عندما قرأت كتاب «فكِّر بنفسك: عشرون تطبيقاً للفلسفة» للمرة الأولى أعجبت على نحو خاص بالتطبيق التاسع، ورأيت أنه إلى جانب المقدمة يمثلان خير مدخل لفهم الكتاب ككل. وآنذاك قررت ترجمته. والكتاب يهدف كما في مقدمته إلى «إضعاف التبعية لآراء الآخرين»، ومن ثَم فإن التطبيقات الفلسفية، التي انتقاها المؤلف من سياقه الثقافي، تحاول أن تفتح مجالات لتنوع الأفكار، ولشحذ قدرة القارئ على التفكير والحكم، وفي هذا كما يقول «تكمن طاقتها المحررة».

والسؤال الآن عن الطريقة التي اتبعها المؤلف لتحقيق هذا الهدف. وبداية لا بد أن نقول إنه لا يقدم لنا أفكارًا فلسفية نظرية، وإنما منهجًا يهدف إلى تعليم كيفية التفكير، ليس فقط بأن يرصد نظريًّا ما يفعله الفلاسفة حين يتفلسفون، وإنما أيضًا بتقديم التطبيقات الواضحة التي يمكن استخدامها في أي سياق تناقش فيه أي فكرة.

وهو يعرف الفلسفة، كما في التطبيق الأول، بأنها كانت منذ بدايتها المعروفة «شكلًا من أشكال الاستفزاز». ولذا فهو يبدأ كتابه بسقراط وبه ينهيه، وذلك بأن جعله موضوعًا للتطبيق الأخير وصيره رمزًا كبيرًا للفلسفة وشهيدًا أول في سبيلها. وهو يعتمد فيما بين ذلك على تاريخ الفلسفة كله. ومن الطريف أيضًا أنه اعتنى في أغلب فصول الكتاب وتطبيقاته بتقديم الألعاب المسلية التي تساهم في الاقتراب من الفلسفة بخفة ومرح.

وفصول الكتاب مترابطة بقوة، ورغم ذلك يمكن للمرء قراءة كل منها على حدة. وعلى سبيل التسهيل سأقسم حديثي عن هذه الفصول (التطبيقات العشرين) إلى ثلاثة أقسام أو مجموعات، تدور الأولى منها حول «فعل التجميع»، والثانية حول «تقنيات تفسير القرائن»، والأخيرة حول «أنجع الطرق لخوض المجادلات الفكرية».


فعل التجميع

أغلب الفلاسفة المهمين كانوا من جامعي الكتب، فأفلاطون، الذي ينتسب لأسرة أرستقراطية غنية، كان يجمع النصوص الفلسفية النادرة، وكان يدفع أحيانًا مبالغ طائلة في سبيل ذلك. وكان لتلميذه أرسطو مكتبة كبيرة أهداها قبل وفاته لأحد تلاميذه.

ولكن جمع الكتب يعد فقط المظهر الخارجي للتجميع الفلسفي. فالفلاسفة «جامعو أفكار»، ومن لا يجمع لا يمكنه أن يحرز تقدمًا داخل الحقل الفكري. فتجميع الأفكار والنظريات الفلسفية له أثر تنويري، وذلك لأن وجهة نظر ما لن تبقى طويلًا الإمكانية الوحيدة، وإنما تصبح نسبية بواسطة الإمكانيات المتنوعة.

ومن خلال فعل التجميع يمكن كذلك توضيح أصالة أحد الآراء وخصوصيته بشكل أفضل، وذلك من خلال «المقارنة»، وهي الموضوع الذي يدور عليه التطبيق الثاني. فالمقارنات تفيد في تنظيم الأفكار ومحاولة الوصول من خلال المقولات المعطاة إلى مقولة عقلانية جديدة. وهذا بالطبع ما يعرف بـ «منطق أرسطو»، وهو موضوع التطبيق العاشر. «المقارنة» تفيد أيضًا في صك التعريفات، وهذا ما يعرضه في التطبيق السابع الذي يدور حول «التعريف والفشل فيه».

فالتجميع إذن يمثل «بداية للتعريف»، فمن يريد أن يعرِّف شيئًا ما بشكل صحيح عليه أن يهتم أولًا بتجميع الحالات وتنظيمها والمقارنة بينها. وفقط من خلال هذا سيتضح التعريف ببطء أو تنتج عنه على الأقل مقاربة تعريفية يمكن تحسينها فيما بعد. وبهذه الطريقة نتجت التقسيمات العلمية المهمة.

ويعد «التعريف» منذ القدم اهتمامًا أساسيًّا للفلاسفة، وهو فن صعب، ومن السهل ارتكاب العديد من الأخطاء إبان ممارسته. ومن هذه الأخطاء: «التعريف بالسلب»، وهو تعريف الشيء بما يفتقده. «التعريف الدائري» وهو تعريف يظهر فيه ما ينبغي تعريفه خفية أو علنًا. «التعريف المجازي» الذي يعتمد على الصور(ص109-111).

والتعريف يقتضي ضرب الأمثلة، وهذا هو موضوع التطبيق السادس. فبواسطة الأمثلة المفردة يمكن للمرء أن يجعل المقولات العامة مفهومة، أي أنه يدعمها، ولكنه لا يعللها. ويجب على المرء استخدام الأمثلة ونقيضها لتكوين انطباعه الخاص واختبار أقوال الآخرين ونظرياتهم.


تفسير القرائن

تدور المجموعة الثانية من تطبيقات الكتاب الفلسفية حول «تفسير القرائن»، وهو تطبيق منتشر، ولكن من السهل أن يضل المرء أثناء ممارسته. وهنا يقدم المؤلف لذلك تطبيقًا – هو الثالث – حول محاولة الطبيب السويسري «يوهان شويختسر – Scheuchzer» اكتشاف أدلة على حدوث الفيضان العظيم الذي تتحدث عنه التوراة والأخطاء التي ارتكبها أثناء ذلك.

طبعًا، نحن نعرف أنه أمر تناوله القرآن، بل تناولته ملحمة جلجامش أيضًا، ولكن الطبيب السويسري كان ذا نزعة توراتية ويريد إثبات صحة ما ورد فيها علميًّا. ولكن حماسه الديني – كما يحدث دائمًا – أفسد عليه قدراته العلمية فوقع في أخطاء كارثية.

ومن خلال أخطاء شويختسر يستنتج المؤلف عدة قواعد ضرورية لفن «قراءة القرائن» منها: أن قرينة ما توجد حينما نقوم بالبحث عنها، وأن ما يبدو تافهًا غالبًا ما يخفي قرائن مثيرة للاهتمام، وأنه كلما زادت القرائن كانت النتائج أكيدة، وأن تفسير القرائن يعتمد على المعرفة والخبرة، وأن على المفسر ألا يرضى بأول فكرة حتى وإن بدت معقولة ومقبولة، وأن من يقرأ القرائن لا بد أن يكون قادرًا على ربطها بطريقة تنتج عنها حكاية(ص50-51).

ويتعلق بهذا كله أمران: «تدقيق النظر» وهو موضوع التطبيق السادس، و«مبدأ العلل المتنوعة» وهو موضوع التطبيق التاسع عشر.

أما «تدقيق النظر» فيعني أن الإنسان يحمل ما يراه على محمل الجد ولا يتجاهله. وهذا الأمر ليس بدهيًّا كما قد يبدو، فالمرء يُعطى من خلال التربية والتعليم نماذج أو قوالب للرؤية لا يمكن له تجنبها، وهي نماذج تحدد له أي التفاصيل أهم من غيرها. ومن هنا يخرج عن هذه النماذج من يرى شيئًا لا يراه الآخرون، بل قد يواجه صعوبات لا يمكن له تجاوزها. وأفضل مثال لهذا حكاية «نظرية الزحزحة القارية» للعالم الألماني الفريد فايجنر Wegener(ص85).

وأما «مبدأ العلل المتنوعة» فيخبرنا بأنه من الخطأ أن نظن أن لكل شيء سببًا واحدًا. فالأدق هنا أن لكل موجود عللًا كثيرة. لذا يجد من يتهيأ لتفسير العالم فرصة للاختيار بين إمكانيات عديدة، ومن ثم يمكن للمرء أن يبحث عن السبب الأكثر مناسبة لهدف محدد في موقف محدد.

وقد أثبت أرسطو أن الإنسان يتحدث عن الأسباب بطرق وأساليب متنوعة. وقد ميز منها أربع طرق يمكن الإجابة بها عن سؤال بلماذا. ويمكننا توضح ذلك بالسؤال التالي: لماذا يتقوس الموز؟

هنا تكون الإمكانيات الأربعة كما يلي:

1. لأن كل موزة تريد أن تصل للضوء، وهنا لدينا السبب الهدفي المستقبلي.

2. أو لأن وبر القشرة ينمو في ناحية أسرع من الأخرى، وهنا لدينا السبب المحرك.

3. أو لأن الاستدارة موجودة في جينات الموز، وهنا لدينا السبب الشكلي.

4. أو لأن الظروف سمحت بهذا، وهنا لدينا سبب مادي غير محدد(ص 266).


المجادلات الفكرية

وتدور المجموعة الأخيرة من تطبيقات الكتاب حول موضوع مهم في السياق الألماني، وهو موضوع المجادلات الفكرية. ومما يذكر هنا أن دراسة علم الاجتماع في ألمانيا تقدم مادة كاملة تستمر لفصل دراسي كامل عن البرامج الحوارية وكيفية الجدال فيها. والمؤلف يقدم هنا مجموعة من التطبيقات أو النصائح التي تساعد في خوض الجدالات. ومن هذه النصائح:

1. ربط الفكرة بأحد «السلطات النافذة» في المجال الخاص بالجدال. ففي المناقشات الفلسفية يصبح سهلًا بالنسبة لنظرية ما إذا تم ربطها بأحد السلطات النافذة في المجال الفلسفي، وعن هذا يدور التطبيق الرابع. على سبيل المثال أن يتم ربط الفكرة بأفلاطون أو كانط أو هيجل أو أحد الكلاسيكيين الذين يزداد تعظيمهم من قبل الأجيال المتأخرة ويتحولون لشخصيات سلطوية. وهنا لا بد أن تراجع ما قاله عن ماركس(ص65).

2. استخدام تقنية «المحاكاة الساخرة»، وهو موضوع التطبيق الخامس عشر، وهو يصف هذه التقنية بأنها نوع من «التقنع». فالمتقنع يضع قناع الآخر ثم يتقافز على الأرض مستعرضًا نقاط ضعفه لإغاظته وإثارة مرح الجماهير وضحكهم عليه. ويمكن لهذا التقنع أن يكون فكاهة لا بأس بها، ولكنه يمكن أن يكون سلاحًا فتاكًا أيضًا، وذلك لأن المرء كما يقول المؤلف لا يخاف شيئًا قدر خوفه من أن يكون موضعًا للسخرية.

3. ومن قبيل المحاكاة الهزلية استخدام ما يسمى بتقنية «التكرار أو التوصيل المتتالي»، وهو موضوع التطبيق السادس عشر. ويهدف بهذا التكرار المثير لإسقاط فكرة ما أو أطروحة ما. حيث يجري التكرار بعناد لمرات عديدة حتى يصبح هذا المكرر موضعًا للاستهزاء.

ويرى المؤلف أن هذه التقنية مناسبة أيضًا للنقاشات. كأن يأخذ المرء رأي الآخر ويبين له أنه ليس جديدًا أو طازجًا كما يتصور صاحبه، وإنما مكرر لمئات المرات، ومن هذا القبيل ما حدث مع عضو جماعة شهود يهوه(ص240).

4. أما النصيحة الأخيرة التي سنذكرها هنا فهي ما يسمى «الأخذ حرفيًّا»، وهي موضوع التطبيق الثامن. وهنا ينقل عن كتاب «الجدل» لأرسطو أن المرء يمكنه أن «يرهق الخصم بأن يأخذ ما يقوله حرفيًّا»(ص127)، وأن المرء يمكنه بهذه الطريقة ليس فقط صناعة النكات، وإنما نزع الرهبة أيضًا كما فعل برتولد بريشت في «أسئلة عامل قارئ»:

الإسكندر الشاب يحتل الهند. فقط بمفرده؟! لقد هزم قيصر بلاد الغال. ألم يكن معه ولو على الأقل طباخ؟!

شجاعة التفكير

ويتصل بكل ما سبق ما يراه المؤلف في خاتمة الكتاب من أن الفلسفة تعيش على الحوار والنقاش، وتبادل الأفكار والآراء، والمشاركة في تطوير شيء محدد. ولذا ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار دائمًا أن الآخر يمكن أن يكون مُحقًّا، ولذا قال أرسطو عن الحقيقة في كتابه «الميتافيزيقا»: «إن أحدًا لا يمكنه أن يحوزها كاملة، ومن ناحية أخرى لا يمكن لأحد أن يخطئها بالكامل»(ص280). فلا بد للمرء من أن يكون مستعدًا للتعلم من الآخرين، وأن يمتلك في الوقت نفسه الشجاعة لإعمال فكره والتفكير بنفسه ولنفسه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.