أصبحت النظرة العلمية ضرورة تفرض نفسها على أي مجتمع لا يريد أن يعيش في هامش الحضارة، فلم يعد في وسع أي مجتمع لديه أدنى قدر من الطموح أن يستمر أسلوب تفكيره بنفس الطريقة التي سادت في الماضي، فقد خلع العلم الحديث عن العقل آلياته القديمة في التفكير وما انطوت عليه من أدوات خرافية مفارقة للواقع، ووضع نظماً وآليات جديدة مرجعيتها الرئيسية العقل والواقع، ولا يملك أي مجتمع يود أن يكون له نصيب من الحضارة المعاصرة إلا أن يحترم ذلك النظام ويأخذ به.

ويهدف هذا المقال إلى تحديد التغيرات التي طرأت على العقل وآليات اشتغاله، ورصد دور التفكير العلمي في بناء الحضارة المعاصرة، بالإضافة إلى تناول حالة التخلف التي تشهدها المجتمعات العربية ودور التفكير العلمي في تجاوز الأزمة.

آليات التفكير بين الماضي والحاضر

اعتمد الإنسان في مسيرته على مصدرين يزودانه بالمعارف اللازمة لفهم الواقع واستيعاب ما يجري به من أحداث، المصدر الأول هو «منظومة الفكر الخرافي» بصورتيها الأسطورية والدينية، أما المصدر الثاني، فيقوم على «التجربة والخطأ»(1). وظلت الأسطورة مصدراً للمعرفة طوال الجزء الأكبر من تاريخ البشرية، وقد تميز التفكير الأسطوري بارتكازه على مبدأي «الإحيائية» و«الغائية»، ويقوم مبدأ الإحيائية على صبغ الظواهر الطبيعية غير الحية بصبغة الحياة كوسيلة لفهمها وتفسيرها، بحيث يكون لكل ظاهرة إله خاص بها(2)، أما الغائية، فتعني أن «كل شيء يتحرك نحو غاية (غرض) تتم بتمام صورته التي هي الوجود بالفعل»(3)، فالغائية تضع لكل ظاهرة في الوجود غرضاً سابقاً لوجودها، فالمطر ينزل لكي يروي الزرع، والشمس تسطع لكي تدفئ أجسامنا.

ولعل سبب اعتماد الإنسان على مبدأ الغائية في تفسير الظواهر يرجع إلى إسقاط طابعه الإنساني على الطبيعة، فكما أن سلوكه يحكمه دائماً غرض محدد سلفاً، كذلك ظواهر الكون تمضي نحو غاية معينة مثله تماماً.

هذا الضرب من التفكير لم يتح للإنسان فهماً حقيقياً لظواهر الطبيعة، ومن ثَمَّ السيطرة عليها، فالطبيعة لا تعرف غايات، بل تحكمها قوانين صارمة يعجز التفكير الغائي عن الوصول إليها، بالإضافة إلى أن التعليل الغائي نتائجه غير مضمونه، ولا يُمكِّن الإنسان من التنبؤ بالظواهر والسيطرة عليها، فقد يصل للنتيجة المطلوبة مرة، وقد لا يصل إليها عشرات المرات. هذا القصور في طريقة التفكير الغائي فتح مجالاً لأسلوبِ آخر في التفكير(4)، فقد بدأ التفكير الغائي في التآكل تحت وطأة «التفكير العلمي الحديث» الذي أثمرت نتائجه في القرن السابع عشر(5).

فبظهور منظومة العلم الحديث، تشكّلت أدوات وآليات حديثة أكثر فاعلية في قراءة وفهم الواقع من تلك التي سادت في الماضي، تُعرف بـ«منهج التفكير العلمي»، وتقوم على ثلاث ركائز رئيسة، هي(6):

  1. الإمبريقية: وتعني الاعتماد على الشواهد المحسوسة في بناء المعرفة.
  2. العقلانية: وتعني الاستناد إلى العقل في تحليل تلك الشواهد.
  3. الشك: ويُراد به النقد الدائم والمراجعة المستمرة للمعرفة، بهدف التأكد من صحتها وتعديلها عند الضرورة.

ولا يُراد بالتفكير العلمي تفكير العلماء بالضرورة، بل هو نوع من التفكير المنظم الذي يمكن أن نستخدمه في شتى أمور حياتنا اليومية وفي علاقتنا مع الناس والعالم المحيط. فكل ما يميز هذا النمط من التفكير عن غيره؛ ارتكازه على مبادئ غير تلك التي تحكم «منظومة الفكر الخرافي»، فأهم ما يميز التفكير العلمي هو تخليه عن مبدأي «الإحيائية» و«الغائية»، واعتماده على الحواس والعقل في قراءة الواقع، ومن ثَمَّ فإن التفكير العلمي لا يكون مجرد حشد المعلومات العلمية، ولا يشترط معرفة نظرية علمية واحدة، فالتفكير العلمي هو «طريقة في النظر إلى الأمور تعتمد أساساً على العقل والبرهان… بالتجربة والدليل»(7).

التفكير العلمي والحضارة المعاصرة

يُعد التفكير العلمي إحدى أهم خصائص الحضارة المعاصرة والمعيار الذي يُقاس به تقدم وتخلف الحضارات، فالحضارة تخضع لمعايير العصر الذاتية، فإذا كان العصر يهتم بالفلسفة والعقائد الدينية فسوف تكون الفلسفة والتجارب الدينية محك تقدم وتخلف المجتمعات، وإن كان العصر عصر تفوق علمي فسوف تُقاس الحضارة بمقياس العلم وأساليبه(8)؛ ولذلك فإن أسلوباً منظماً لرؤية الأشياء وفهم العالم يعد ضرورة لا غناء عنها لأي مجتمع يود أن يلحق بركب الحضارة المعاصرة ويتظلل بظلها، فدون نشاط مُمنهج قوامه العقل ومرجعيته الواقع لا يمكن أن ترتقي المجتمعات وتلحق بحضارة صار التفوق العلمي فيها مقياس الرقي والتحضر.

ولا يقوم تقسيم العالم إلى بلدان متقدمة وأخرى متخلفة على الفجوة التكنولوجية الهائلة بين النموذجين، ولا على أساس افتقار الدول المتخلفة إلى الخصائص التقنية التي تتمتع بها المجتمعات المتقدمة، بل هو تقسيم يقوم في جوهره على التفاوت الثقافي والكيفية التي ينظر بها المجتمع إلى ذاته والعالم من حوله(9)، وهذا ما يتأكد بالنظر إلى التقدم الحضاري الذي أحرزته أوروبا خلال القرون الأخيرة، فكان لتغير نظرة الأوروبيين إلى أنفسهم والعالم المحيط بهم عظيم الأثر في تكون تلك الحضارة، فقد أدى تحول محور اهتمامات الإنسان في القرون الوسطى من النزوع إلى الزهد والتعلق بالحياة الأبدية، إلى التمركز حول الذات الإنسانية والشغف بفهم الطبيعة وظواهرها فهماً طبيعياً قوامه العقل والواقع – إلى ثورة ذهنية أفصحت عن نفسها في ميادين الحياة المختلفة(10).

وقد نتج عن تناول الواقع في إطار المعطيات الطبيعية أن أصبح المحيط الخارجي يُنظر إليه بوصفه موضوعاً يتطلب البحث والتقصي، وليس بوصفه رمزاً أو تجليات لأغراض وخططاً إلهية، مما أحدث نقلة نوعية في آليات اشتغال العقل، إذ حال منهج التفكير العملي دون وقوع العقل في فخوخ التفسيرات الغيبية وما يتعلق بها من سحر وحسد وعين وجدالات لفظية عقيمة لا تضيف للعلم ولا الحضارة شيئاً.

التفكير العلمي في مواجهة التخلف الحضاري

لا شك أن تغير بعض الجوانب الثقافية في المجتمع بمعدل أسرع من تغير الجوانب الأخرى، أحد أهم أسباب تخلفه، ولعل ولع المجتمع وشغفه بالمسائل الدينية – دون غيرها – مرآة تعكس اختلال التوازن الثقافي في المجتمع بوضوح، ومن ثَمَّ تخلفه، فقد نتج عن التمركز حول نصوص الدين وتجميد فهمها بسلطة السلف وحرفية القراءة لا إلى تديين الظواهر الطبيعية/الاجتماعية وتعليلها في إطار تلك النصوص فحسب، بل وإلى صبغ منجزات الحداثة بصبغة تراثية بدلاً من محاولة الاستفادة منها، وذلك بدءاً من العلم وصراع أسبقية نصوص الدين على نظريات العلم فيما يُعرف بـ(الإعجاز العلمي)، ومروراً بالفلسفة والزعم بتفوق فلاسفة التراث وسبق فلسفتهم لفلسفة الغرب، وانتهاءً باجترار الماضي والزهو بالأجداد والتأكيد على فضل إنجازاتهم في بناء أوروبا الحديثة.

ولا يمكن أن تُعزا حالة الانغلاق والجمود هذه إلى الدين ذاته، فهي أقرب لحالة انغلاق ثقافة العرب قبل الإسلام وتمركزها حول سلطة الآباء ومأثور السلف، وما تبع ذلك من تنحية للعقل وتنصيب الآباء كسلطة حاكمة عليه ومُوجِهة لتفكيره، إذ أدى تحول العرب من البداوة إلى الإسلام، إلى انتقال تلك الثقافة وشيوعها على نطاق واسع وعلى الأخص بين التيارات التي هيمنت على فهم الدين؛ فكانت النتيجة تقييد العقل وانغلاقه في فهم الواقع على سلطة النص والتراث، كما تقيد العرب قبل الإسلام بسلطة العرف والآباء(11).

ولا يخفى مدى تأثير حالة الانغلاق الثقافي هذه وتحيزها للجانب الضيق من التراث واكتفائها به وعدم تجاوبها مع آليات الحداثة -التي يعد التفكير العلمي إحدى ركائزها– على تأخر المجتمع وتخلفه، فهي حالة أشبه ما تكون بحالة الغرب في القرون الوسطى عندما نظر إلى الكون من نافذة الكنيسة الضيقة، وجعل من قيمها الدينية منهجاً لقراءة الكون والطبيعة، وربط ما يحدث بهما بتصوراته الدينية القائمة.

ولما كانت الحضارة تُبنى على تراكم المعرفة في مختلف المجالات العلمية والاجتماعية والاقتصادية، وكان التفكير العلمي أداة فعالة تسهم في العلو ببناء المعرفة وزيادة قدرة الإنسان على فهم نفسه والعالم من حوله، فإن ثمة تساؤلاً يطرح نفسه، هل تسهم آليات التفكير الغائي واعتماد العقل على التراث والمفاهيم الغيبية – في تراكم المعرفة وزيادة رصيد الحضارة؟

إن تجاهل العقل للواقع المحسوس وتعلقه بالعلل المفارقة وشغفه بها على النحو المستقر في الثقافة، لا يصلح لأن يكون أساس يرتكز عليه البناء وتتراكم فوقه المعرفة؛ لأن التعليل الغيبي كثيراً ما يتخبط ويتناقض ويتباين تفسيره للظاهرة الواحدة بتباين الأشخاص واختلاف مصالحهم ومواقعهم ووجهات نظرهم، ومن ثَمَّ فإن رصيد المعرفة المُؤسَس على تلك التعليلات لا يعدو أن تكون مجرد وجهات نظر وألفاظ غير قابلة للاختبار لا تفيد في فهم الواقع والسيطرة عليه، وبالتالي لا تصلح لتكون أساساً تبنى عليه المعرفة، هو فقط اتجاه عقلي وأسلوب في التفكير يُدفع ثمنه حضارياً.

ولا يفرض التفكير العلمي على المجتمع التخلي عن بعض المفاهيم الدينية المتعلقة بالغيب، فالتفكير العلمي لا يستلزم تكذيب الغائية والغرض من الظواهر(12)، فلكل منهما ميدانه، العلم يرصد سلسلة الأسباب الثابتة بالمشاهدة التي تحكم الحدث، بينما ترصد الغائية الغرض من وجود الحدث، فقد يكون الغرض من تساقط المطر ري زراعة الفلاح، أو لأجل غنم الراعي، أو عقاباً واختباراً إلهياً، ولكن هذا لا يضاد حقيقة أن المطر كان نتيجة سلسلة من الأسباب الطبيعية التي تبدأ بتبخر مياه المسطحات وتنتهي بتكثف السحب وتساقطها بفعل الجاذبية.

وكذلك الظواهر الاجتماعية، قد يكون وراءها سبب خفي تحكمه أغراض وخطط إلهية، ولكن وجود الماورائيات والأسباب الخفية لا يعني أن الأسباب التي تمخضت عن الحدث هي سلسلة أسباب مفارقة للطبيعة فحسب، بل إن لكل حدث سبباً طبيعياً يمكن استقراؤه، ولا يعني الجهل بالسبب أن الحدث غير خاضع لقوانين الطبيعة، فعدم توافر السبب له أسبابه أيضاً، فعدم توافر المنهج الملائم لقراءة الظاهرة وكذلك عدم كفاية الملاحظات ودقتها، كلها أمور تحول دون معرفة السبب، وأياً كان الأمر، فإن التفكير العلمي لا يحتم ترك مفاهيم دينية بعينها، ولكنه يفرض على العقل أن يوجِّه نظره صوب الواقع المحسوس، وأن تكون معارفه وربطه للظواهر قائماً على مرجعية الواقع وتحليل العقل، وهذا ما تفتقر إليه الثقافة بشدة.

المراجع
  1. السيد نصر الدين السيد، “شوية علم من فضلك”، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2015، ص39.
  2. فؤاد زكريا، “التفكير العلمي”، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت، ص58.
  3. مراد وهبة، “المعجم الفلسفي”، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2016، ص498.
  4. فؤاد زكريا، التفكير العلمي، مرجع سبق ذكره، ص65.
  5. ولتر ستيس، “الدين والعقل الحديث”، ترجمة: إمام عبد الفتاح، مكتبة مدبولي، 1998، ص23.
  6. السيد نصر الدين السيد، “شوية علم من فضلك”، مرجع سبق ذكره، ص41.
  7. فؤاد زكريا، “التفكير العلمي”، مرجع سبق ذكره، ص10.
  8. فؤاد زكريا، “الإنسان والحضارة”، مكتبة مصر، القاهرة، 1991، ص37.
  9. مصطفى النشار، “في فلسفة الثقافة والنقد الثقافي”، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2017، ص98.
  10. فؤاد زكريا، “الإنسان والحضارة”، مرجع سبق ذكره، ص63-64.
  11. علي مبروك، “أفكار مؤثمة”، مصر العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2015، ص127.
  12. ولتر ستيس، “الدين والعقل الحديث”، مرجع سبق ذكره، ص34.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.