دكتور «فيكتور فرانكنشتاين» في مختبره، أجواء راعدة ومظلمة في الخارج، شرارة ساطعة قوية تضيء المختبر، وتمهد لحدوث الكارثة، وحش ضخم بشع يفتح عينيه، أعضاؤه جُمعت من أجزاء الموتى، وبث فيه العالِم المهووس بالمعرفة والكيمياء الروح، ليكّون جريمته، جريمة التدخل في الطبيعة.

إنها الرواية العالمية الأكثر شهرة «فرانكنشتاين» التي كانت وما زالت وقودا ممتعا لأفلام وقصص الرعب، والتي أصدرتها الأديبة الإنجليزية «ماري شيلي» عام 1818، وأصبحت حديث العالم كله، ليس بسبب أحداثها المميزة فقط، وإنما لكونها مبنية على أسس علمية وتجارب كانت سائدة في ذلك الوقت، وبالتالي كانت مثالًا لنموذج يمزج بين روعة الأدب وعبقرية العلم، ومهدت لتساؤل اهتم به العلماء: هل من الممكن أن يحيي العلم الموتى؟


هل المعرفة خطر؟

في عصر شهد كثيرًا من التجارب العلمية، والاهتمام بأسرار الطبيعية، والنهم للمعرفة، جاءت الرواية المثيرة في إطار الخيال العلمي والرعب تمثل جرس إنذار لـ «خطر المعرفة» دقّته ماري شيلي على لسان بطل الرواية دكتور فرانكنشتاين، حين قال لصديقه «لا بد أن تدرك الخطر الذي تخلفه مثل هذه الرغبات القوية».

تدور الأحداث حول دكتور فيكتور فرانكنشتاين، الطالب المهووس بالعلم منذ صغره، الشغوف بمعرفة أسرار الحياة، الذي درس العلوم والفلسفة الطبيعية في الجامعة، وبعد التخرج انعزل عن العالم في مختبره يحاول صنع الحياة.

تحقق الحلم وتمكن فرانكنشتاين من بث الروح في كائن صنعه من أجزاء الموتى، ولكن عندما فتح ذلك المخلوق عينيه، أدرك فيكتور هول ما صنعه وفر هاربًا من بشاعة ذلك الكائن.

عاش المسخ مذمومًا بسبب شكله المريع، فذهب إلى العالِم المهووس يطالبه بأن يصنع له زوجة في ذلك العالَم الذي رفضه، أو صديق يؤنسه حتى لا يبقى وحيدًا، ولكن فرانكنشتاين رفض تكرار المأساة، فقتل المسخ زوجة صانعه وصديقه وأخاه ليذيقه مرار الوحدة.

مات فرانكنشتاين من الإعياء على ظهر سفينة كان صاحبها يتجه لاستكشاف قارة جديدة، وقبل وفاته حذّر صاحب الرحلة من خطر تلك الرغبة الجامحة للمعرفة، والتي طرحته على فراش الموت.


إحياء الموتى ليس مستحيلًا

«ليس من المستحيل حدوثه»، كانت هذه الجملة للعالِم الفيزيائي والفيلسوف الطبيعي والشاعر «إيراسموس داروين»، إشارة إلى تجربته العلمية في كتابه «معبد الطبيعة» عام 1803، والتي استنتج منها إمكانية إعادة المواد الميتة إلى الحياة مرة أخرى.

من هذه الاستنتاجات، استوحت الكاتبة ماري شيلي فكرة روايتها «فرانكنشتاين»، والتي بدأتها كمحاولة لكتابة قصة رعب في مسابقة بينها وبين زوجها الشاعر «بيرسي بيش شيلي» وصديقه اللورد بايرون عام 1816، لتكون بعدها من أشهر الروايات العالمية.

وفي مقدمة طبعة فرانكنشتاين الصادرة عام 1831، ذكرت الكاتبة أنها أرادت أن تكون قصتها مستوحاة من شيء حدث من قبل، وكانت قد سمعت زوجها وصديقها يتحدثون عن تجربة داروين، عند وضعه «الفورتيسيلا» الجامدة عديمة الحياة والحركة في الماء، وملاحظته حركة ضعيفة صادرة منها، مما جعله يستنتج إمكانية إعادة الحياة إلى الموتى.

ومجموعات «الفورتيسيلا» أو «الدردوري» هي عبارة عن كائنات دقيقة من محيطات الأهداب، تعيش في المياه العذبة، وأحيانًا البرك، ولا تظهر عليها مظاهر الحياة إلا في المياه، وعندما تكون خارجها تصبح في حالة جامدة لا حركة فيها، ويمكن الاحتفاظ بها على تلك الحالة لشهور، وتعود لحركتها مرة أخرى بعد نصف ساعة من وضعها في الماء.

وبناء على تجربته ذكر داروين في ملاحظاته أن الجسيمات العضوية للحيوانات الميتة يمكن أن تكتسب بعض الحيوية إذا تعرضت لدرجة من الدفء أو الرطوبة.


الكيمياء: الطريق إلى سر الحياة

«عملت بجد لسنتين لم أزر فيهما جنيف، أردت أن أكتشف من أين أتت الحياة، أردت أن أقوم بالتجارب العلمية قدر المستطاع، أردت أن أخلق الحياة، لكن أولًا كان عليّ أن أفهم الموت، درست الجسم البشري ودرست أيضًا الأجسام الميتة، وكنت مهتمًا جدًا في التغير من الحياة إلى الموت، وماذا كانت نتيجة كل تجاربي؟ اكتشفت سر الحياة».

على لسان فيكتور فرانكنشتاين، بطل الرواية، جاءت هذه الكلمات، فكانت خطته لمعرفة سر الحياة دراسة الموت أولًا، فلجأ إلى كتب التشريح، وفَهم الموت، وهذه الخطة اقتبستها مؤلفة الرواية ماري شيلي من محاضرات أستاذ الكيمياء الإنجليز «هيمفري ديفي»، بعنوان «عناصر الفلسفة الكيميائية»، والتي كانت قد اطّلعت عليها عام 1816، أثناء كتابتها للرواية.

ألقى البروفسور ديفي هذه المحاضرات في المعهد الملكي عام 1802، وبث فيها أفكاره، وإيمانه بقوة دراسة الكيمياء، وأن التعمق فيها يمكّن العلماء من تقديم تفسيرات لأسرار الطبيعة وظواهرها الغامضة. فبالتعمق في دراسة الكيمياء قد يتمكن العلماء من معرفة السر الكامن وراء الحياة والموت، ولمعرفة قوة الحياة لا بد من فهم الموت جيدًا، فكما عرف العلماء كيف تحدث ظواهر الاحتراق، وذوبان المواد المختلفة في المياه، يمكنهم يومًا ما التوصل إلى هذا السر العظيم.


شرارة الحياة: ما هي؟

بعد تجميع أجزاء الموتى في جسد واحد، كيف يمكن لدكتور فرانكنشتاين أن يهب الحياة لذلك المخلوق الراقد؟

في دراسة تابعة لجامعة كاليفورنيا صدرت عام 1979، بعنوان «تحمل فرانكنشتاين»، استنتج الباحث أن الإشارة الوحيدة في الرواية لبث الحياة في المخلوق جاءت في الفصل الرابع من الرواية في قول الكاتبة:

وقد اتفقت جميع الأفلام التي جسّدت الرواية في أن «شرارة التكوين» عبارة عن دفعة كهربائية قوية أصابت المخلوق فأحيته.

وهنا يأتي الأساس العلمي لهذا الخيال، هل يمكن لدفعة كهربائية قوية أن تبث الروح في مخلوق؟

في أواخر القرن الثامن عشر كانت هناك تجربة للعالم الإيطالي «لويجي جلفاني» الذي كان يعمل أستاذًا لعلم التشريح المقارن في جامعة بولونيا، فأثناء أحد دروس التشريح الخاصة به، لاحظ جلفاني ارتعاش جسم الضفدعة المثبت بدبوس عند لمسه بالمشرط، كما لاحظ وجود صعقة كهربائية في عضلة الضفدعة، وفسّر ذلك بوجود نوع من الكهرباء في هذه العضلات، إلا أن العالِم «فولتا» صحح التفسير بأن الكهرباء وُلِّدَتْ نتيجة وجود معدنين مختلفين: «دبوس التثبيت ومشرط التشريح» وبينهما إليكتروليت «السائل بجسم الضفدعة»، وسُميت هذه الظاهرة باسم «الظاهرة الجلفانية».

وبعد التجربة الجلفانية تم الربط بين الحياة والحركة والكهرباء، وأُجريت تجارب على البشر أبرزها عام 1803، حينما جُربت صدمة كهربائية على جسد القاتل «جوست فوستر» بعد إعدامه في لندن، وذلك بإيصال جسده ببطارية قوتها 120 فولتا، ولاحظ العلماء اهتزاز الجسد بالكامل، ورفع يده اليمنى وبروز عظام الوجه، واتساع عينيه كأنه عاد للحياة، ومن هنا جاء مصدر خيال الكاتبة والأديبة ماري شيلي والتي كانت على اطّلاع بكتب الكيمياء لصداقة والدها وزوجها بالعلماء.


حلم الخلود مستمر: هل سنصل؟

«بكثير من القلق المشوب بالصراع، جمعت أدوات الحياة من حولي، والتي قد تمكنني من بث شرارة التكوين لإحياء ذلك الشيء الذي يرقد تحت قدمي».

لم تقتصر تجارب إحياء الموتى على تأثير الكهرباء، حيث يبحث العلماء حاليًا عن حلم الخلود بطريقة متواصلة، أبرزها قيام شركة «ألكور» الأمريكية بالتعاقد مع عدد من المواطنين حول العالم، للقيام بتجميد جثثهم بواسطة «سيرونكس» لإعادة إحيائها عند توصل العِلم لطريقة في المستقبل.

وبعد إعلان وفاة الشخص المتعاقد معها، وانتهاء الإجراءات القانونية للوفاة، تقوم الشركة بحفظ الجثة في منشأة خاصة، حيث يتم تبريد الجثة وحفظها في درجة حرارة حوالي 130 درجة مئوية تحت الصفر، كما تُحقن الأوعية الدموية الخاصة بالشخص بسائل عضوي، خوفًا من تلف الأعضاء، وبعدها يوضع الجسم في خزان يحتوي على نتروجين سائل، وحفظه في درجة حرارة تصل إلى 196 درجة تحت الصفر، كل ذلك حفاظًا على الجثة من التحلل والتلف، لحين وصول العلم إلى تقنيات تمكنه من إعادة الموتى إلى الحياة.

ومؤخرًا تمت الموافقة على إجراء التجارب العلمية في الولايات المتحدة الأمريكية، على حوالي 20 شخصًا ممن تُوفوا بـ «الموت الدماغي» لاختبار تقنيات عليهم يمكنها أن تعيدهم مرة أخرى إلى الحياة، أو يحدث لهم ما يسمونه بـ «عكس الموت الدماغي».

في النهاية ستكون قراءة «فرانكنشتاين» تجربة مثيرة لمعرفة كيف يمكن إدماج الخيال بالعلم في أسلوب أدبي منمق وجذاب، وهي ليست مجرد قصة رعب مبنية على أسس علمية، وإنما هي رواية تتداخل فيها المشاعر الإنسانية كافة فتضفي عليها الحيوية والرقة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.