محتوى مترجم
المصدر
London Review of Books
التاريخ
2016/02/18
الكاتب
آدم شاتز
صرح أحمد الطيبي، العضو العربي بالكنيست الإسرائيلي، ذات مرة بأن «إسرائيل ديمقراطية تجاه اليهود، ويهودية تجاه العرب».

طوال سنوات عديدة، أبرز ذلك التصريح المسجل على نحو جيد تناقضات «الديمقراطية اليهودية»، كالانتخابات العادلة، وحرية الصحافة، والمناقشات المشاكسة، والإجراءات القانونية السلمية بالنسبة للبعض. وعلى الجانب الآخر، هناك سرقة للأراضي، واحتجاز إداري، وحظر تجول، واغتيالات، واستجوابات بالقوة بالنسبة للبعض الآخر.قصد الطيبي تسليط الضوء على كذب مزاعم إسرائيل بكونها دولة ديمقراطية، ولكن مثلما أقرّ هو بشكل حقيقي، نجحت الديمقراطية اليهودية بالفعل بالنسبة لليهود، حتى بالنسبة لليهود المعارضين بشدة للاحتلال وللصهيونية نفسها. وطوال عهود نجاحها بالنسبة لهم، استطاع الليبراليون في تل أبيب أن يقولوا لأنفسهم إن الأمور ليست سيئة للغاية فيما وراء الخط الأخضر، أي الحدود بين إسرائيل والأراضي التي سيطرت عليها في حرب عام 1967. وبالفعل، ساعدت مرونة المؤسسات الديمقراطية الإسرائيلية في الحفاظ على وهم أن الخط الأخضر لا يزال يمثل خط المواجهة، حتى مع تلاشيه تحت وطأة تقدم مشروع المستوطنات، الذي دُشن تحت حكم حزب العمل، ودُعم من جانب جميع الحكومات اللاحقة.

منذ الانتفاضة الثانية، يتم تذكير المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل عند كل منعطف بأنهم غير مُرحب بهم.
يدرك الإرهابي القادم، قبل أن يطعنك، أن «يشاي مينوهين»، وهو عميل مزروع ينتمي إلى هولندا، سيحرص على حمايته من استجواب الشاباك. كذلك يعرف الإرهابي أن «أفنير جفرياهو»، وهو عميل آخر ينتمي إلى ألمانيا، سوف يصف الجندي الذي سيحاول صد الهجوم بأنه «مجرم حرب». كما يعرف أن «سيجي بن آري»، عميل منتمٍ إلى النرويج، سيحميه في المحكمة. ويدرك الإرهابي القادم قبل أن يطعنك أن «حجاي إل أد»، وهو عميل ينتمي إلى الاتحاد الأوروبي، سوف يصف إسرائيل بأنها «مجرمة حرب». حجاي، يشاي، أفنير وسيجي جميعهم مواطنون إسرائيليون، ويعيشون هنا معنا، لكنهم مزروعون. وبينما نقاتل الإرهاب، يقاتلوننا. ويمكن لقانون «المزروعون» أن يجرّمهم. فوقع بالموافقة عليه!
دائماً ما وُجد توجه ازدرائي عميق في أوساط الصهيونية تجاه اليهود المتحدثين باليديشية، القادمين من شرق أوروبا.

كما دعم أفيجادور ليبرمان، وزير الخارجية السابق بحكومة نتنياهو، تشريعًا مشابهًا مناهضًا للمنظمات غير الحكومية، كذلك شارك نتنياهو نفسه من قبل في أحد مقاطع الفيديو لجمع التبرعات للمنظمة. وقد قدمت إيليت شاكيد، وزيرة العدل بحكومة نتنياهو وإحدى المشاركات في تأسيس حزب البيت اليهودي، مشروع قانون «الشفافية» في الكنيست، الذي سيلزم المنظمات غير الحكومية التي تحصل على 50% على الأقل من تمويلها من حكومات أجنبية بأن تعلن عن نفسها، كما سيفرض على أعضاء تلك المنظمات تعليق حاملات للاسم في حال ظهورهم بالكنيست. وينطبق مشروع القانون على الدول فقط وليس على «التمويل الأجنبي» الأكثر وفرة الذي تتلقاه المنظمات اليمينية من صهاينة الشتات الأثرياء، مثل «شيلدون أديلسون»، قطب قطاع الكازينوهات بولاية لاس فيجاس الأمريكية، ومالك الصحيفة الإسرائيلية «يسرائيل هيوم».إلا أن نجمة المنظمة الحالية هي ميري ريجيف، وزيرة الثقافة بحكومة نتنياهو، والقائدة السابقة بالجيش الإسرائيلي. وقد تصدرت ريجيف، وهي ابنة أحد المهاجرين المغاربة، عناوين الأخبار عام 2012 لمشاركتها في تظاهرات مناهضة للمهاجرين، ووصفها للمهاجرين السودانيين بأنهم «سرطان في جسدنا». وأعلنت في يوم 27 يناير عن مشروع قانون «الولاء بالثقافة»، الذي سيرفض تقديم التمويل الحكومي لمن يفشلون في إظهار الولاء للدولة اليهودية. وبعد ساعات من تقديم مشروع القانون، أصدرت المنظمة قائمة بـ «الخلايا النائمة» المفترضة، بينهم: ديفيد جروسمان، وعاموس عوز، وأعضاء المؤسسة الليبرالية الصهيونية. ولكن ذلك مثّل خطوة متمادية حتى بالنسبة لبينيت، الذي وصف القائمة بأنها «مُحرجة». ولكن يُعتقد أن توجه ريجيف أكثر انسجامًا مع الهجمات على النخبة الأشكينازية القديمة. ففي أوساط اليمين الإسرائيلي، يعتبر التعلق بالأفكار الليبرالية المستمدة من أوروبا كافيًا ليتمّ اعتبارك خليةً نائمة.ولكن «الخلايا النائمة» ليس الوصف الأسوأ الذي يستعمل ضد اليهود الذين يخضع ولاؤهم للتشكيك، مثلما اكتشف دانيال شابيرو، السفير الأمريكي في إسرائيل، الشهر الماضي بمؤتمر أمني بتل أبيب، حين قال: «أحيانًا يبدو أن هناك معياريْن للخضوع لسلطة القانون، معيار للإسرائيليين وآخر للفلسطينيين»، وبالنسبة لمسئول أمريكي، يمثل ذلك التصريح انتقادًا حادًا إلى حدّ ما للدولة الإسرائيلية. وفي المقابل، وصفه آفي بوشينسكي، المستشار السابق لنتنياهو، بمقابلة تلفزيونية بأنه «يهودوني» – وهي صيغة عبرانية للمصطلح الازدرائي اليديشي – ويترجم عادة إلى «الفتى اليهودي الصغير».

عادة ما يُقال أن إسرائيل تفتقد القوة الناعمة في الشرق الأوسط، ولكن النجاحات العسكرية والاقتصادية منحتها قوة ناعمة من نوع خاص.

دائماً ما وُجد توجه ازدرائي عميق في أوساط الصهيونية تجاه اليهود المتحدثين باليديشية القادمين من شرق أوروبا، الذين يغيب عنهم الرغبة في، أو القدرة على، الدفاع عن أنفسهم أمام العنف المعادي للسامية.لكن ديانة الدولة والجيش دائمًا ما خضعت للتخفيف – وراء الخط الأخضر على الأقل – بفعل التعلق المرتبط بالحنين إلى القيم الليبرالية اليهودية، وهو التعلق الذي كان قويًّا بشكل خاص بين اليهود ذوي الأصول الألمانية، الذين يطلق عليهم «يكيس». ولكن تراجعت قوتهم وأعدادهم ونفوذهم الثقافي على مر السنوات؛ حيث يمثلون نخبة قديمة، ويُنظر إليهم بعين الازدراء والاستياء التي تميل النخبة القديمة إلى استثارتها. فوسط حوالي 6 مليون يهودي يعيشون في إسرائيل، هناك حوالي ثلاثة ملايين مزراحي، أي من دولٍ شرق أوسطية، وحوالي مليون من روسيا. ويتزايد عدد اليهود المتدينين، وينجبون أطفالاً أكثر بكثير من اليهود العلمانيين. فليس من المستغرب أن «إسرائيل تولي ظهرها إلى أوروبا على نحو متزايد»، مثلما ذكر الصحفي آشر شيشتر مؤخرًا بصحيفة هآرتس.وصف المؤرخ توني جودت إسرائيل في عام 2003، وهي فترة تفاؤل مرتفع تجاه اليورو، بأنها تمثل على نحو مميز مشروعًا انفصاليًّا لأواخر القرن التاسع عشر في عالم قد تجاوز ذلك، عالم يهتم بالحقوق الفردية، والجبهات المفتوحة والقانون الدولي. باختصار، إسرائيل تمثل فكرة في غير زمانها الصحيح. ولكن، لا تبدو إسرائيل كحالة شاذة عن عالم أعيدت صياغته بفعل التوجه نحو الانفصالية الأخلاقية والدينية، والتأمين العسكري للحدود، وظهور الحكومات المستبدة المدعومة شعبيًّا. وبالنسبة لدولة بهذا الحجم، قدمت إسرائيل إسهامًا معقولاً في خلق هذا العالم، عبر احتلالها وحروبها، وعبر مشاركتها رفيعة المستوى في تجارة الأسلحة وصناعة الأمن.ولكن تأثيرها جعلها ملحوظة. فعلى سبيل المثال، عادة ما يقال أن إسرائيل تفتقد القوة الناعمة في الشرق الأوسط، بما أن الدولة اليهودية موجودة في منطقة تهيمن عليها الشعوب المسلمة، ولأنها محتلة لأرض عربية. ولكن النجاحات العسكرية والاقتصادية تخلق قوة ناعمة من نوعها الخاص، ولا تفقد فاعليتها لكونها مستترة. ففي عام 1963، سافر جلال آل أحمد، الذي أصبح لاحقًا أحد الآباء الروحيين للثورة الإسلامية في إيران، إلى إسرائيل لأسبوعين. وفي كتابه عن الرحلة، وصف الدمج الإسرائيلي بين الدين وقوة الدولة كأحد النماذج المحتملة لإيران. وبعد الهزيمة الساحقة من قِبل إسرائيل في حرب 1967، سأل العديد من العرب أنفسهم إذا كان اليهود قد انتصروا لأنهم ظلّوا أقرب إلى دينهم أم لا، وانشقوا بالفعل عن المعسكر القومي إلى الإسلام السياسي، كما أن التطهير العرقي الذي قامت عليه دولة إسرائيل يتم تكراره الآن، بل ونتج عنه عواقب أكثر ترويعًا في أجزاء أخرى من الشرق الأوسط.

تعتبر القومية الإسرائيلية في عهد نتنياهو غير مُلجَمة، فهي ضيقة الأفق، وتذكرنا أيضًا بمصر السيسي وتركيا أردوغان، حيث يكثر الحديث عن المؤامرات الأجنبية.

كثيرًا ما تم انتقاد إسرائيل لرفضها الاندماج في المنطقة، وإصرارها (العنصري) على أن تبقى «كالقصر وسط الغابة». ولكن سياسييها استجابوا بترديد ما قاله «جيمس بالدوين» بالأساس في الستينيات، حيث قال: «هل سأودّ بالفعل أن أندمج مع منزل محترق؟». وقد أدّت الحرائق الإقليمية إلى قدر ما من الشماتة في إسرائيل، ووفرت إلهاءً مُرحّبًا به عن الاحتلال، الذي أصبح أكثر ترسخًا. ولكن ليس من الواضح إن كانت إسرائيل لا يزال في إمكانها أن تبقى غير ممسوسة من قبل النيران التي تلتهم جيرانها.وفق بعض الخبراء الإسرائيليين، تمثل الهجمات على المنظمات غير الحكومية أعراضًا لتوجه عميق أشبه بتوجهات بوتين، الرئيس الروسي. حيث لم يُخفِ السياسيون الإسرائيليون إعجابهم ببوتين؛ فهو زعيم قوي وقاسٍ يعتبر عزمه – وتفضيله للحلول العسكرية – مناقضًا بشدة لحذر وتردد باراك أوباما. كذلك يعتبرون بوتين غير مبالٍ على نحو ممتع تجاه حقوق الإنسان.وبينما تهدئ التوترات بين إسرائيل وإدارة أوباما – خصوصًا في أعقاب الاتفاق النووي الإيراني، الذي فعل نتنياهو أفضل ما بوسعه لإحباطه – تتوجه إسرائيل على نحو متزايد نحو روسيا، وكذلك الصين، التي تستورد منها حاليًا أكثر مما تستورد من الولايات المتحدة.ولكن القومية غير المُلجَمة، ضيقة الأفق، الخاصة بإسرائيل في عهد نتنياهو تذكرنا أيضًا بمصر السيسي وتركيا أردوغان، حيث يكثر الحديث عن المؤامرات الأجنبية التي تُحاك في واشنطن وبروكسل. ومثلما تشير ديانا بينتو في كتابها Israel has moved 2003، تميل الدولة اليهودية إلى اعتبار جيرانها «زانات» قفز تستخدمها إسرائيل في قذف نفسها نحو حل سلمي للعولمة البعيدة. فعلى الصعيد الاقتصادي، نجحت إسرائيل في الهروب من المنطقة؛ ولكن على الصعيد السياسي، كان الأمر صعب المنال. حيث باتت إسرائيل تمثل حاليًا مجرد نظام عربي آخر، وبالكاد يُعتبر التشريع المناهض لـ «الخلايا النائمة» مختلفًا عن الحملات المناهضة للمنظمات غير الحكومية في القاهرة.تصف بينتو أخيرًا قمع المعارضة اليهودية بأنه انغلاق الدولة على ذاتها، ضمن إطار تحويلها إلى «جيتو يهودي». وكأن إسرائيل قد فضّلت أن تظل داخل الجيتو، حيث باشرت بعناد مشروعًا استعماريًّا، رغم تهديد ذلك بإلحاق الضرر بعلاقاتها مع أوروبا والولايات المتحدة، اللتين أدركتا أخيرًا أن إسرائيل ليس لديها نية لتحقيق سلام حقيقي مع الشعب الفلسطيني.