لأول مرة يرتفع عدد المنتخبات المشاركة من 16 إلى 24، ولأول مرة أيضًا تُقام البطولة في فصل الصيف، بعد أن كانت تُقام في شتاء منتصف الموسم. كل هذا على أمل دفع المنتخبات الصغيرة نحو التطور، وزيادة المنافسة مستقبلاً، رغم أن التجربة المماثلة في كأس أمم أوروبا السابقة – بعد زيادة عدد المشاركين – لا تنبئ بنتيجة مبشرة.

هذه هي كأس الأمم الأفريقية في شكلها الجديد، وسواء لُعبت بـ 16 منتخبًا أو 24، فإنها تمتلك خصوصية مختلفة. فبعد متابعتك للدوريات الأوروبية ودوري أبطال أوروبا فستكتشف أنك تشاهد نجومًا من ذوي البشرة السمراء في كل مراكز الملعب تقريبًا باستثناء حراسة المرمى. لذا تمتلك كأس الأمم الأفريقية خصوصيتها، بتقديم أكبر وأشهر تجمع لحراس المرمى أصحاب البشرة السمراء، لعل أحدًا يرى فيهم الموهبة كما يرون في باقي المراكز.

الآن بعد أن تنبهت لهذه الملحوظة، وحاولت العودة بالذاكرة لتذكر حراس مرمى فريقك المفضل أو منافسيه لتجد بينهم حارسًا أسمر، وفشلت في إيجاد أحدهم، سنحاول البحث عن حقيقة الأمر، وسنبدأ من الاسم الذي كان من المفترض أن تتذكره؛ حارس مرمى أياكس «أندريه أونانا».

عنصرية فنية

الحارس الكاميروني البالغ من العمر 23 عامًا، بدأ مسيرته في أكاديمية صامويل إيتو بمدينة «دوالا»، ومنها إلى نادي برشلونة، ثم انتقل في عام 2015 إلى نادي أياكس، ليبدأ في حجز مكانه في التشكيل الأساسي للفريق في العام الذي يليه. اليوم، «أونانا» هو أحد الأعمدة الرئيسية للفريق الأكثر إبهارًا لأوروبا في موسم 2018/2019، أو كما أسماهم الموقع الرسمي للنادي الهولندي «the class of 2019».

في تصريحاته لشبكة الإذاعة البريطانية «BBC»، ألمح «أندريه» إلى ما يعانيه حراس المرمى ذوي البشرة السمراء، حيث قال:

لا أرى فارقًا بين حارس مرمى أبيض وأسود، الجميع يرتكب الأخطاء. لكننا تحديدًا علينا التحضير جيدًا لأن الأمر ليس سهلاً علينا. لا يوجد الكثير من الحراس السود في المستوى الأعلى للمنافسة؛ لأن الجميع يظن أنهم فاقدو الثقة وكثيرو الأخطاء، لكن علينا تغيير هذا المعتقد.
أونانا حارس أياكس أمستردام

كان حارس منتخب الكاميرون يمني نفسه بوصول فريقه إلى نهائي دوري أبطال أوروبا ليصبح أول حارس مرمى أسمر يشارك بالنهائي منذ حارس ميلان، البرازيلي «نيلسون ديدا» في 2007، لكن مواطن الأخير لوكاس مورا أفسد الأمر. المهم أننا أمسكنا طرف الخيط، فالعنصرية هذه المرة يتغلفها رأي فني تتوارثه الأجيال حتى تحول إلى واقع، لا يلحظه أو يشتكي منه أحد، لأنه قد يكون مقنعًا للكثيرين.

عدم ثقة

على موقع «Quora» المخصص لتبادل الأسئلة والإجابات بين رواده، طرح أحد رواد الموقع «إرنستو جازولا» إجابته التي قد تقربنا من التفسير قليلاً، حيث أوضح «إرنستو» أن تعلم كرة القدم في أفريقيا وأمريكا الجنوبية يبدأ من الشارع. وكما تعلم عزيزي القارئ فإن قانون الشارع ينص على وقوف الأقل مهارة في المرمى، وقد يصل أحيانًا إلى تنمر بصبغة طفولية عندما لا يجد الأكثر بدانة وسيلة لمشاركة زملائه اللعب سوى بالوقوف حارسًا للمرمى.

الكل يريد أن يهاجم ويركض إلى الأمام، لأن النجوم الذين تعلق بهم في صغره لم يكن من بينهم حارس للمرمى. أوضح إرنستو أنهم في الأرجنتين يصفون مركز حراسة المرمى بمركز الأحمق «goalie is the fool’s position». سيزداد الأمر سوءًا عندما تعلم أن منتخب البرازيل لم يستعن في كؤوس العالم طوال 64 عامًا بحارس أساسي أسمر سوى «ديدا» في 2006، و«مواكير باربوسا»، الذي حمّله البرازيليون خسارة كأس العالم 1950، وجعلهم ينفرون من الحراس السود.

نيلسون ديدا يمينًا، وباربوسا يسارًأ
نيلسون ديدا يمينًا، وباربوسا يسارًأ

ومن أمريكا الجنوبية إلى القارة السمراء، حيث تم حصر اللاعبين في مواصفات القوة البدنية والسرعة، وأيضًا بعض المهارة التي تم حصرها هي الأخرى في المراوغة والتسديد. أما ما يتعلق بالذكاء والتحكم في إيقاع اللعب ومهارات القيادة فالأمر مختلف تمامًا. لفت كتاب «The Secret Footballer: Access All Areas» الأنظار إلى هذه الفكرة، واعتبرها متحكمة في بناء الكثير من الأندية.

يعرض الكتاب نظرية تفيد بعدم ثقة المدربين في اللاعبين السود في بعض المهمات، وعلى رأسها التحكم بالإيقاع «Tempo Control». واستدل بذلك على ذكر العديد من تشكيلات وسط الميدان في العديد من الأندية، لتجد أنها تخلو من أصحاب العقول كبيرلو وألونسو وكروس على سبيل المثال. وإذا تواجد عنصر أسمر، فإنه بالتأكيد يؤدي دور العضلات لا العقل. وبنفس العقلية، أصبحت الأماكن الأكثر حساسية كخط الدفاع وحراسة المرمى خطًا أحمر.

لأن هذه المراكز تتطلب تركيزًا أكبر، وفقدان التحكم بها يختلف تمامًا عن فقدان التحكم لدى المهاجم أو الجناح. ومهما حاول المدربون إنكار هذا الانطباع تجنبًا لاتهامات العنصرية، فإن واقع اختياراتهم للاعبين سيفضح أمرهم. وليس أمام «أندريه أونانا» سوى مواصلة الطريق، واتباع أسلافه لمحاولة تغيير الواقع.

رأي فني مختلف

أبرز أسلاف «أونانا» هو الحارس الأسطوري «أنطوان بيل»، الذي لعب لأندية يونين ديوالا الكاميروني والذي حقق معه لقب بطولة أفريقيا للأندية الأبطال، ثم انطلق في تجربة احترافية ناجحة خارج أسوار القارة في أندية: مارسيليا، وبوردو، وتولون. ولعل الجماهير المصرية تتذكره جيدًا لأنه ساهم بقوة في صناعة الجيل الذهبي لنادي «المقاولون العرب» في الثمانينيات، وقادهم للظفر بلقب الدوري الأول والوحيد في تاريخهم في موسم 1982/1983.

ما حققه «بيل» في مصر جعل فكرة التعاقد مع الحراس أصحاب البشرة السمراء أكثر جاذبية. وظلت الأندية تجرب حظها، دون أن تعثر على «أنطوان بيل» جديد. حتى وصلنا إلى عام 2009، حين أعلن الاتحاد المصري لكرة القدم برئاسة «سمير زاهر» قراره بمنع الأندية المحلية من التعاقد مع حراس مرمى أجانب.

ليصبح الأمر أكثر إرباكًا، لأننا لتونا كنا نحاول تفنيد أسباب عدم الثقة في الحراس السود، وإذا بأحدهم يرى أنهم جديرون بالثقة أو «Over qualified» لدرجة مكنتهم من حرمان الحراس المصريين من فرصة المشاركة والتطور. ناهيك عن أن تجربة مصر الأولى والأخيرة في تجنيس اللاعبين كانت مع الحارس اليوناني الأصل «براسكوس»، والذي شارك أساسيًا في تتويج المنتخب المصري بأول بطولة لكأس الأمم الأفريقية عام 1957، بعد أن حصل على الجنسية المصرية قبلها بثلاثة أعوام.

وبعيدًا عن براسكوس وأنطوان بيل، فإن المنتخب المصري وبعد 10 أعوام من تطبيق هذا القرار، ما زال يعاني من ندرة المواهب في هذا المركز عقب انتهاء حقبة أفضل حراس مصر عبر تاريخها «عصام الحضري»، وبات الاختيار مجرد مفاضلة بين أفضل السيئين وفقًا للمزاج العام لجهاز المنتخب.

ودون الخوض في جدوى قرارات إدارة الكرة المصرية، فموقف الحراس السود لم يتغير. قد تكون الأسباب الفنية المذكورة مقنعة بعض الشيء، لكنها جعلت الجميع يلجأ دائمًا إلى الاختيار السهل ويتجنب هؤلاء الحراس من البداية لأن الانطباع الأول يدوم طويلاً أكثر مما يجب. وحتى يتمكن أحدهم من تغييره، سيبقى الوضع كما هو عليه، مجرد عنصرية فنية اعتاد عليها الجميع.