اختارت بريطانيا «ليز تراس» رئيسة جديدة للحكومة، بعد شهرين فقط من اضطرار «بوريس جونسون» للاستقالة من منصبه تحت ضغوط سلسلة من فضائح الخروج على مدونة السلوك الحكومي.

تعتمد ليز تراس على عوامل محددة في مهتمها الجديدة: تلونها السياسي -رسم صورة ذهنية مختلفة باعتبارها الوريث الشرعي لميراث مارجريت تاتشر -أنها لم تعرف الرهانات الخاسرة – وأخيرًا دعم سلفها بوريس جونسون، الذي اختار التلون هو الآخر ربما يكون مفتاح خروجها سريعًا من المنصب.

لكن الأهم قد يكون سياستها تجاه القضية الفلسطينية؛ إذ ستكون دولة الاحتلال بانتظار مندوب سامٍ فوق العادة في 10 داونينج ستريت.

حرباء السياسة

كل التقارير الإنجليزية تقريبًا وصفت ليز تراس بكونها «حرباء سياسية» ارتدت العديد من القبعات الأيديولوجية على مدار حياتها.

تروج لنفسها حاليًا باعتبارها التجسد الأيديولوجي لمارجريت تاتشر، أشهر رئيسة حكومة في تاريخ بريطانيا وإحدى أهم النساء اللائي شغلن مناصب رسمية في التاريخ الحديث.

لكن المراقبين لم يغفلوا أبدًا أن تراس في الأساس بنت عائلة عمالية يسارية، شاركتهم طفلة في مظاهرات مؤيدة لنزع السلاح النووي وضد حكومة تاتشر المحافظة، وسلسلة القرارات التي اتخذتها في ما يخص تشجيع الخصخصة والسوق الحر.

وكطالبة في جامعة أكسفورد، قادت تراس المجتمع الطلابي للديمقراطيين الأحرار، ودعت إلى إلغاء النظام الملكي. 

حولت تراس ولاءها في وقت لاحق إلى حزب المحافظين، في تغيير جذري قالت إن سببه النضج بعد مغامرات المراهقة، وكذلك دراستها للفلسفة والسياسة والاقتصاد في أكسفورد، لكن معارضيها يقولون إنه مجرد امتداد لتلونها السياسي، الذي قادها للانتخاب كبرلمانية في 2010، ليبدأ ترقيها في حزب المحافظين، حتى أصبحت بعد أربعة أعوام فقط أصغر وزيرة في حكومة لندن حين رشحها ديفيد كاميرن لمنصب وزير البيئة، قبل أن تستمر في الحكومة في عهدي تيريزا ماي وبرويس جونسون.

سلوك «الحرباء» امتد لاحقًا في ملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي شاركت خلاله في قيادة تيار بقاء المملكة المتحدة عضوة في الاتحاد الأوروبية، معتبرة أن دعاة «البريكزيت» يعيشون بين سحب «الواق واق» والذين انضمت إليهم تدريجيًا خلال السنوات الست التالية، حتى أصبحت حاليًا من أشد المؤيدين للخروج من الاتحاد الأوروبي وحاملة لواء الجناح اليميني التاتشري المتشكك في أوروبا، وهو الموقف الذي جعلها محبوبة القاعدة التقليدية، لكنها بالنسبة لمنتقديها انتهازية سياسية؛ شخص يمكن أن يتعامل بسرعة ويتحول بشكل كامل إلى أي موقف يناسبها في ذلك الوقت.

جونسون الثانية قد يسقطها جونسون الأول

في حملتها الانتخابية، قالت ليز تراس كل ما يمكن أن يقال لتبدو على نطاق واسع امتدادًا لخط سلفها بوريس جونسون، خصوصًا في ما يخص مسائل السياسة الخارجية، بحسب جافين بارويل، الوزير السابق عن حزب المحافظين، وكبير موظفي رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي. 

علاقة بريطانيا مع الحلفاء الأوروبيين ربما تكون مرشحة للتوتر أكثر، بعدما توترت في وقت سابق من هذا العام عندما قدمت تروس تشريعًا يهدد بتقويض الترتيبات التجارية الحساسة في جزيرة أيرلندا، والمقررة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إذ قدمت تعهدات باتخاذ سياسات جديدة توصف على نطاق واسع بأنها تنتهك القانون الدولي.

يقول بيتر ريكيتس، الدبلوماسي البريطاني السابق الذي شغل منصب سفير المملكة المتحدة في فرنسا: «أعتقد أننا نتجه نحو أجواء أكثر قسوة مع الأوروبيين، حتى مما كانت عليه في عهد جونسون». لكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد يكون أكثر من سيتحمل عبء تجاوز فترة تروس، باعتبار أنها لم تبد ثقة في إمكانية اعتباره صديقًا أم عدوًا للمملكة المتحدة.

العلاقة المهمة الأخرى التي يجب مراقبتها ستكون مع البيت الأبيض. وبحسب ما ورد، أعربت تروس عن حماس أقل لما يسمى «العلاقة الخاصة» بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من حماس رؤساء الوزراء السابقين. على الرغم من أنها ستواصل بلا شك التعاون الوثيق بين لندن وواشنطن، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالسياسة المشتركة بشأن روسيا والصين، فإن المراقبين يتعاملون مع الخلاف المقبل مع إدارة جو بايدن باعتباره في حكم المؤكد.

فقط في ما يتعلق بالسياسة الاقتصادية، أبدت تراس بعض التغيير، إذ تدعو إلى التخفيضات الضريبية، وتقدم وجهة نظر ربما أكثر تباينًا عن جونسون في بعض المجالات، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالإنفاق الاجتماعي، باعتبار أن الوضع الاقتصادي كان العقبة الأولى في طريق جونسون.

ومع ذلك، فالشك قائم في قدرة تراس على مضاهاة شعبية سلفها، لا سيما بين القواعد الشعبية لحزب المحافظين. يقول تيم بيل، أستاذ السياسة في جامعة كوين ماري في لندن ورئيس مشروع بحث يركز على عضوية الأحزاب السياسية الرئيسية في المملكة المتحدة:

قلة قليلة من الناس يمكن أن تضاهي جاذبية بوريس جونسون الكاريزمية. ليز تراس ليست أحدهم بالتأكيد.

بوريس جونسون نفسه قد يكون أهم عقبة في طريق ليز تراس قريبًا؛ باعتبار أنه سيعود سريعًا إلى مقعده البرلماني، والأهم أنه سيعاود كتابة مقالاته الصحفية عما قريب.

ما الذي تواجهه؟

في هذه المرحلة، سيكون من الأسهل سرد ما لن يكون عقبة في وجه ليز تراس. تمتلئ الجبهة الداخلية تراس بالعديد من الأزمات المتبقية من عهد جونسون، وأكثرها ترويعًا أزمة تكلفة المعيشة في البلاد. 

يواجه البريطانيون شتاءً قد ترتفع فيه فواتير الطاقة المنزلية بنسبة 80%. وبلغ معدل التضخم في يوليو/ تموز أعلى مستوى في 40 عامًا عند 10.1%. تعهدت تراس بجعل تمرير ميزانية الطوارئ أحد طلباتها الأولى في العمل.

لكن، وإضافة إلى التحديات الاقتصادية التي تواجه المملكة المتحدة، سيتعين على تراس أيضًا التعامل مع الأزمات السياسية التي تلوح في الأفق، ليس فقط في أيرلندا الشمالية، بل في اسكتلندا، التي ينتظر الحزب القومي فيها جلسة الاستماع في المحكمة العليا في المملكة المتحدة الشهر المقبل حول ما إذا كان بإمكان الحكومة الاسكتلندية المفوضة إجراء استفتاء على الاستقلال دون موافقة وستمنستر – وقد تجدد نتائجه التركيز على مصير الاتحاد البريطاني، ومدى قدرة تراس على الحفاظ عليه.

وتصاعد تأييد استقلال اسكتلندا في السنوات التي أعقبت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ إذ صوتت اسكتلندا بشدة لصالح البقاء، وبقي تأييد البقاء عند نسبة عالية بلغت 55% العام الماضي. 

وبعيدًا عن هذه الأزمات، يتعين على تراس أيضًا مواجهة معضلة إعادة توحيد حزب المحافظين نفسه بعد حملة انتخابية عنيفة، لضمان أن تبقى في منصبها على الأقل حتى الانتخابات العامة المقبلة في المملكة المتحدة أواخر 2024 أو الشهر الأول من 2025.

صديقة «إسرائيل»

تعتبر ليز تراس من أشد المؤيدين لإسرائيل وحليفة معلن عنها من جانب الجالية اليهودية في بريطانيا؛ إذ أظهرت دعمًا واسعًا لليهود البريطانيين في سلسلة من التعهدات، الذين رحبوا بحرارة بصعودها السياسي، بدرجة عرضتها للهجوم من بعض قطاعات المجتمع الإنجليزي، وفتح باب التساؤلات حول ديانتها

وقال إيان أوستن، عضو مجلس اللوردات والمبعوث التجاري لرئاسة الوزراء إلى إسرائيل:

أي شخص يؤمن بتعزيز العلاقة بين بريطانيا وإسرائيل يجب أن يسعد بتعيين ليز تروس وزيرة خارجية جديدة. لا يوجد أي شك في دعمها لإسرائيل.

وخلال فترة عملها في وزارة الخارجية، قدمت تراس أوراق اعتمادها إلى دولة الاحتلال، إذ وضعتها جنبًا إلى جنب مع مجموعة صغيرة من الديمقراطيات الليبرالية، اقتصرت على دول مجموعة السبع وأعضاء الناتو وأستراليا، باعتبارهم «شبكة حرية» جديدة لمواجهة الدول الاستبدادية و«الجهات الخبيثة»، قبل أن تعتبرها «أوثق أصدقاء بريطانيا وأقرب أصدقائها».

وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وقعت مذكرة تفاهم مع وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك ورئيس الوزراء المستقبلي «يائير لابيد»، التي ألزمت بريطانيا وإسرائيل بتعاون أوثق في الأمن السيبراني والتكنولوجيا والدفاع والتجارة والعلوم. ثم تحدثت لاحقًا عن وجود «شراكة فريدة» بين بريطانيا وإسرائيل.

والأهم، أنها تعتبر عن قطيعة مع سياسة الحكومة البريطانية الحالية، قائلة إنها ستراجع ما إذا كان ينبغي لبريطانيا أن تحذو حذو الولايات المتحدة في نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس.

وعندما أمر الرئيس دونالد ترامب واشنطن بنقل سفارتها في عام 2017، انتقدت رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك «تيريزا ماي» هذه الخطوة. لكن تراس أخبرت «أصدقاء إسرائيل المحافظين» أنه على الرغم من إدراكها لـ«أهمية وحساسية» القضية، فإنها ستنظر في قرار المملكة المتحدة بالبقاء في تل أبيب، في إعلان أثار انتقادات متوقعة من دبلوماسيين بريطانيين سابقين، كتب 10 منهم لصحيفة «التايمز» قائلين، إنه ينبغي انتظار إقامة دولة فلسطينية.

تتعهد تراس أيضًا بالاصطفاف إلى جانب دولة الاحتلال في مقاومة انتقادات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لإسرائيل، وتصفها بـ«جهود معادة السامية على المستوى الدولي»، كما تتوعد بتشديد مكافحة حملات مقاطعة إسرائيل بتشريعات جديدة توقف نشاطها في بريطانيا.

نصيرة مسلمي الصين.. عدوة إسلاميي الداخل

حين كانت ليز تراس في منصب وزير التجارة، أبدت دعمًا مفتوحًا لخطط عارضتها وزارة الخارجية لمنح المحاكم البريطانية سلطة النظر فيما إذا كانت سياسات الصين في مقاطعة شينجيانغ التي تضم غالبية مسلمة، تندرج تحت بند الإبادة الجماعية.

وبينما رفضت وزارة الخارجية مشروع القرار باعتباره يقع على عاتق المحاكم الدولية المختصة وليس الحكومات الوطنية، انحازت تراس إلى التيار القائل إن بريطانيا لا يجب أن توقع صفقات تجارية مع أي دولة ترتكب عمليات إبادة جماعية، بالتالي، يجب تحديد التزامات أكثر صرامة على الشركات التجارية في شينجيانغ لضمان أن سلاسل التوريد الخاصة بها لا تنطوي على العبودية بحق المواطنين المسلمين.

ونفت الصين المزاعم المتكررة بأن مسلمي الإيغور محتجزون في معسكرات إعادة تأهيل. لكن تقارير دولية قالت إن بكين دفعت بهم إلى معسكرات تستهدف إبعادهم عن عقيدتهم.

في المقابل، تعهدت بعزل الإسلاميين المحتجزين في سجون بريطانيا بوضعهم في وحدات خاصة تخضع لإجراءات أمنية مشددة للحد من قدرتهم على تحويل السجناء الآخرين إلى التطرف.

وقالت -كوزيرة للعدل- إنها تتخذ إجراءات للحد من انتشار الأيديولوجية الراديكالية بين السجناء العاديين، بما في ذلك تدريب الضباط على تعطيل النشاط الذي قد يؤثر على السجناء المعرضين للخطر، متعهدة بتدريب ضباط السجون ومنحهم السلطة لاستئصال التطرف.

لكن النقاد قالوا إن الوحدات الخاصة يمكن أن تصبح نقاط تجمع حيث يمكن لأخطر المتطرفين تبادل الأفكار وإنشاء شبكات، في تكرار لبعض الأخطاء التي ارتكبت في أيرلندا الشمالية في الثمانينيات، حيث تمكن سجناء شبه عسكريين من تنظيم أنفسهم داخل السجون.