًا إذ تسمح – يعرفون أكثر !!

بالطبع تجد تلك الجوانب من الأبستمولوجيا النسوية نقدًا كبيرًا، وهناك توجهات أكثر وأقل تطرفًا تجدها بشكل أكثر وضوحًا في مقالي موسوعة ستانفورد المرفقين بالمصادر، كذلك هناك جانب ما بعد حداثي وآخر تجريبي لهذا الفرع من الأبستمولوجيا، لكنها جميعًا تعتمد على السؤال الرئيس الذي تستند عليه حركة الفلسفة النسوية تجاه العلم هو: هل العلم عقلاني؟ بالنظر إلى قضية البويضة والحيوان المنوي – كنموذج ضمن مجموعة ضخمة تتضمن سياقات تاريخية وممارسات حالية في نطاقات علمية عدّة – فإن إجابة هذا السؤال تتخذ منحنى ناحية الإجابة بـ «لا».

فحتى رغم وجود حقائق موضوعية ظاهرة – بغض النظر عما يمكن أن نواجهه من مشكلات حول تعريف كلمات كالحقيقة، العقلانية، أو الموضوعية – إلا أنها مدججة في العمق، أو مغلفة إلى درجة كبيرة، بالسياق الاجتماعي القائم للوسط العلمي، وما أود أن أوضحه هنا، بغض النظر عن اتفاق أو اختلاف الكاتب مع الأبستمولوجيا أو الفلسفة النسوية ككل، هو أن الفلسفة النسوية لا تتحدث عن نساء لا تحلق شعر قدميها بينما تعرّى أخريات صدورهن أمام الكاميرات، لكنها وجهة نظر رصينة إلى العالم تعتمد على بيانات تستحق التأمل من واقعنا الاجتماعي.