بعد سقوط نظام البشير خرج إلى السطح الجدل التاريخي المتجدد منذ ستينيات القرن الماضي في السودان: هل يجب أن يكون الدستور السوداني إسلاميًا أم علمانيًا؟ تفاوتت المواقف وتوسطها مقترح «الدولة غير المنحازة» الذي تم تبنيه من قبل الحكومة السودانية، أو بعض مكوناتها، في مفاوضات السلام الحالية.

على الطرف الآخر من طاولة المفاوضات تمسّكت الحركة الشعبية لتحرير السودان–شمال (الحركة الشعبية) بفكرة الدستور العلماني للدولة السودانية، وأعلنت مجموعات مختلفة موقفها الداعم أو المتمسك بإسلامية الدستور السوداني.

هنا سأحاول أن أموضع سؤال علمانية الدولة السودانية في سياقه السوداني، بعيداً عن الجدال الاصطلاحي. فتناول إسلامية أو علمانية الدستور السوداني دون تناول البواعث المستدعية لسؤال العلمانية في السودان لن يتعدى كونه نقاشًا نخبويًا لا يعني السودانيين، ولا يسهم في بناء الدولة أو في تجاوز جذور الأزمة –كما يسمونها.

في هذا النص سأستند إلى عدد من المصادر المرتبطة بجدال الإسلامية/علمانية في السياق السوداني، لكن سألتزم بمفهوم العلمانية كما طرحته الحركة الشعبية لتحرير السودان–شمال (الحركة الشعبية) باعتبارها الطرف الأشد تمسكاً بعلمانية الدستور السوداني، لدرجة قد تجعل من طرحها متناقضاً مع مفهوم العلمانية ذاته –كما أشار البعض- «علمانية الدستور أو دولة سودانية أخرى بعد تقرير المصير»، وباعتبار أن مفاوضات السلام مع الحركة الشعبية أكبر مستدعٍ لنقاش علمانية الدستور السوداني في الوقت الراهن.

يشير كتيب «المبادئ فوق الدستورية» –الصادر عن الحركة الشعبية- بوضوح إلى أن العلمانية المطلوبة هي علمانية ذات موقف محايد من الدين، أي أنها لا تتعدى على الدين أو تمنع مظاهره ولا تعاديه، وهذا يعني أن نستبعد من مخيلاتنا النموذج الفرنسي، والذي يمثل أحد أكثر النماذج العلمانية تطرفاً في موقفه من الدين، أياً كان. (1) وهذا الطرح «العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة وكون الدولة محايدة تجاه مختلف الأديان ولا تتعدى عليها أو تعاديها، ولا تمنع شعائرها أو مظاهرها» هو معنى يتسق مع مفهوم العلمانية في النقاشات السياسية السودانية تاريخياً. لذلك لا معنى من أن يُحمِّل السودانيون مصطلح العلمانية -في سياقنا- حمولة معادية للدين، فالحركة الشعبية تنفي ذلك صراحةً.

وفق طرح الحركة الشعبية لتحرير السودان، نجد أن الدافع الرئيس وراء هذه المطالبة، أي المطالبة بعلمانية الدستور السوداني، هو تحقيق مواطنة متساوية لجميع السودانيين دون تمييز بحيث تقف الدولة السودانية على مسافة متساوية من جميع المواطنين، فلا يُمنع مواطن من تأدية شعائر دينه، أو يُقاضى بناءً على معتقده أو يُحرَم من حق من حقوق المواطنة بناءً على ديانته. وهنا أشير إلى مواقف إسلامية لبعض المتبنين لفكرة إسلامية الدستور تٌجرّم الإنسان بناءً على موقفه من الدين.  كذلك قد تتبنى، مواقف بعض المتبنيين لفكرة إسلامية الدستور، منع ترشح المواطن غير المسلم لرئاسة الدولة، كما نُقل عن الدكتور «حسن الترابي» -رحمه الله- في حواره مع الأستاذ «فيلب غبوش» الذي سأل عن إمكانية ترشح غير المسلم لرئاسة الدولة السودانية، فأجاب الترابي: «لا، يا سيدي». (2)

وقد تفرض الدولة ذات الدستور الإسلامي على بعض المؤسسات التعليمية المسيحية أن تعمل يوم الأحد أو تُدِّرس مُقررات علمية تتضمن تأصيلًا إسلاميًا كما حدث هذا في عهد البشير. وكل هذه ممارسات تتناقض مع المواطنة المتساوية، وتسلب الأقليات حقوقهم بصورة قانونية (أحياناً)، في تناقض صريح مع مبدأ المواطنة المتساوية.

وهنا نشير إلى أن المواطنة غير المتساوية بجانب التنمية غير المتوازنة هما عاملان أساسيان للحروب في السودان، على الأقل وفق السردية المقدمة من قبل الحركات السودانية المسلحة الخارجة على الدولة في الفترات التاريخية الممتدة منذ الاستقلال. من العدالة أن أشير هنا إلى أن دعاة الدولة الإسلامية يتفاوتون في طرح تعريفهم للدستور الإسلامي والممارسات المستندة عليه، لكن نحتاج لبعض الإجابات:

كيف سيتم حفظ حقوق الأقليات في حال تم طرح دستور بمرجعية إسلامي؟ وكيف سنحقق مواطنة متساوية؟ ومن سيتحدث باسم الإسلام كمرجع ديني؟

ومن هنا يمكن أن نعتبر أن جذور سؤال العلمانية/إسلامية أو الإسلامية/علمانية ترتبط بالعدالة والمواطنة المتساوية، وتاريخ معارضة الحركات المسلحة في جنوب السودان يدل على ذلك. فتمرد الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الدكتور «جون قرنق» على حكومة «جعفر النميري» كان بسبب نقض الحكومة لاتفاقية أديس أبابا عندما أعلنت قوانين الشريعة الإسلامية (قوانين سبتمبر/ أيلول 1983). واتفاق «الميرغني-قرنق» عام 1988 تضمن تعطيلاً لقوانين سبتمبر نتيجة لرفض الحركة الشعبية لتحرير السودان، في ذلك الوقت، لإسلامية الدستور أو القوانين. (3)

وكذلك نجد أن اتفاق السلام الشامل، بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية، قد تضمن قدرًا من الفصل بين الدين والدولة خصوصاً في إقليم جنوب السودان مع إقرار بالحرية الدينية وتعدد الأديان. ولا يمكن أن نفصل الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال من تاريخ المعارضة بجنوب السودان، فالحركة الشعبية–شمال هي امتداد للحركة الشعبية بقيادة الدكتور «جون قرنق»، وقوانين سبتمبر 1983 كانت أحد الأسباب الرئيسية لبداية الحركة الشعبية بقيادة الدكتور «جون قرنق».

المواطنة المتساوية أحد ركنين أساسيين لتحقيق عملية السلام في السودان. فالركن الأول هو التنمية والركن الثاني المواطنة المتساوية. فالسلام الغائب عبر تاريخ السودان –بعد الاستعمار- مرتبط بالتهميش سواء أكان عبر المواطنة غير المتساوية أو غياب التنمية المتوازنة، وهو ما تتبناه أغلب الحركات المسلحة. وأقترح هنا أن يتموضع سؤال علمانية/إسلامية الدستور في هذا السياق لا أن تُطرّح كمعركة أو جدال أيديولوجي بين إسلاميين وعلمانيين.

لتجاوز مسألة المواطنة غير المتساوية، يجب أن ننظر لفكرة العلمانية في السياق السوداني، لا السياق الفرنسي -مثلاً- ونستحضر أن العلمانية هنا مطلب لأجل السلام، لا يعادي الدين أو غير ذي موقف من الدين أو من تدين المجتمع، لكن هو مدخل لتحقيق المواطنة المتساوية. فعلمانية الدستور لا تعني مشروع علمنة للمجتمع بقدر ما هي اتفاق على أن المرجعية في التشريع هم ممثلي الشعب (الشعب)، وأن حقوق المواطنة محفوظة لكل المجموعات مهما كان حجمها أو اختلافها عن الأغلبية.

العلمانية بهذا المعنى هي أداة للسلام وللحفاظ على وحدة الدولة السودانية لأنها الصيغة الأكثر قدرة على تحقيق المواطنة المتساوية على المستوى الدستوري. وهنا أظن أن الصراع الفكري حول موضع الدين في الفضاء العام يمكن أن يتحول لحركات المجتمع، وأن ارتباط القوانين بتدين الشعب، وتقاليده، وثقافته يجب أن يتحول للمستوى التشريعي القانوني وليس الدستوري، بحيث يعبر ممثلو الشعب عن الشعب، وثقافته ومرجعياته، ويظل باب التشريع والقانون مفتوحاً ومُعبراً عن الناس.

كما يمكن أن تتمايز القوانين الإقليمية بحيث يمكن للأغلبية في مناطق جبال النوبة أن تسن بعض القوانين المختلفة عن القوانين الموجودة في مناطق البحر الأحمر، وأن تحدد صلاحيات تشريعية وتنفيذية اتحادية وأخرى إقليمية مع حماية حقوق الأقليات والحفاظ على المواطنة المتساوية، كمبادئ أساسية من مبادئ الدستور، باعتبارها بعض الحل لأسباب الحروب المتتابعة في السودان.

قد اتفق مع ضرورة البعد عن جدل المصطلحات لنحدد مبادئ أكثر دقة ونتفق على آليات تحقيقها، بحيث نتجاوز صدام العلمانية/إسلامية، لنتحول نحو مبادئ تحل مشكلاتنا دون حمولات تاريخية. فالمبدأ الأول هو العدالة لتحقيق السلام.

المواطنة المتساوية، والتنمية المتوازنة مبادئ تُحقِّق العدالة، وكل ما يتعارض معهما يجب أن يُرَد باعتباره يتناقض مع مبادئ أساسية للدولة السودانية -باعتبار ما سيكون- بما في ذلك المرجعيات الدستورية التي قد تتناقض مع هذه المبادئ. ثم تأتي آليات الحوكمة المتضمنة للفيدرالية والحوكمة المحلية باعتبارها مؤسسات ستخلق دولة ومؤسسات أكثر تضمينية (أو أكثر شمولاً) – إن صحت ترجمة Inclusive- تسهم في خلق دولة لا تنفصل عن الإنسان السوداني، ولا تتمركز في العاصمة أو تصنع قراراتها في دوائر النخب بعيداً عن المواطن السوداني في مختلف الأقاليم السودانية، فالمؤسسات/الدولة التضمينية إحدى الأدوات الممكنة للإسهام في التنمية المتوازنة والمواطنة المتساوية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. متوكل سلامات وإدريس شالو، “المبادئ فوق الدستورية”، الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال SPLM-N، سكرتارية التدريب والبحوث والتخطيط، 2020.
  2. محمد محمد الأمين عبد الرازق، “جنوب السودان والطريق إلى الوحدة المستدامة”، القاهرة، مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات، 2015.
  3. صالح القاسم، “النظام السياسي ومشكلة الجنوب في السودان: في الفترة من (1969 إلى 1989)”، عمان، دار جليس الزمان للنشر والتوزيع، 2011.