إذا همَّ شخص ما في أي تجمع ثقافي بذكر مصطلح الأدب السياسي؛ نجد أن من حوله يتسابقون في ذكر اسم رائعة «جورج أورويل»، رواية «1984»، والتي ظلت منذ كتابتها في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي وحتى الآن، أيقونة مميزة لهذا النوع من الأدب. ويكاد يجزم الكثيرون أنها ستظل متربعة على عرش روايات الأدب السياسي إلى أن تفنى الخليقة.

وإذا ذكرنا اسم الأديب البرتغالي «جوزيه سارماجو» نجد أذهاننا تتجه تلقائيًا إلى روايتيه الشهيرتين: «العمى»، و«الكهف»، وننسى أو نتناسى رائعته الأخرى التي لم تنل حظها من الشهرة التي نالتها هاتان الروايتان، رواية «البصيرة».

وعلى عكس ديستوبيا أورويل في «1984»، نجد أن ساراماجو في روايته «البصيرة» يتحدث عن سياسة القمع بأسلوب مخالف تمامًا لأسلوب أورويل؛ فنرى سخريته اللاذعة التي تفضح ديمقراطية هذه الأنظمة الديكتاتورية التي تستهدف الفوز تحت أي ظرف من الظروف وإن استخدمت كل الأساليب الملتوية لتحصل عليه.

قال الكلب علينا أن نعوي.

ثيمة أخرى من الثيمات المميزة لنصوص ساراماجو هي هذه المقولات الفلسفية التي يستهل بها أعماله، فعند انتهاء القارئ من الرواية وإغلاق دفتيها يكاد يجزم أن الكاتب قد أوجز كل أحداثها في استهلاله هذا.

في دولة، ربما تكون البرتغال، وربما أي دولة أخرى، هذا ما لا يخبرنا به الكاتب بوضوح. وهي خاصية اللامكان واللازمان التي يتخذها كطابع مميز لرواياته، لكننا نعرف أن الأحداث تدور في نفس الدولة التي أصابها العمى الأبيض من قبل. في يوم ذي طقس سيئ، أمطار غزيرة تعيق سير أول أيام التصويت في انتخابات الدولة، هكذا يخطفنا ساراماجو كما اعتدنا منه دومًا ويضعنا سريعًا في قلب الحدث دون أي مقدمات.

وبالرغم من المعروف عن ثورات التغيير في التاريخ أنها تتمثل في تجمعات جماهيرية كبيرة تنادي بمطالب معينة، يقود حراكها قائد تتوحد خلفه كافة الفصائل، ويدخلون في صدامات دائمًا ما تسفر عن العديد من الضحايا، وتنزف الكثير من الدماء طواعية في سبيل تحقيق مطالبها. إلا أن ثورة سارماجو هنا جاءت مغايرة لهذا المفهوم التقليدي عن الثورات الشعبية، فبعد الانتهاء من فرز أصوات الناخبين، تسيطر حالة من الصدمة والذهول على موجهي الحراك السياسي حيث أكثر من ثلاثة أرباع أصوات الشعب كانت بيضاء!

تبدأ القوى السياسية في التحري عن هذا الأمر العجيب الذي لم يعرف له سابق في تاريخ هذه الدولة -الديمقراطية- كما يزعم ساستها، وبرغم أن الصوت الأبيض -أي عدم إعطاء الفرد صوته لأي مرشح انتخابي- هو حق مشروع؛ إلا أنه عندما يطغى هذا الحق ويسود المشهد العام، يدق السياسيون ناقوس المؤامرات الخارجية والأجندات الأجنبية التي تريد زعزعة استقرار البلاد وتهديد أمنها القومي.

بسخريته المعتادة، وفانتازية عوالمه، يسبر ساراماجو أغوار التجمعات السياسية للتحري عن هذا الأمر في مفارقات يغلب عليها طابع الكوميديا السوداء. فعلى عكس أحداث روايتيه «العمى»، و«انقطاعات الموت» التي تكشف لنا الحالة العامة في الوسط الشعبي على أرض الوطن، تدور أحداث بصيرته هنا في الوسط السياسي، مع القرارات الحكومية، والنزاعات الداخلية خلف المكاتب في مؤسسات الدولة، ولا يلقي الضوء على الشعب إلا قليلًا، فنرى الهلع الذي يسيطر على الساسة بعد فشلهم في تفسير ظاهرة الأصوات البيضاء، وطرقهم الملتوية في حفظ ماء وجههم أمام مؤيدي الحكم، وهم القلة من الشعب الذين لم يتركوا صوتًا أبيض في الانتخابات.

هل جاء أي ناخب؟ .. ولا ظل ناخب!

استخدام الكاتب الكثير من التعبيرات المجازية المبطنة بالسخرية هو شيء يحسب للمترجم الذى استطاع توصيل مقصد الكاتب منها ببراعة، معطيًا إياها روح الأمثال الشعبية المصرية المتداولة مما جعل من أحداث العمل برغم الاستطالة في سردها تقع موقعًا لطيفًا على نفس القارئ.

ساراماجو من المؤلفين الذين لا يعطون قراءهم حافزًا أثناء سرد الأحداث، لكن حدثًا فارقًا يسرع من وتيرة العمل يغدو أكثر من كاف لتعويضهم عن الفتور الذي ربما أصابهم في بعض أجزائه، لذا يتطلب من قارئ أعماله أن يكون متوقد الذهن، طويل البال، حتى لا يتيه في طيات السرد الذي هو برغم غرائبيته إلا أنه ينم عن الكثير من العبقرية التي تجعل العمل مليء بالجماليات.

يتنقل سارماجو بسلاسة من دور الراوي العليم إلى نفوس أبطاله عارضًا حواراتهم الداخلية إلى محاوراتهم، ومن ثم نجده يحاور قارئ عمله بأسلوب أشبه بالأكاديمي بعض الشيء. نجده حتى يأخذ دور الناقد الأدبي ويحاور القارئ من هذا المنظور.

إن عيب هذا الاستطراد القصصي، المليء كما رأينا بالدخول في موضوعات فرعية مهمة، هو محاولة فهم أن الأحداث لا تنتظرنا. فبمجرد أن نفهم ما يحدث، نجد أن الأحداث تسير مهرولة، ونحن، بدلًا من أن نسردها، كما هو مفترض بحكائي القصص الذين يعرفون تفاصيل مهنتهم، نجد أنفسنا نغوص في الوصف، منسحقي القلب.

استخدم سارماجو المناخ كعامل مساعد أو شخص من شخصيات العمل، فنجد أن أغلب الإجراءات الفارقة في خط سير الأحداث وتصاعد حدتها قد سبقها هطول مطر غزير.

مرة أخرى يشير الكاتب إلى الشر الكامن والمتأصل في دواخلنا:

لا أحد منهم بريء، كلهم مذنب بشيء قد ارتكبه، ألا يكون ذلك الرجل العجوز الوقور في مظهره،مثلًا، هو مايسترو الأحداث المظلمة الأخيرة؟ ألا تكون هذه الفتاة التي تعانق خطيبها هي التجسيد الحي لثعبان الشر؟ ألا يتوجه هذا الرجل الذي يعبر الشارع مطرقًا إلى وكر غير معروف تتصعد فيه الفلاتر التي تبث السم في روح المدينة؟

في الربع الأخير من روايته يربطها الكاتب مع الرواية السابقة لها حيث يعود أبطال عمله إلى المشهد الرئيسي هنا في بصيرته؛ ولهذا يعتبر الكثير من القراء أن البصيرة ما هي إلا وجه العملة الآخر من العمى.

اقرأ أيضًا:رواية «العمى»: كشف الشر المتأصل في الإنسان

أما مشهد النهاية، فتطغى فيه عدمية ساراماجو ونظرته التشاؤمية للنفس البشرية. فهذا الشعب لا يستأهل ثورته البيضاء، وهؤلاء الكلاب الذين ثاروا في بداية الأمر على ديكتاتورية وقمع الحكم لا يستحقون العيش في سلامه الأبيض.

حينئذ يسأل رجل أعمى: أسمعت شيئًا؟ ثلاث طلقات، أجابه آخر. لكن كان هناك أيضًا كلب يعوي. ربما أصابته الطلقة الثالثة. الحمد لله؛ فأنا أبغض عواء الكلاب.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.