من المعروف أن القانون الوضعي قد حل محل الشريعة في مصر مع تأسيس المحاكم الأهلية سنة 1883، وصدور قانون العقوبات الذي شهد إلغاء العقوبات الجسدية، كالقطع والجلد، واستبدال السجن والأشغال والنفي والحرمان من بعض الحقوق بها، والإبقاء على القتل لكن مع تحويله من قصاص إلى عقوبة قانونية. يتم اعتماد هذا الحدث كبداية للتأريخ للقانون والقضاء في مصر كما نرى في دراسة أحمد فتحي زغلول الشهيرة بعنوان «المحاماة»، ووفقًا لهذا التأريخ انطرحت الدراسات الأساسية حول وضع الشريعة والقانون في مصر الحديثة، ومن بينها دراسة طلال أسد الشهيرة عن العلمانية والقانون في مصر، التي أرخت للمنظومة القانونية لمصر في العصر الحديث كمسيرة مستمرة من تهميش الشريعة.

في كتابه «السعي للعدالة» يحاول خالد فهمي أن يطرح وجهًا آخر للسردية من خلال العودة للمنظومة القانونية والقضائية في مصر قبل نشأة المحاكم الأهلية، وهي المنظومة التي اعتمدت على علاقة مركبة بين المحاكم الشرعية وما يدعى بـ «مجالس السياسة» التي استخدمت السجن كعقوبة، وأدخلت فكرة حق المجتمع، أو ضبطه من منظور فلسفة ميشيل فوكو السياسية، في قضايا القتل إلى جانب فكرة القصاص، وتعاملت مع الأدلة الظرفية والطب الجنائي والشبهات والوثائق التي استبعدتها المحاكم الشرعية من عملها وفقًا للمنظومة الفقهية الموروثة في تلك المساحة.

ما يؤكده فهمي هنا هو أن مجالس السياسة لم تكن بدعة اخترعها محمد علي والدولة الخديوية تحت التأثير المنفرد للحداثة الغربية، وإنما تقليد موروث عُمل به في الحقبة المملوكية، وظهر التنظير له مع ابن تيمية في كتابه «السياسة الشرعية» وتلميذه ابن القيم في «الطرق الحكمية». يقوم هذا التقليد على إعطاء مساحة لـ «السياسة» بجانب الشريعة، والمقصود هنا بالسياسة ليس الصراع على السلطة وطرق الحكم وما يتعلق بالإدارة العامة والعلاقات الخارجية، وإنما يقصد بها هنا الأحكام القضائية الصادرة بدافع سياسة الرعية لا بدافع الحكم الشرعي. وقد ورد المصطلح بهذا المعنى قبل ابن تيمية وابن القيم في الواقع، كما نرى في نص الأحناف على جواز «القتل سياسة» لا حدًّا فقط، أي جواز أن تصل صلاحية الحاكم في العقوبة إلى القتل في جرائم لم يرد النص على القتل فيها وفقًا للفقه الحنفي. يذهب فهمي وفق ذلك إلى أن مجالس السياسة لم تهمش الشريعة، وإنما كانت محاولة للحفاظ على مرجعية الشريعة وإعمالها وتوسيع صلاحيتها.

في الواقع، يحمل التحديث العلوي دومًا في طياته كلا الوجهين. فهو التحديث السلطوي المتعسف أحيانًا، لكنه أيضًا الضروري والحيوي جدًّا في تحسين أوضاع المجتمع المصري التعليمية والصحية والمعيشية والإدارية مقارنة بما كانت عليه في الحقبة المملوكية/العثمانية التي استمرت بين القرنين الثالث عشر والتاسع عشر. كذلك كان هذا التحديث مدفوعًا بالأثر الحاسم للحملة الفرنسية، الذي لم يكن خاصًّا بمصر كبلد شرقي متخلف، بل كان أثرًا تنويريًّا بالنسبة لأوروبا نفسها التي أعادت تشكيل نفسها على خلفية تلك الثورة، بما في ذلك جار فرنسا اللدود والكبير، ألمانيا. لكن ذلك الأثر الحاسم للحملة الفرنسية لا ينفي الدور المحوري الذي لعبته عوامل محلية وتراثية في عملية التحديث. لذلك فمع أهمية ما رصده فهمي عن الجذور التراثية لمنظومة مجالس السياسة، فإن أثر التجربة القانونية والقضائية الأوروبية يبدو واضحًا في الاندفاع نحو تطوير مجالس السياسة وتوسيع نفوذها.

غير أن ما رصده فهمي يمكن أن يفيدنا ليس فقط في تأريخ المنظومة الشريعية، وإنما أيضًا في إعادة النظر في نظرية الشريعة. يذكرنا هذا المفهوم لـ «السياسة» مباشرة بمفهوم التعزير الفقهي الذي يعني كذلك العقوبات التي يوقعها الحاكم «سياسة» على جرائم لم يُشرَّع لها حد. ويلفت هنا إلى أن جمهور الفقهاء رأوا أن التعزير لا يجب شرعًا، وإنما يرجع إلى رؤية الحاكم، مما يدل على عمق البعد الاجتماعي والسياسي في المفهوم مقارنة بالبعد الشريعي.

إن النظر في الحدود الفقهية، الزنا والسرقة والخمر والقذف، وفقه إعمالها يلفت إلى الطبيعة التطهيرية لتلك الأحكام، فهي لا تتوخى الضبط الاجتماعي، ربما باستثناء عقوبة القذف التي نعلم سياق تنزيلها؛ إذ إنها منظومة تحاول أن تحد من سلطان نفسها عبر الدرء بالشبهات المحتملة. تقصد الحدود خلاف ذلك إلى التطهير الروحي للإنسان أو الكفارة، لذلك فإنها تترك خاتمًا جسديًّا لصاحبها وطابعًا مشهديًّا في عنفها يذكر بحديث فالتر بنيامين عن العنف الإلهي المحطم للقانون، فهو عنف لا يهدد بل يضرب، لا يعاقب بل يكفر.

لقد ذهب عدد من الباحثين في موضوع العلمانية والإسلام إلى أن انطواء الإسلام على منظومة شريعية قد حال دون تطور العلمانية في السياق الإسلامي، لكن تأمل موقع مفهوم التعزير في نسق الشريعة يكشف انفتاح النسق، بمعنى أن نسق الشريعة لم يكن نسقًا محسومًا أو مكتملًا بوصفه مرجعية قانونية للمجتمع، بل كان نسقًا يحتاج إلى تأسيس بشري من جديد، وهي الخاصية التي كشف عنها مفهوم التعزير. لا تحقق الشريعة كحدود أهداف القانون في المجتمع من ناحية الضبط والتنظيم والعقاب، بل هي منظومة دينية بالأساس تسعى إلى أن تكون كفارة للمؤمنين، ليس عن جرائم بالمفهوم الاجتماعي، وإنما عن خطايا بالمفهوم الديني.

يخبرنا خالد فهمي عبر دراسته الأخيرة أن إعادة دراسة التجربة القضائية والقانونية في المجتمعات العربية والإسلامية كفيل بأن يطرح تصورات جديدة كليًّا عن مفهوم تطبيق الشريعة الذي تحول على مدى أكثر من نصف قرن إلى محور صراع اجتماعي وسياسي في المجتمعات العربية دون أن يكون لدى الأطراف التي تطالب به تصورًا فعليًّا له ولا لحجمه في المنظومة الدينية نفسها، فضلًا عن المنظومات القانونية للمجتمعات اليوم أو حتى للمجتمعات عبر التاريخ، وربما يكون ذلك السبب في تأزم التجارب الحديثة التي حاولت أن تصيغ من الحدود قانون عقوبات ناجزًا ومتكاملًا؛ لأن الدراسة التاريخية تقول ببساطة إن الحدود لم تكن يومًا جوهر قانون العقوبات في المجتمعات العربية والإسلامية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.