حدّثني ذات يوم حديثًا فيه سخرية من أوضاعي، وكيف أنني استكنت إلى الحياة في مدينة إقليمية، وارتضيت الحياة في شوارع مُعتمة، واكتفيت بالحنين إلى رحلات، يقول إنها لن تتم أبدًا.

ربما كان رأيه صحيحًا، لأنه ناجح، يعيش في العاصمة وله مكتب وسكرتارية، ويعمل في صحيفة كبيرة، ويُدرِّس «مادة الإعلان» في إحدى الجامعات الإقليمية.

لم تكن الفروق بيننا واضحة في الصغر. ولا أحد يمكن أن يحدد متى بدأ الاختلاف بيننا. في طفولتنا، أيام الأعياد، كنّا نؤجِّر الدراجات ونُسابق الريح في شارع البحر. وعندما كنّا طلابًا في المدرسة الثانوية، تعلّمنا ركوب الموتوسيكل، وتسابقنا أحيانًا في حب نفس الفتاة، ورسم الصور وكتابة الأشعار. كانت حياة غضة، لا يمكن أن يُميِّز فيها المرء الاختلاف بين مصائر البشر.

ربما بدأ الاختلاف من اللحظة التي أخفى عني أنه يعرف امرأة إنجليزية عجوز، تعمل مُعلّمة في مدرسة الأمريكان، وتسكن في بيت له جنينة في شارع «قطيني». هل هي التي أعطته الحكمة، هل هي التي وجّهت نظره إلى حقائق الحياة؟

لا يستطيع المرء الوصول إلى يقين في ما يخص هذه الأمور الهشة. لكننا يمكن أن نرى بداية الاختلاف واضحًا في حادث عودتي من القاهرة.

بعد حصولنا على الثانوية العامة، التحقنا بكلية الإعلام جامعة القاهرة. عشنا في المدينة الجامعية معًا، لكن بعد عشرة أيام من بهجة الحياة في العاصمة قررت، من دون سبب، أن أترك المدينة الجامعية، وأعود إلى مدينتي الصغيرة.

أقول هذا لأنني إلى الآن- مهما حاولت استبطان تلك الليلة التي قرّرت فيها العودة إلي بيتي والالتحاق بكلية الآداب- لا أجد غير الضباب؛ سكون مريح، ربما ألمح «بيجامة» أبي الشتوية، أو صورة أسواق مدينتي، أو شارع «قطيني» في الصباح. أشياء لا تُعد بجد أسبابًا لقرار خطير كهذا.

بهذا القرار بدأت الفوارق، رغم أنها لم تأخذ شكلًا واضحًا، فلم تكن المسافة بين نمط شخصيتنا قد اتضحت، ولم تكن حياتينا قد تشكّلت كما هي الآن؛ لأن حياتنا الجامعية غصّت بمغامرات مشتركة مع البنات والسفر، والسهر في لعب البريدج والعودة إلى بيوتنا في الفجر. أظن أنه بعد الجيش تبدل كل شيء. غادر هو المدينة وعمل في الصحافة، وبقيت أعمل في مركز إعلامي بجوار مبنى المحافظة.

الحقيقة أن كلامه صحيح، لأنني في الربيع من كل عام أحن إلى الرحيل. أرى نفسي أحمل حقيبتي وأذهب إلى الصحراء. أمر على الواحات، واحة… واحة، ومن الوادي الجديد أعبر النيل من الجنوب إلى أسوان، وأغوص في دروب الصحراء الشرقية، أبقى طويلًا بجوار مقامات المتصوّفين والأديرة، وأنصت إلى الذي يلف التلال «لي صمت تلال خشم الرقبة»، وأنصب خيمتي بالقرب من مجرى السيول، حيث تكثر النباتات التي لا مثيل لها.

كل ربيع، عندما أشم رائحة النباتات في هواء الصباح، في الطريق إلى عملي، يستبد بي الحنين. وأفكر أن أنقل عملي إلى منطقة بعيدة، حتى أوقف هذا الحنين الربيعي، لكن تعقيدات الحياة ومدارس الأولاد والحياة المستقرة التي أقمناها هنا أعاقت المشروع، كما أن التفكير المتمهل في المدينة وتمثل شوارعها وأسواقها ومقاهيها، وبيوتها القديمة، جعلها تبرق، أحيانًا، في الذهن لها نفس ملامح حنين الربيع. ربما ما عرقل الموضوع من أساسه هو خوفي من مغادرتها، فمن أدراني أنني عندما أستقر في مدينة جديدة لا أحن بقسوة إلى تلك المدينة.

كلامه صحيح تمامًا، والرحلات التي أنوي القيام بها لن تتم. أدركت ذلك لأنني، هذا العام، رتبت كل شيء، وأعددت للرحلة بالتفصيل، وقبل الرحلة تراجعت وفضّلت البقاء.

اندهش من أنه كان يعرف، منذ البداية، أنها رحلات لن تتم.

الحنين الآن حنين مجرد، من دون أوهام الرحلات. حنين خالص، أخذ يتحوّل كأي كائن حي إلى دراسة جغرافية الصحراء والواحات المصرية. وبعد مرور عدة أعوام، أصبحت خبيرًا في تضاريس الصحراء وعادات أهلها، وأقضي كثيرًا من الوقت في تمثل تلك الأماكن البعيدة.

في زيارته الأخيرة، اندهش من وجود كتاب عن اللغة القديمة لأهل سيوة على مكتبي. قال ضاحكًا إنه لن يندهش في المرة المقبلة إذا وجد كتابًا في اللغة الهيروغليفية، وصمت قليلًا وزادت ضحكته رنينًا وهو يقول:

كيف لم أفهم هذا منذ وقت طويل؟ كيف غاب عني أنك تحن إلى اللغات الميتة؟

الآن لا تمر ليلة من دون النظر في خرائطي، وأندهش من أن حنين السفر كان مُستبدًا بي ذات يوم، والأهم من كل هذا أن كلامه الساخر في زيارته الأخيرة كشف لي، ما حامت حوله نفسي طويلًا، من دون أن أتمكن من معرفته، وبدأت الإعداد لتعلم اللغة الهيروغليفية.

(تمت)