يعالج هذا المقال من هذه السلسلة تصوّر السياسة وتَمثُّلَها لدى الحركة الإسلاميّة الحديثة، وما نعتبرُه بعضَ أهم ملامح هذا التصوّر، ومن أهمَّ ما أدّى بالممارسة السياسيّة للحركة الإسلاميّة الحديثة إلى قلق واضطراب لدى أنصارها وخصومِها على السواء.


الانخراط في السياسة بين كونه مساهَمة في تعريف السياسة أو كونه رضوخا لمفهوم معيَّن للسياسة

يتمّ تصوير «السياسة» عند منتقِدي الفصل، وعند رافضي الانخراط في السياسة من الإسلاميين بشكل عام، على أنّها مفهوم ناجز وعملية معروفة وممارسة مستقرّة، وبناء على ذلك، يمضي هؤلاء الرافضون في سرد مآلات حتميّة لا بدّ أن يصير إليها الإسلاميون إذا انخرطوا في السياسة. فـ «السياسة» في نظر هؤلاء تعني الدخول في مسيرة علمنة، والرضا بالتحاكم إلى ما يختاره الناس الذين ليس ثمّة ما يضمن ألا يختاروا ما يخالف الدين، والرضا بقواعد «النظام الدولي» أو «النظام العالميّ»، وهي قواعد مجحفة ولا تخدم الأمم المستضعفة، وغير ذلك. هذه التخوّفات تتفاوت من أفكار شديدة البساطة من قبيل «كيف نرضى بالتحاكم إلى الشعب لا إلى شرع الله؟» إلى أفكار متقدّمة من قبيل التساؤل عن إمكانية تحدي المنظومة الليبيرالية، بشقيها الاقتصادي والسياسي، والتي تبدو النظامَ الذي لا بدّ من الرضا بقواعده لمن ينخرط في السياسة في السياق العربيّ الراهن.

ومع أنّ كلا من هذه التخوفات يستحق مناقشة منفصلة، وبعضها نوقِش منذ عقود، إلا أنّ ما ينبغي التنبّه إليه هو الخطأ الشديد في افتراض أنّ هناك «سياسة» و «مجالا سياسيا» و «ممارسة سياسية» ناجزة ومستقرّة في السياق العربي الحاليّ، وبالتالي فكأنّ هناك قائمة من الاشتراطات التي لا بدّ للإسلاميين من اجتيازها ليتأهلوا سياسيا.

لا طرف عربي لديه «منظومة سياسية» يمكن لكلّ المواطنين فيها أن يمارسوا حياتهم بحرية في ضوء اختلاف مفاهيمهم الشاملة للحياة.

نحاجج أنّ هذا الافتراض شديد الخطأ، فليس لدى أي اتجاه إيديولوجي عربيّ، أو قوة سياسية عربية، مفهوم واضح للسياسة أو لما ينبغي أن تكون عليه السياسة. لدى كلّ طرف ما يُسمّيه الفيلسوف الأمريكي جون رولز «منظومة شاملة Comprehensive Conception» يتخيلها للمجتمع، ولكيفية تحقيق القيم الأساسية التي يؤمن بها فيه، لكن لا أحد لديه «منظومة سياسية Political Conception» لكيفية تحقيق نظام سياسي يمكن لكلّ المواطنين فيه أن يمارسوا حياتهم بحرية وضمن نظام عادل في ضوء اختلاف مفاهيمهم الشاملة للحياة.

هذه القضيّة شديدة الأهمية، لأن الإسلاميين كثيرا ما يتمّ إيهامهم أنّ لدينا سياسة ناجزة وتقاليد سياسة مستقرة، وأنّ عليهم القبول بها ليتم الرضا بهم في اللعبة السياسية، والحقيقة أنّ الاتجاهات الإيديولوجية الأخرى لا تمتلك حقّ مخاطبة الإسلاميين بهذا الاستعلاء، لأنّ هذه الاتجاهات أثبتت باستمرار نفاقَها وانتهازيتها وعدم اتساقها مع مرجعياتها الفكرية المزعومة، ولأن «السياسة» عربيا ما تزال برسم التشكيل، وما تزال القوى تتدافع لتشكيل السياسة الخاصة بنا كأمة عربيّة مسلمة في زمن حديث.

ولتصور القضيّة على وجهها الصحيح، فالتوصيف الأدق للحالة السياسية العربية الراهنة ليس أنّها صراعٌ أو تدافع سياسيّ بين قوى سياسيّة ذات توجّهات مختلفة، بل هي في طور سابق على ذلك، وهو الصّراع بين قوى سياسيّة وقوى غير سياسيّة، أي بين قوى تؤمن بوجود السياسيّ وما يشملُه من حريّات ومجال عامّ وأحزاب ومجتمع مدنيّ وكلّ ما لا تقومُ حياة سياسيّة من دونه، وبين قوى لا تؤمن بوجود السياسيّ، يُمثّلُها العسكر الذين لا يؤمنون بالحياة السياسيّة ويرون السياسة بوصفِها تهديدا لنفوذهم وثرواتهم، والحكّامُ الذين يستند حكمُهم إلى نظام قبليّ أو عائليّ أو طائفيّ ولا يؤمنون بحقّ الشعوب في امتلاك مجال سياسيّ وفضاء عام تحكمه الإرادة الشعبيّة، وبعضُ الاتجاهات الدينية التي لا تؤمن بمجال سياسيّ مستقلّ عن الفقهي أو الدعويّ، وترى أنّ لكل معضلة سياسية حلا فقهيا أو كلاميّا على الناس أن يقتنعوا به بالدعوة أو ينساقوا إليه بسلطة الحكم الفقهيّ.

بالتالي، فتوصيف المأزق السياسيّ العربيّ الراهن يجب ألا يكون باعتباره صراعا بين إسلاميّين وعلمانيين، أو يساريين وليبيراليين، بل هو صراع بين قوى سياسيّة ومؤمنين بالسياسة والمجال السياسيّ، وبين قوى قبل سياسية أو ضد-سياسيّة يمثّلها العسكر والحكم القبليّ الوراثيّ وبعض أنماط التدين التراثيّة. ولقد أدّى الفشل في إدراك حقيقة اللحظة العربيّة الراهنة على هذا الأساس إلى جدالات نظرية عقيمة بين الإيديولوجيات العربيّة حول الدولة ونظام الحكم وعلاقة الدولة بالدين وغيرها، ودخلت هذه الاتجاهات في تشاحنات وخصومات واتهامات متبادلة، بدلا من التساؤل عن شروط إقامة سياسة ابتداء، وافتكاك المجال العام من العسكر والطائفيين ورجال القبائل ومشايخ السلطة، والبحث عن توافق شديد المبدئية لاستيلاد المجال السياسيّ الذي يتقاتل المؤدلجون عليه قبل أن يوجَد.


السياسة الممكنة والمطلوبة راهنا هي سياسة ترسيخ السياسة

تبعا للنقاش السابق، فما يمكن أن نطمح إليه كعرب، إسلاميين وغير إسلاميين، بخصوص المجال السياسي هو الحد الأدنى، متمثّلا في فتح أفق سياسيّ، أي أفق لتداول وتدبير الشأن العام يُشارك فيه المواطنون مشاركة حرّة في القضايا ذات الطابع العام، ويتبادلون الآراء وينقدونَها، ويشكّلون أجساما سياسيّة تتولى ابتداء ترسيخ وجود المجال السياسيّ واستقلاله، وتضمن حقّ المشاركة فيه وتطويره، وتسعى إلى إشراك المواطنين في القضايا العامة، وتوسّع النقاش العام وتثبّت أسسه وتقاليده.

هذا يتطلّب أن تُعطى الأولويّة للقضايا الأساسيّة التي لا يُتوقَّع أن تولّد جدلا حادّا، وتترتّب عليها آثار شديدة الأهمية في الوقت نفسه، من قبيل ترسيخ الانتخابات وسيلة لاختيار المسؤولين بدءا من الحي وانتهاء بالبرلمان والدولة، وحرية تشكيل الأحزاب، وحرية إنشاء وسائل الإعلام، وحرية التعبير عن الرأي ونقد الرأي، وحرية الحصول على المعلومات وتداولها، وإلغاء أي شكل من المحاكمات العسكرية، وترسيخ استقلال القضاء ونزاهته، وتقنين إجراءات التقاضي والتوقيف والملاحقة القانونية والاحتجاز والتمثيل القانوني، وحرية إنشاء المشاريع التجارية والمساهمة فيها بلا إتاوات ولا رشاوى ولا ابتزاز بيروقراطي، وشفافية مؤسسات الدولة الاقتصادية، وتطوير التعليم وتحديث المناهج، وتطوير الصحة وتعميمها، وتطوير البحث العلمي ودعمه، وغيرها.

هذه كلّها قضايا في غاية الأهمّية، وهي أساسيّة لأي مجتمع مهما كانت توجهاته الفكرية، وهي الأساس الضروريّ لحياة سياسية واجتماعية سليمة ينشأ فيها خلاف صحّي يمكن إدارته وتدبيره، ولا يُتوقّع أن تكون -في خطوطها العامة- محلّ اعتراض أو تجاذب سياسيّ.

أما قبل أن تستقرّ هذه القضايا في مسارات إصلاحها، وقبل أن يُصبح من المستبعد جدا أو من المستحيل أن تتمكّن القوى الـ «ضد-سياسية» من الاستيلاء على المجال السياسي وخنقه، فمن غير المسؤول أن يطرح الإسلاميّ قضايا الحدود مثلا، أو يطرح الليبيرالي قضايا الإجهاض، أو يطرح اليساريّ التحقيق الفوريّ لمجانية التعليم أو الصحة.

لكنّ ما سبق قد يوحي بأنّه بالإمكان فتح المجال السياسيّ دون تنازلات، أو أن التعدّدية ممكنة دون تخلّي القوى السياسية والاتجاهات الإيديولوجية عن بعض قناعاتها المركزيّة، وهذا غير صحيح، فقيام المجال السياسيّ، من حيث هو مجال سياسيّ، يعني ضرورة ذلك، كما يوَضِّحُه النّقاش التالي.


ضرورة التفريق بين التنازل الضروريّ من أجل قيام سياسة من الأساس، وبين التنازل لخصم سياسيّ

ما يمكن أن نطمح إليه كعرب بخصوص المجال السياسي، هو الحد الأدنى متمثّلا في فتح أفق سياسيّ.

كما أشرنا في النقطة السابقة، فوجود كثير من القضايا التي تشكّل معالجتُها ضرورة ملحّة ويُتوقَّع أن تكون معالجتُها -في خطوطها العريضة على الأقل- محلّ إجماع، قد يؤدّي إلى الظنّ بإمكان تشكُّلِ مجال سياسيّ ذي معنى من دون تنازلات من جميع الأطراف، وهذا توهُّم كبير، فوجود مجال سياسيّ، من حيث هو مجال سياسيّ، يعني تنازلا من سائر الأطراف التي تريد أن تمارس السياسة وفق مقتضياتِها.

فوجود مجال سياسيّ، من حيث هو مجال سياسيّ، يعني تنازلا من سائر الأطراف التي تريد أن تمارس السياسة وفق مقتضياتِها.

ولتوضيح ذلك، نشدّد على أن المجال السياسيّ ما كان ليوجَدَ أصلا لو كان بالإمكان تدبير القضايا التي تُعالَج فيه ضمنَ مجال آخر. فمثلا، لو كان جميع السكّان في دولة ما متفقين على تصور متقارب جدا لقضية «تطبيق الشريعة»، ولو كانت الخلافات المحدودة فيما بينهم بخصوص هذا التطبيق مما يُمكن حلّه بالدعوة والتربية أو الاحتكام إلى موقف فقهي مُلزِم للجميع، لو تحقّق ذلك كلُّه في مجتمع ما، لما لزم أن تصبح قضيّة تطبيق الشريعة قضيّة سياسيّة، بل لبقيت محصورة في سياق فقهي دعويّ. لكن وجودَ مواطنين من ديانات أخرى، ووجودَ مسلمين علمانيين لا يؤمنون بأن بمقدور أي تصوّر إسلاميّ مطروح للدولة الحديثة أن يُدير شؤونهم العامة، ووجودَ اختلاف لا يمكن حسمُه فقهيا ولا دعويا بين الإسلاميين أنفسهم على معنى تطبيق الشريعة، كلّ ذلك يجعل من تطبيق الشريعة بالضرورة قضيّة سياسيّة، لا بدّ فيها من الاحتكام إلى مجال سياسيّ وتداول حرّ للآراء ووضع اعتبار للإرادة الشعبيّة العامة في حسم الخلافات.

وبالمثل، لو كان جميع السكّان متفقين على نظام للعدالة الاجتماعية، وليكن نوعا من النظام الاشتراكيّ على سبيل المثال، ولو كانت الاختلاف بينهم في وجهات النظر بخصوص هذا النظر مما يمكن حلُّه بالاحتكام إلى مرجعية فكرية ما، لما كان من حاجةٍ لجعل قضية العدالة الاجتماعية قضية سياسيّة، لكن واقع الحال أنّ البشر متفاوتون في مفاهيمهم للعدالة الاجتماعية، وتلعب اختلافاتهم الفكرية والمادية وغيرُها دورا كبيرا في مواقفهم من تطبيقاتها، ولذا فهي قضيّة سياسيّة بامتياز، ولا يمكن أن تُحلّ داخل أروقة حزب أو أكاديميا.

كثير من القضايا بالغة التقنية والتعقيد تُصبحُ قضايا سياسية إذا كان لها أثر اجتماعي عام لا يملك المختصون حق التصرف فيه.

بل إن كثيرا من القضايا بالغة التقنية والتعقيد تُصبحُ قضايا سياسية إذا لم يكن بالإمكان حسمُها بين المختصّين، بل يُمكن أن تتحول إلى قضايا سياسيّة حتى في وجود إجماع بين المختصّين بشأنها، إذا كان لها أثر اجتماعي عام ممّا لا يملك المختصّون الحقّ في التصرّف فيه. على سبيل المثال، قد يكون استخدام الطاقة النووية لتوليد الكهرباء مفضَّلا جدّا لدى سائر الاقتصاديين وخبراء الطاقة في دولة ما، لكنّ البيئيين يُعارضونهم بشدّة، هنا لا بدّ أن يكون للعموم قولٌ في الموضوع، أي تُصبح القضيّة سياسيّة لا تقنية.

بناء على ما سبق، فالتسليم بضرورة السياسة، وبضرورة وجود مجال سياسي مستقلّ عن الفقهي والدعوي والعلمي والأكاديمي، هو إقرار صادر عن شجاعة لا عن ضعف بأنّ هناك أسئلة معيّنة في المجتمع لا يُمكن حلّها داخل الأطر الأخرى، ولا بدّ لها من أن تُناقَش وتُتداوَل وتُحسَم داخل المجال السياسيّ.

وما دام الحديث عن الإسلاميّن تحديدا، فثمّة جملةٌ من القضايا التي يشكّل رضاهم بممارسة السياسة تسليما بها، وينبغي أن يكون هذا التسليم بها نابعا عن شجاعة وقناعة. لا نطمح هُنا إلى استقصاء هذه القضايا فهي أكثر من أن تُحصى، لكنّ من بينها التسليم بحقوق مواطنة متساوية لجميع سكان البلد على اختلاف طوائفهم وأديانهم، والاقتناع بأنّ القضايا السياسيّة لا تُقارَب بمدخل الحلال والحرام حتى وإن تعلّقت بحكم شرعي، فمن المتوقّع من حيث المبدأ أن يختار الجمهور ما يعتبره المسلم حراما، وفي حال حصول ذلك، فدور التربية والدعوة أن تُعالج السبب الذي يجعل الجمهور يُقرّ حراما، أما الدور السياسيّ فمختلف، ويشملُ أن يتعامل مع واقع الجمهور كما هو، طامحا إلى رفعه وترقيتِه إلى غايات السياسيّ المسلم العليا، ولكن بمداخل المصلحة العامة وتلافي الأضرار المجتمعية ومناعة الشعب أمام أطماع المستعمرين وتحقيق الاستقلال القيمي والمادّي، وهذه كلّها مداخل مشروعة للسياسيّ.

بالتالي، فهناك كثير من القضايا التي ينبغي أن يُجمَع على الخطوط العامة لمعالجتها بين الفرقاء السياسيّين، وهناك قضايا خلافيّة لدى كل طرف ينبغي تنحيتُها مرحليا لتدعيم المجال السياسيّ وتجنّب إرهاقه بالاستقطابات وهو لم يزل وليدا هشّا، لكنّ هذا لا يعني أبدا أنّ طرفا سياسيّا ما يمكن أن يخوض السياسة دون تنازلات مؤلمة، لكنّها تنازلات تقتضيها طبيعة السياسة، وليست بالضرورة استسلاما لخصم سياسيّ، والقبول بهذه التنازلات عن صدق وقناعة، لا بالخطابات المنافقة، أو بنصف عقل ونصف قلب، كما يفعل جميع من يدّعون الإيمان بالسياسة والديموقراطية من العرب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، هو شرطٌ ضروريّ للخروج من هيمنة العساكر والقبائل والمشايخ.