السابع من أبريل/نيسان 2018. كل شيء داخل مدينة مانشستر يبدو في حركة مستمرة؛ حضور كثيف لمراسلي الصحف والمحطات التلفزيونية، السكان منقسمون بين اللون الأحمر والسماوي، مئات الشبان يتحركون كالموج المتدافع نحو ملعب الاتحاد. إنه ديربي مانشستر، لكنه اليوم يحمل أجواء أكثر عدائية وسخونة.

السيتي يريد حسم المنافسة على لقب الدوري بالفوز أمام العدو اللدود، والاحتفال أمام جماهيره، وهو ما سيمثل ضربة نفسية قاسية لكبرياء اليونايتد. في الواقع كانت المباراة تسير على هذا النحو بعد مضي نصف الساعة الأولى، المواطنون متقدمون بنتيجة 2/0 والفرص تتوالى تباعًا على مرمى «ديفيد دي خيا» حتى جاءت الفرصة التي ستقلب المباراة رأسًا على عقب بدلًا من أن تنهيها.

في الحقيقة لم تكن هذه فرصة واحدة، بل ثلاثة انفرادات محققة أهدرها «رحيم ستيرلينج» برعونة وسوء تقدير لا يحسد عليه، أحدها تسبب في ردة فعل هيستيرية من مدربه «بيب جوارديولا» الذي سيبدو وكأنه تلقى للتو رصاصة في رأسه. طبعًا أنت تعرف بقية القصة، سيقلب «بوجبا» الطاولة وسيخسر السيتي 3/2، ثم سيقتحم بيب الملعب بعد صافرة الحكم ويدخل في نقاش محتد مع رحيم.

اليوم يكون قد مر عام، ويبدو أن كثيرًا من الأمور تغيرت. ليس فقط لأن رحيم لم يعد يهدر مثل تلك الفرص، ولا لأن مدربه الإسباني لا يتوقف عن مدحه خلال كل مؤتمر صحفي تقريبًا، ولكن لأن ستيرلينج بات فعلًا لاعبًا مختلفًا عن ذلك الذي عرفناه عبر المواسم السابقة. تُرى ما هي أسباب ذلك التحول؟ هل فعلًا لأنه قرأ رواية كما يخبرك العنوان؟ لحظة واحدة! هل لجوارديولا أصلًا رواية؟


أكثر لاعب مكروه بالعالم

في الحقيقة، لا يمكن لقراءة رواية وحدها أن تغيّر حياة شخص بالكامل، خصوصًا لو كان هذا الشخص هو رحيم ستيرلينج. والسبب ببساطة هو أن اللاعب الإنجليزي يحظى بقدر من الكراهية الجماهيرية والضغط الإعلامي يفوق أي لاعب آخر من أبناء جيله.

القصة لم تبدأ في ليفربول، بل هناك في لندن عندما بزغ نجم ابن الـ15 عامًا، وبدأت بعض الأندية في السعي لضمه،على رأسها كان الأرسنال. هذه فرصة لا تتاح بسهولة لأي ناشئ، لكن ستيرلينج رفضها بشكل قاطع. هل لأنه يكره أرسنال مثلًا ويشجع توتنهام؟ على الإطلاق، الإجابة هي أن الصغير كان يبحث عن أسرع فرصة للظهور كلاعب محترف في البريمرليج، وهو ما لا يضمنه اللعب لأحد الأندية المدججة بالنجوم.

بالتأكيد ترك ذلك انطباعًا سلبيًا عنه في العاصمة، لكنه في الأخير حقق هدفه عندما شارك بقميص ليفربول وهو في عامه الـ17. وهنا بدأ الإعلام الإنجليزي –كعادته- في تسليط الضوء على موهبته الواعدة بل وتضخيم إمكانياته أحيانًا، حتى جاء موعد تجديد تعاقده مع ليفربول ليتحول عندها رحيم لمادة إعلامية ثرية وهو لا يزال في العشرين من عمره.

في البداية طالب ستيرلنج زيادة راتبه، ثم رفض العرض الأول المقدم من ناديه، ثم العرض الثاني، فالثالث، حتى أنه خرج بشحمه ولحمه ليصرح علنًا برغبته في الرحيل معللًا ذلك بأكثر التعليقات استفزازًا للجماهير. بدا أنها حالة تمرد مكتملة الأركان، فقط كان ينقصها رفض النزول للتدريبات وخوض المباريات التحضيرية، وهو ما حصل فعلًا في يوليو 2015!

عندها تحوّل ستيرلينج من صفة اللاعب المدلل لصفة الخائن، بينما كان في جعبته آنذاك صفة أخرى وهي الغشاش الذي يتعمد السقوط والتحايل، بالإضافة لصفة ثالثة وهي المبذر الذي يحصل على أموال لا يستحقها وينفقها بلا رادع، وأخيرًا كان يورو 2016 الفرصة المناسبة لإلصاق صفة رابعة به: المضخم الذي لا يتوانى عن إهدار الهجمات.

الحق أن رحيم أظهر موهبة حقيقية، لكنه في الوقت ذاته ارتكب عددًا وافرًا من الأخطاء الكبيرة في بداية مسيرته، حتى جعل صورة «الولد المشاغب مثير الأزمات» تلتصق به، وهو ما جنى بسببه كراهية تحولت في بعض الأحيان لعنصرية بغيضة، لكن في المقابل لا أحد ينتبه لحجم الضغط الذي عانى منه بسبب سقف التوقعات المرتفع الذي صنعه الإعلام بالإضافة لتعقب أدق تفاصيل حياته؛ من راتبه وسعر منزله وحتى الوشم المطبوع على قدمه، دون الالتفات لحقيقة أنه في النهاية شاب صغير جدًا لا يمتلك الخبرة الكافية.


مقامرة جوارديولا

للوهلة الأولى قد تظن أن رحيم ستيرلينج ليس من نوعية اللاعبين التي يفضلها جوارديولا؛ أولًا هو لا يتعاقد أصلًا مع لاعبين إنجليز، ثانيًا يريد من لاعبه التركيز الكامل في كرة القدم والتغلب على أي مشتتات، أما ثالثًا فلا يحب من يحتفظ بالكرة كثيرًا ويميل للحلول الفردية. وكل هذه الأمور موجودة في رحيم، لكن دعني أفاجئك وأخبرك أن جوارديولا رغم ذلك سعى لتدريب ستيرلينج!

كيف؟ سأشرح لك.تؤكد صحيفة الجارديان أن اللاعب الإنجليزي لفت انتباه بيب إبان تدريبه لبايرن ميونخ، وقد وضع اسمه ضمن القائمة التي يود التعاقد معها، بل إن إدارة السيتي قد استشارته في التعاقد مع رحيم صيف 2015 –أي قبل قدومه بعام كامل- وأبدى ترحيبًا، أكثر من ذلك هو ما تكشفه صحيفة الإندبندنت عن اتصال أجراه المدرب الكتالوني بستيرلينج بعد أدائه السيئ خلال بطولة اليورو، حيث أخبره بثقته الكاملة في إمكانياته ونيته العمل على تطوير أدائه. بصراحة لا يمكن تفسير تلك الوقائع على أنها مجرد تعاطف مع رحيم، بل إن كل ذلك يقودنا لنتيجة واحدة: وهي إيمان بيب فعلًا بإمكانيات ستيرلينج.

وأول مميزات الجناح الشاب هي السرعة والمهارة التي امتاز بهما منذ ظهوره الأول، فخلال موسم 2013/2014 امتلك رحيم معدل مراوغات ناجحة وصل لـ2.8 مراوغة/المباراة، ثم وصل لـ3 مراوغات بالموسم التالي، وهذه معدلات مرتفعة حتى بالنسبة للاعبين أصحاب الخبرة وليس مجرد ناشئ أتم عامه العشرين.

الأمر الثاني الذي يتميز به رحيم هو القوة، وهذا ما تبرزه أرقام تدخلاته وعرقلاته الناجحة، فقط تخيل لاعبًا بسن الـ19 عام قام بـ20 استخلاصًا وله نسبة عرقلات ناجحة جاوزت الـ59%، ثم حافظ على تلك النسبة بعد انضمامه للسيتي. لابد أن هذه النقطة تحديدًا قد لفتت انتباه جوارديولا الذي يهتم للغاية بمنظومة الضغط واستعادة الكرة في فريقه.

في المقابل، كان رحيم يعاني من مشكلتين أساسيتين؛ الأولى واضحة للغاية وهي دقة التصويب. وهذه تفسر إهداره لكل تلك الفرص السهلة التي استشاط منها بيب غضبًا خلال الديربي. تكشف لنا الإحصائيات أن ستيرلينج كان يمتلك دقة تسديدات تتراوح بين نسبة الـ39% و الـ42%، إلا أنها تراجعت أكثر خلال موسم جوارديولا الأول لتصل حتى 34%، وهو ما احتاج من الأخير تدخلًا سريعًا.

المشكلة الثانية لا تقل أهمية عن الأولى، بل هي على الأرجح تفوقها، وهي قرارات رحيم ستيرلينج داخل الملعب. أزمة رحيم هي أنه يمتلك الأدوات، لكنه لا يجيد استخدامها بالشكل الأمثل. هو يعرف كيف يراوغ خصمه، ويستخلص منه الكرات، لكنه لا يفكر في الخطوة التالية، وبالتالي يضيع جهده بلا فاعلية حقيقية. أضِف لذلك أنه كان يتأثر بالانتقادات والتشكيك، وهو ما جعله ينشغل باستعراض موهبته وإظهار ما يملك.

هنا كان جوارديولا أمام خيارين؛ إما أن يرفض العمل مع ستيرلينج من الأساس، أو أن يقبل بمهمة تدريبه ومن ثم يحاول علاج مشاكله والتعديل من قراراته. وقد راهن الكتالوني على الخيار الثاني.


هل قرأ الرواية؟

الإرادة في النفوس تعمل مثل الرياح بالنسبة للسفن، يمكنها أن تدفع السفينة بسرعة جنونية بمجرد أن تجد الأشرعة مستعدة لاستقبالها.

هذه الكلمات هي لـ«ديفيد تروبا»، وهو أحد أهم الروائيين الإسبان المعاصرين، وقد وردت في روايته «تعلم أن تخسر». الرواية ذائعة الصيت تناقش العوائق التي يواجهها المرء خلال بحثه عن ذاته، بالإضافة لحجم التعقيدات الذي يتميز به عالم اليوم. لكن ما دخل كل ذلك بموضوعنا؟

الرابط بسيط جدًا، هذه الرواية هي الكتاب المفضل لبيب جوارديولا، وقد ساعدته في التخلص من هلعه من الفشل. يحب بيب هذه الرواية لدرجة أنه يعيد قراءتها بين الحين والآخر، بل إنه رشحها لبعض لاعبيه ثم ناقشهم في كيفية إسقاط مضمونها على عملهم.

ستيرلينج كان يحتاج لمن يمنحه الثقة، ويبعده عن كل المشتتات التي تعصف به، ومن ثم يجعل كامل تركيزه منصبًا على كرة القدم وتطوير مستواه، ويبدو أن جوارديولا قد أدى تلك المهمة بنجاح، فقط كان على رحيم أن يتحلى بالإرادة ويتوقف عن لعب دور الضحية المضطهد المكروه ويعمل بجد على عيوبه.

هذا الموسم نحن أمام ستيرلينج مختلف؛ أولًا هناك تحوّل واضح في قراراته، إذ أضحت أكثر تأثيرًا وفاعلية، وقد رجح كفة السيتي في عدد غير قليل من المباريات. رحيم لم يعد ذلك اللاعب الذي يراوغ في طرف الملعب بدون تفكير، ويصوب برعونة واستهتار أمام المرمى، ويحصل على إنذارات مجانية، بل بات في أفضل حالاته على مستوى التركيز والجماعية، ويفكر فقط في التغول نحو مرمى الخصوم وتدمير حصونهم الدفاعية، وهو ما تعكسه إحصائياته الرائعة.

وصلت دقة تصويبات ستيرلينج لـ53%، ولم يهدر سوى خمس فرص محققة التهديف خلال الموسم بعد أن كان يهدر أكثر من ضعف هذا الرقم، كما أنه أكثر من صنع أهدافًا لفريقه بـ رصيد 9 أهداف بالإضافة لـ12 فرصة محققة لم يسجلها رفاقه، وأيضًا تضاعفت مراوغاته الصحيحة عن الموسم السابق.

كل ذلك يشير لحالة النضج التي يعيشها على المستويين الفني والمعنوي. ستيرلينج لم يعد خائفًا من الفشل، وقد تعلم أن يواجه التشكيك بمزيد من الجهد والإنتاجية داخل الملعب، حتى في مواجهته للعنصرية أصبح رحيم أكثر شجاعة وقوة وثقة. الأرجح أنه استوعب جيدًا الدرس في رواية جوارديولا.