يطرح السؤال نفسه مجددًا: هل يمكن للمرء المُعتقِد بالدين أن يسلم بنتائج الأطروحات العلمية التي لا سيما تبدو – ولو سطحيًا – في تضاد مع الدين؟ هل يوجد صدام حقًا بين هذين الصرحين الفكريين؟

لكي نجيب على هذه الأسئلة، يتحتم علينا أولًا أن نقدم تعريفًا شديد الاختصار لكل منهما، ثم نفصّل حدود ونحدد غايات كل منهما.


الدين

قد نُعرِف الدين بدايةً بتقسيمه إلى عقيدة وأعمال. فالعقيدة هي مجموعة من المعتقدات حول عالم ما وراء الطبيعة؛ عن الألوهية وصفاتها، الملائكة، الوحي، الثواب والعقاب، ومآل البشر بعد فنائهم، عن الروح والنفس البشرية إلى آخره من أفكار ومعتقدات تحمل صفات فوق طبيعية عن الوجود.

أما الأعمال فتتكون من مفاهيم أخلاقية، شعائر، شرائع قانونية، إلخ. وأغلب هذه المفاهيم إنما تنبع من رحم التصوّر الكامل لحقيقة الوجود المرسخة في العقيدة.


العلم

يمكننا أن نرسم صورة العلم كنشاط يسعى إلى إثبات أو رفض أطروحات حول العالَم وظواهره. ومن خلال امتلاكه أدوات منهجية خاصة، يستطيع الباحث أن يعالج الظواهر المادية ويتلاعب بحلقة الأسباب والنتائج المتعلقة بهذه الظواهر. ينتج عن تلك المنهجية أوصاف للعالَم ونماذج نظرية تماثله.

يرتكز العلم في صميم بحثه ووصفه للظواهر المادية على مفهوم الطبيعية المنهجية «Methodological Naturalism»، ذلك المفهوم يدفع الباحث إلى تفضيل التفاسير الطبيعية و‪‪‪للظواهر على التفاسير ما فوق الطبيعية.

كمثال بسيط: في محاولته لتفسير ظاهرة البرق يفضل الباحث أن السبب هو إطلاق الإلكترونات على كونه إطلاقًا بارقًا من عصا الإله زيوس، حتى ولو كانت الأدلة الداعمة لهذين التفسيرين متساويةً. وبذلك يمضي الباحث في رفض أي تفسير غير مادي وفاءً للمفهوم الأساسي الذي ترتكز عليه المنهجية العلمية. حتى وإن كان يؤمن الباحث بغير التفسير الطبيعي المادي.[1]


حدود والتقاء

هل ثمة حدود أو أُطر إذن لتلك المنهجية العلمية الطبيعية؟ العلم كنشاط، كما يصف العالِم «ستيفن جاي جولد»، منتهاه العالم الحسي التجريبي. إذا سلمنا بصحة هذا الوصف، يمكننا أن نستنتج أن المنهجية العلمية لا يمكنها إلقاء الضوء على أي مفهوم خارج العالم الحسيّ؛ أية أفكار حول وجود إله، أخلاق، ماهية أرواح أو مصير الإنسان بعد فنائه، إلى آخره من مفاهيم تحمل طابعًا غير مادي حسيّ أو مفاهيم فوق طبيعية.

ومن ثم لا يمكن للباحث أن يسعى وراء أطروحات عن تلك المفاهيم ما فوق الطبيعية من خلال استخدامه المنهجية العلمية الطبيعية نظرًا لافتقارها إلى أدوات منهجية تتيح البحث في تلك المفاهيم.

بهذا الوصف شديد الإيجاز، نستطيع أن نلخص إجابة سؤال المقال مبدئيًّا: لا صدام بين العلم والدين لعدم وجود تداخل بين المساحات التي يشغلها كل من العلم والدين، ومن ثمَّ لا تضارب بين التفاسير النابعة من كل منهما، أو كما يصف جولد بأنه لا يوجد تداخل بين السلطتين «Non-overlapping Magisteria»، لكن هذه الصورة المبسطة لا تفي العلم صورته الكاملة، فهي لا تعرض الالتزامات غير المنهجية للعلم، وخاصة الالتزامات الفلسفية التي قد تلازم العلم كنشاط منهجي.[2]


التزامات العلم الفلسفية

نتحدث هنا عن مفهوم جديد: الطبيعية الميتافزيقية «‪Metaphysical Naturalism»، تلك الطبيعة التي تقتضي إنكار وجود أي واقع غير الطبيعة الحسية المادية، وبذلك تنكر وجود كل ما يمكن وجوده وراء عالَم الطبيعة من إله وأرواح، وبالأهم أية قوى وعوامل غير طبيعية. ويصل المرء إلى هذا المفهوم عبر معالجات فلسفية نظرية قد تستمد مقدماتها من نتائج منهجية علمية.[3]

تاريخيًّا، أدّى نجاح المنهجية الطبيعية العلمية إلى زحزحة المعتقدات والتفاسير ما فوق الطبيعية خارج التصور العام للوجود، مما أفضى بأكثرية من العلماء والفلاسفة إلى التسليم بالطبيعية الميتافزيقية، ذلك لأن تلك المنهجية نجحت في إعطاء تفاسير عليّة سببية، وأوصاف طبيعية للعديد من الظواهر التي كانت دومًا تقع ضمن دائرة التفاسير غير الطبيعية. ومنها على سبيل المثال لا الحصر مواقع وحركة الفلائك والأجرام، الضوء، نظرية التطور، وحديثًا الوعي والإدراك.

نتج للبعض بناء على تتبع هذه الجزئيات التوصل لحكم كلي بأن المنهجية العلمية سوف تفي بالغرض في تفسير العالم حولنا بأكمله دون حاجتنا إلى اللجوء لتفاسير غير طبيعية. بذلك تبلور التزام فلسفي؛ أي الطبيعية الميتافزيقية، ذلك باستناد مقدماته على الطبيعية المنهجية.


الإدراك

أفضل مثال في عصرنا الحديث على الانقياد من المنهجية الطبيعية إلى الطبيعية الميتافزيقية هي المحاولات العلمية الدؤوبة للتوصل إلى نظرية جامعة وصفية لمفهوم الإدراك والوعي لدى الإنسان.

كان أثر تلك المحاولات أن طرحت جانبًا نظرية «الثنائية الديكارتية» فيما بين العقل والجسد، وأكدت الأبحاث في شتى علوم العقل والإدراك على الارتباط الوثيق بين العقل والجسد، حيث تغيير أية معطيات في المخ يؤثر سببيًّا في الظواهر العقلية.

من هنا انطلق البعض محاولين إعطاء وصف للعقل من خلال أوصاف مادية جسدية صرفة، محاولة تحمل في طياتها التسليم بالطبيعية الميتافزيقية. ترتب على ذلك محو الدور الذي كانت تؤديه الروح والنفس في مفهوم الإدراك والوعي من النظريات الفلسفية.


الفصل بين المنهجية والالتزامات الفلسفية

بعد أن رسمنا صورة العلم ووضحنا أولًا منهجيته، وثانيًا الالتزامات الفلسفية المحيطة به، نستطيع الفصل ما بين العلم كنشاط ذي منهجية ناجحة وما بين الالتزامات الفلسفية المضافة إلى هذا النشاط، مع إمكانية التسليم بالأول دون الالتزام بالثاني.

وبذلك نجيب بإجابة أوفى على سؤال المقال: الصدام لا يقع بين العلم كنشاط والدين، بل في الأغلب يقع بين الالتزامات الفلسفية، خاصة الطبيعية الميتافزيقية المستنتجة من نجاح العلم كنشاط، والمعتقدات الدينية.

هذا الفصل الذي عنيناه سيساعدنا في طرح الأسئلة الصحيحة والبحث عن الإجابات الملائمة. وما دام الخلاف أو الصدام يقع في نطاق فلسفي، يحظى الأمر بفرصة لتصحيح واقتراب المفاهيم ومعالجة الأفكار بحيث يتبدد الخلاف ويثمر الحوار عن مفاهيم جديدة وأعمق للعلاقة بين هذين الصرحين الفكريين.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. Ruse, Michael. 2014. "The Naturalist Challenge to Religion", In Philosoph of Religion, by Peterson Hasker and Reichenbach Basinger, pp427-437. New York: Oxford Univeristy Press.
  2. Gould, Stephen Jay. 2014. "Two Seperate Domain", In Philosophy of Religion, by Peterson Hasker and Reichenbach Basinger, 538-545. New York: Oxford University Press.
  3. The Naturalist Challenge to Religion, Previous reference,pp427-437