في كتابه «في الثورة والقابلية للثورة»، يطرح المفكر العربي عزمي بشارة الثورة بوصفها مفهومًا حديثًا بدأ مع الثورة الفرنسية، وأن ما شهده التاريخ قبل ذلك ليس واقعًا ضمن هذا المفهوم. وقد بذل بشارة فى كتابه جهدًا لتحديد مفهوم الثورة نفسه، وبنى المفهوم بمقارباته للفظة وألفاظ أخرى تستخدم في نفس السياق، وطرح إشكالية تفسير لفظة الثورة ووضع حدود لمفهومها.

يقول بشارة (ص42):

يمكن القول إن عنصري الجدة والراديكالية في الثورة وعدم قبولها وجود سلطة متجاوزة فوق الدولة والمجتمع تبرر النظام السياسي القائم
ذلك كله شأن علماني حديث. حتى لو أعيد صوغه صوغًا دينيًا.

محل البحث هنا ليس هو تحديد عنصري الجدة والراديكالية كسمات للثورة، لكن فى تحديد أن الثورة «شأن علماني حديث»/ فبهذه العبارة وبما بعدها يبدو أن الثورة ظاهرة اجتماعية حداثية لا يمكن أن تطلق على أي شكل من أشكال الحركة التاريخية قبل ذلك. حيث يواصل بشارة:

يبدو، من الوهلة الأولى، أن هذا الجزم يعني أن الثورة الدينية لم تكن ثورات. والحقيقة أنه يعني أن التمردات التاريخية ما قبل الحداثية لم تكن ثورات كما نفهم الثورة منذ الثورة الفرنسية فصاعدًا.

هذا الطرح تحديدًا هو محل السؤال، هل طبقًا لمعايير بشارة نفسه لتأطير مفهوم الثورة من حيثية «الجدة وتحطيم قداسة النظم وإحداث تغيير اجتماعي وسياسي كلي»، لا توجد ثورات ما قبل الثورة الفرنسية؟ ما ندعيه هنا ضد ذلك، أن القرنين الأول والثاني من التاريخ الإسلامي كانا مكدّسين بأحداث هي ثورات وفقًا لهذا المفهوم نفسه الذي يصوغه بشارة.


علمانية الثورة

يقصد بشارة بعلمانية الثورة هنا تحديدًا علمانية الدولة ونظام الحكم، أي عدم تمتعه بأي صفة دينية أو قداسة تحفظ له البقاء، «فالثورة تتضمن رفض التسليم بوجود مبررات ثابتة للنظام القائم، ولا تقبل الثورة الحديثة نظامًا هرميًا معطى كشأن مقدس … فالثورة الحديثة شأن علماني حتى إذا كانت دينية، لأن الدينية هنا تفرض عملية علمنة سابقة عليها، أولًا، لأنها تأتي بعد أن نزعت القداسة عن النظام السياسي الاجتماعي القائم مما يجيز الثورة عليه» (ص43).

في القرن الأول لقيام الدولة الإسلامية، كانت هناك محاولات كثيرة للخروج على نظام الحكم وتغييره والطعن فى شرعيته، من بينها حركات الخوراج والشيعة وغيرهما، فلم تفترض هذه الحركات قداسة للنظام أصلاً، ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عما أقر أو لم يقر من أحكام حول هذه الحركات، لكنا بصدد رصد واقع تاريخي بعينه، بكل ما له وما عليه، أو ما سيلقى عليه بعد ذلك، فحركات كهذه قامت لإزاحة نظام الحكم والطعن في شرعيته وأحقية الخليفة به.

ومن بين هذه الثورات ثلاث ثقيلة، يكمن ثقلها من ثقل من شاركوا فيها وثقل شرعيتها فى نفوس أبناء الأمة بعد ذلك، وهي: ثورة الحسين، ثورة المدينة (موقعة الحرة) وثورة عبد الله بن الزبير.

فبدراسة أسباب ومطالبات هذه الثورات، نجد أن نظام الحكم لم يكن ليجد لنفسه موضع شبر من قداسة في نفوس المسلمين آنذاك، وليس كما سيتطور الوضع في فكر المسلمين وفقههم بعد ذلك.


الموجة الثورية الأولى: الحسينية

كان شرط الصلح بين معاوية والحسن – رضى الله عنه – أن تكون الخلافة لمعاوية ثم للحسن من بعده، فلما مات الحسن أخذ معاوية لولده يزيد البيعة في حياته، فرفض الحسين بن علي – رضي الله عنه – وجماعة من الصحابة هم: ابن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وابن عمر، وابن عباس هذه البيعة؛ لما رأوا من عدم جوازها. وعندما مات معاوية وحاول يزيد أخذ البيعة منهم، بايع ابن عمر وابن عباس، أما الحسين وابن الزبير – رضي الله عنهما – فرفضا المبايعة وخرجا من بطش عمال يزيد بالمدينة إلى مكة.

يروي ابن كثير كيف اجتمع الناس على الحسين بمكة، ثم كيف ردّ ابن الزبير هجمات عمال يزيد على مكة حتى صارت لهما المنعة بها، وأتت وفود الكوفة للحسين تعلمه باستعدادهم خلع بيعة يزيد والبيعة للحسين على أن يقدم إليهم. وبالفعل، لما أرسل الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل ليمهد له الأمر بالكوفة، بايعه أكثر من 18 ألفًا من أهلها، وسار الحسين إلى الكوفة، وكان ما كان من أمر تخاذل أهل الكوفة عنه وقتله والفتك بمن معه.

وخروج الحسين – رضي الله عنه – لم يكن لدعوة دينية، بل كان في ذاته منعًا لنظام الحكم أن يتخذ شكلا من القداسة. وصحيح أن الثورة الحديثة بمفهوم بشارة تتطلب هدمًا لنظام سابق، لكن النظام هنا لم يكن بُني حتى يهدم، بل كانت تلك محاولات لمنع بنائه وتقديسه.


الموجة الثورية الثانية: ثورة المدينة

تلت ذلك موقعة الحرة التي خرج فيها أهل المدينة على يزيد وخلعوا بيعته وحاصروا الأمويين في المدينة وطردوهم وجرّدوهم من سلطاتهم، قبل أن يقمع جيش يزيد ثورتهم بصورة دامية. كان هذا الخروج أيضًا يحمل في جنباته معنيين: عدم الاعتراف بشرعية الحكم القائم أصلاً، وعدم الاعتراف بأي قداسة له.

في مراحل تالية، سنجد فقهاء يتحدثون عن عدم جواز الخروج على ولي الأمر باعتباره صاحب سلطة شرعية ودينية، لكن وحتى هذا العهد، كان يزيد المنعقدة له البيعة ببقية أقطار العلام الإسلامى بالنسبة لأهل المدينة الذين وصلتهم الأنباء عن فسوقه وشربه للخمر يرون أن من حقهم أن يخلعوا ولي الأمر طعنًا فى شرعية بيعته وشرعية بقائه ما دام قد تعدّى على المعيار الأعلى: الشريعة.

وسنجد أن خلافة عبد الله بن الزبير ستستمر بعد ذلك 9 سنوات في امتداد للثورتين السابقتين لنفس السبب، لتقام للمرة الأولى خلافتان في دولة الإسلام، ويظل موقف عبد الله بن الزبير من رفض حكم بني أمية واحداً مع تعاقب 3 خلفاء لهم، حتى يقتل على يد الحجاج بن يوسف الثقفي، عامل عبد الملك بن مروان.

إن هذه الثورات التي شغلت سنوات حرجة من تاريخ الدولة الإسلامية يجمعها عامل رئيس، وهو عدم اعتبار قداسة للحكم، بل ومحاولة التصدي لتكوّن هذه القداسة. فحتى من قبلوا بخلافة يزيد من الصحابة، أشاروا إلى أنهم إنما قبلوها حقنًا للدماء، وبالتالي فعنصر تحرر الثورة من قداسة النظام الحاكم متوفر في العقل الجمعي المسلم أول تكوّنه.

يجمع تلك الثورات، الانقلاب على حكم بني أمية والرغبة فى التخلص منه وبالتالي إحداث تغيير شامل في نظام الحكم، بل والتخلص من البنى الاجتماعية التي أنتجها حكم بني أمية. فبخلاف الثورة العباسية بعد ذلك، وهي التي ستكون محض تغيير في العصبية القائم عليها نظام الحكم، فإن ثورات القرن الأول كانت تهدف إلى نزع مبدأ العصبية من الحكم أصلاً، وليس نزع عصبية بني أمية فقط، وتهدف إلى إعادة الشورى عاملًا أساسيًا في اختيار الخليفة؛ وليس الوراثة.

ونحن لم نتطرق هنا للحديث عن ثورات الخوارج والشيعة التي ملأت سنوات القرن الأول الهجري، لوجود شائبة الصراع المذهبي، لكن هذه الثورات المذكورة قد حققت عنصري «نزع القداسة عن نظام الحكم والبنى الاجتماعية، والجدة وطلب تقاطع جديد مع مسار التاريخ».

المراجع
  1. بشارة،عزمى."فى الثورة والقابلية للثورة".الدوحة:المركز العربى للدراسات والنشر، الطبعة الثانية،2014