بعد المناقشات السّابقة، تظل قضيّة ختاميّة في غاية الأهمّيّة، وثيقة الصّلة بتصوّرات السياسة عند الإسلاميّين وتمثّلاتها، ونُحاجج أنّ لها أثرا كبيرا في مآلات تجارب الإسلاميين السياسيّة، ألا وهي التكييف النفسيّ لممارسة السياسة، أو طبيعة «المعالجة النفسيّة الداخليّة» التي تخوضُها الحركات الإسلاميّة قبل وأثناء ولوج المجال السياسيّ.

لا زال الإسلاميون ينجحون في إلصاق تُهمة «اللاسياسيّة» أو «اللاديموقراطيّة» بأنفسهم، على الرغم من أنهم سجلوا التزاما عمليا بالحلول السياسية أكثر من غيرهم من الاتجاهات العربية.

فعلى الرّغم من أنّ الإسلاميين سجّلوا التزاما عمليّا مشهودا بالحلول السياسيّة وقواعد اللعبة الديموقراطيّة، إلا أنّهم ينجحون باستمرار في إقناع أنفسهم أنّهم لم يفعلوا، ويستغلّ خصومُهم ذلك ببراعة. وفي حين أن الاتجاهات الإيديولوجية العربيّة الأخرى لم تقطع عمليّا الشوط الذي قطعته الحركات الإسلامية في القبول بقواعد السياسة، إلا أن الإسلاميّين ما يزالون ينجحون في إلصاق تُهمة «اللاسياسيّة» أو «اللاديموقراطيّة» بأنفسهم، وجزء معتبَر من ذلك يعود إلى ما سمّيناه «المعالجة النفسيّة الداخليّة» التي يتداولُها لإسلاميّون في حواراتهم بخصوص المشاركة السياسيّة، وتُصبح طابعا عامّا لتقويم الإسلاميين لأنفسهم، وتقويم خصومهم لهم.


القبول بالسياسة قرارا أخلاقيّا شُجاعا، في مقابل القبول بها مناورة بنصف عقل ونصف قلب

على الرغم من تنوع تجارب الإسلاميين السياسية وتعدّدها، إلا أنهم كانوا في الغالب يخوضونها باعتبارها نوعا من المناورة، أو من باب الرغبة في إثبات أنّ الآخرين –الغرب و«النظام الدولي» في الخارج وأصحاب الإيديولوجيات الأخرى في الداخل– لا يؤمنون حقّا بالسياسة والديموقراطيّة، وأنّهم لا يعترفون بتجربة سياسيّة أو ديموقراطية إلا عندما تكون نتائجُها في صالحهم، وأنّهم لا يطمحون من استدخال الإسلاميين في السياسة إلا إلى تقليم أظافرهم وسلخهم عن مبادئهم وقطع جذور انتمائهم لتراثهم تاريخيّا وعزلهم عن امتدادهم في الأمة جغرافيّا وثقافيّا.

لذا، كانت معظم تجارب الإسلاميّين السياسية تُخاض بنصف قلب ونصف عقل، وسرعان ما كان الإسلاميّون يلجؤون إلى مقولات من قبيل أنّ «الديموقراطية خدعة» أو «الديموقراطية كذبة»، ويعتبرون تآمر الغرب وخصومهم المحلّيين ضد إنجازاتهم الانتخابيّة دليلا على أنّ نمطا مُحدّدا من السياسة هو المُرحَّب به.

وبداية، فكثيرٌ ممّا يتّهمُ الإسلاميون به الغربَ وخصومَهم المحلّيين في هذا الصدد صحيحٌ ولا شكّ فيه، فلدى الغرب مصالحُ يريد أن يضمنَها ووكلاء محليون، سياسيون واقتصاديون وعسكريّون، يُفضِّلُهم على غيرهم، وصحيحٌ كذلك أن الاتجاهات العلمانية العربيّة تعتبرُ نفسها وصيّةً على السياسة والديموقراطية، وتُعامل الإسلاميّن معاملةَ الأستاذ للطالب، وتشترطُ على الإسلاميّين اشتراطات غريبة كي «يتأهلوا» -من وجهة نظر هذه الاتجاهات- لممارسة السياسة والانخراط فيها، على الرّغم من أنّ أكثر هذه الاتجاهات أقلّ ديموقراطيّة من الإسلاميّين، وأقل استعدادا منهم لتحمّل تبعات السياسة، وأقلّ التزاما بالممارسة الديموقراطية في الصفّ الداخليّ مما يلتزم به الإسلاميون داخل أحزابهم وهيئاتهم، وما تزال سائر الاتجاهات العلمانية العربية، ليبيرالية ويساريّة، تتحالف مع الرجعيّات العسكرية والقبليّة والدينيّة وتستقوي بها ضدّ الإسلام السياسيّ.

لا يُمكن العثور على قاعدة مُضطردة بخصوص تعامل الغرب مع تجارب الإسلاميّين السياسية.

وقد وضّحنا في المقالات السابقة أنّه ما من طرف إيديولوجي عربيّ يستحقّ أن يكون قيّما على السياسة أو وصيّا على الديموقراطية، وأن أكثر الاتجاهات العلمانية العربيّة لا تَفضُل الإسلاميّين بل تقلّ عنهم في ديموقراطيتِها والتزامها بمقتضيات السياسة، لكنْ رغم ذلك، يظلّ موقف الإسلاميين في هذا الصدد خاطئا، وعلينا أن نوضّح لماذا.

أوّلا، لا يُمكن العثور على قاعدة مُضطردة بخصوص تعامل الغرب مع تجارب الإسلاميّين السياسية، وإذا ما استثنينا نظرية المؤامرة التي تعتبرُ أن جميع تجارب الإسلاميّين التي تستمرُّ مرضيٌّ عنها غربيّا، فسنجد نماذج متعدّدة لإسلاميين -بمضامين مختلفة لهذا الوصف- خاضوا تجارب سياسيّة مهمّة، وتراوح موقف الغرب من هذه التجارب من العداء الواضح والسافر، إلى التحجيم والعزل، إلى المراوحة بين التحالف والتخاصم، إلى التعاون شبه الكامل. هناك النظام الإيرانيّ الذي يوصَف بأنه ثيوقراطيّ، وهناك تجربة العدالة والتنمية في تركيا وتوصَف بأنها تجربة لمحافظين قوميّين ليبيراليّين، وهناك تجربة ماليزيا التي تُمثّل محافظين ليبيراليّين كذلك، وهناك العدالة والتنمية المغربيّ الذي يمثّل إسلاميين ديموقراطيّين ويحكم منذ سنوات تحت مظلّة الملك، وهناك فترة حكم الإخوان القصيرة لمصر بعد الثورة، وهناك تجربة حماس. من الصعب الزّعم بوجود موقف غربيّ واحد من هذه التجارب، ومن الصعب تحديد العامل الحاسم الذي حكم علاقة الغرب بهذه التجارب، لكن يبدو أنّ الانسجام مع مصالح الغرب القريبة من التجربة أكثر تأثيرا في موقف الغرب من مدى التزام تجربة ما بمعايير فلسفيّة أو سياسيّة محدّدة للديموقراطيّة أو لطبيعة المجال السياسيّ.

فالنّظام الإيراني يبدو الأبعد من بين التجارب السابقة عن الديموقراطية الليبيرالية –نمط السياسة المهيمن في الغرب- لكنّ الغرب تعاون مع إيران بقوة في أفغانستان والعراق، وظلّت إثارته لقضيّة عدم ديموقراطيّة إيران أو انتهاكات حقوق الإنسان تستهدفُ الضغط على إيران لمزيد من التعاون أو الرضوخ للمطالب الغربيّة، أكثر منها اعتراضا فكريّا أو فلسفيا أو سياسيّا على عدم اتساق النظام الإيراني مع قواعد الديموقراطيّة.

بالتالي، يبدو الغرب أكثر انشغالا بضمان مصالحه من مراجعة أسس النظم السياسيّة وتقييم التزامها بالديموقراطية الليبيرالية، ولذا، فتصوير الانخراط في السياسة والمجال السياسيّ والرضا بمقتضيات ذلك على أنه مطلب غربيّ هو أمر غير دقيق. يُمكن أن يُقال إن دخول الإسلاميين في النظام السياسيّ يعني اضطلاعهم بمسؤولية نظم سياسيّة قائمة منذ عقود على الولاء للغرب والقيام بمهمّة الوكالة الأمنية والسياسية له، ومرتبطة بالاقتصاد العالمي وأدوات هيمنته ممثلة في البنك وصندوق النقد الدوليّين وغير ذلك، وهذا حِجاجٌ وجيه ومهمّ، لكنه مرتبِط بالوضع العام لدُولِنا وسياستِها الخارجيّة، وهو حصيلة تراكم طويل، وليسَ مرتبطاً بانخراط الإسلاميّين في السياسة أو قضيّة الفصل بين الدعويّ والسياسيّ؛ أو قبول الإسلاميّين بقواعد الممارسة والسياسيّة من عدمه، بل كان سيكون على الإسلاميّين أن يخوضوا السؤال نفسَه ويقوموا بالتنازلات التي يقتضيها الانخراط في السياسة حتى ولو كنّا نتحدّث عن دولة قوية وذات سيادة ومستقلّة عن التبعيّة للغرب.

أما بخصوص الاتجاهات العلمانية العربيّة، ففضلا عما قلناه سابقا، يحتاج الإسلاميّون إلى مراجعة عميقة لتصوّرهم عن موقف الجمهور العربيّ من رؤاهم وبرامجهم، هذا التصوّر الذي يستند إلى مقولات غير مفحوصة، أو مقولات لا يُعلَم مضمونُها على وجه الدّقّة، من قبيل أنّ المجتمعات العربيّة متديّنة بطبعِها، أو تريد أن تُحكَم بالإسلام، أو تريد أن يحكمَها الإسلاميّون. هذه التصوّرات تؤدّي إلى نتيجة منطقيّة مفادُها أن الشعوب مع الإسلاميّين، وبالتالي فلا حاجة بالإسلاميّين إلى الانخراط في السياسة وتقديم تنازلات للاتجاهات العلمانيّة التي لا تمتلك رصيدا شعبيّا تُمكن مقارنتُه بحضور الإسلاميّين الشعبيّ.

ومع أنّ رصيد الإسلاميّين الشعبيّ أوفر من غيرهم، وهو ما ظلّت تُثبِتُه الانتخابات الأولى في كلّ بلد، إلا أن خصوم السياسة وخصوم الإسلاميّين كانوا يتحالفون دائما لإفشال العمليّة السياسيّة –لا إفشال الإسلاميّين فحسب- بعد الانتصارات الانتخابيّة للإسلاميين. حدث هذا بطرق مختلفة، مثل العودة لقانون الصوت الواحد في الأردن بعد إنجاز الإسلاميين الكبير في مطلع التسعينيّات، ومثل الحصار الذي فُرض على الفلسطينيّن بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعيّة، ومثل الانقلاب على محمد مرسي في مصر، والتأزيم التآمري وغير السياسيّ لحركة النهضة في تونس بعد إنجازها الانتخابي بُعيد الثورة. هذا الإفشال غير السياسيّ للإسلاميّين -أي الإفشال بأدوات غير سياسيّة من قبيل الانقلاب والحصار الاقتصادي وتعديل الدساتير بغير استفتاءات أو برلمانات حقيقيّة- حرم الشعوب العربيّة والإسلاميّين على السواء من فرصة أن يخوضَ الإسلاميّون تجارب سياسيّة حقيقيّة ومكتملة، تؤدّي بهم -أي الإسلاميّين- إلى اختبار حدود السياسة ومتطلباتها وضروراتها وممكناتها، وتعطيهم بالتالي فرصة أن يكتشفوا المدى الذي يُمكن أن تذهب إليه الشعوب العربيّة في تأييدها لحكم الإسلاميّين، وما هي الصيغ الممكنة والمقبولة من «الحكم الإسلامي» أو «حكم الإسلاميّين» التي يمكن أن تصمد لدورات انتخابيّة متلاحقة.

تجارب الانقلاب على الديمقراطية ينبغي أن تقرأ باعتبارها تآمرا لا دخولا إلى حيز هو من حق فئة معينة نختبر صدق ناوياها في استدعائنا لممارسة نشاط فيه.

هذه التجارب ينبغي أن تُقرأ باعتبارها تآمرا من قوى مستبدّة ورجعيّة وغير سياسيّة ضدّ حيّز تمتلكه الأمّة ومن حقّها أن تمارس نشاطَها فيه، هو الحيّز السياسيّ، لا أن تُقرأ باعتبارِها دخولا إلى حيّز هو من حق الآخرين الذين نريد أن نختبر صدق نواياهم في استدعائنا لممارسة نشاط فيه. المجال السياسيّ حقٌّ وضرورة لكلّ أمّة، وليس ملكا لفئة فيها ولا ملكا لأعدائها. هو حيّزٌ ذو شروطٍ خاصة، ويتطلّب استعدادات خاصّة وتنازلات خاصة، لكنّها تنازلات تقدّمُها الأمة لنفسها، أو تقدّمُها مكوّنات الأمة لبعضِها، لا لعدوّ خارجيّ أو مستبد داخليّ.

تجارب الإسلاميين فشلت إذا لمزيج من سببين، أولُهما هو أنّ الإسلاميين لم يستعدّوا بقدر كافٍ لمتطلّبات المجال السياسيّ بما هو مجال سياسيّ، وثانيهما أنّ مجالنا السياسيّ محتلّ ومنتهَك ولم تتحدّد معالمه المكتملة بعد. بالتالي فخوضُ السياسة قرارٌ أخلاقيّ شُجاع بوجهيه:

  • هو قرار أخلاقي شجاع بمواجهة الهيمنة الخارجية والاستبداد الداخليّ على مجالنا السياسيّ وانتهاكه، أملا في تحريره واستعادته مجالا حيويّا للأمة.
  • هو قرار أخلاقيّ شجاع بالتوافق والتقاسم مع مكونات الأمة، الدينيّة والمذهبية، والعرقيّة والطائفيّة، والفكريّة والإيديولوجية.

ومسعى من هذا النوع لا يمكن أن يكون مناورة، بل هو جهد تاريخيّ جبّار يجب أن يضطلع به الإسلاميّون بوصفهم مكونا أساسيّا في الأمّة. وبطبيعة الحال، فهذان الوجهان للقرار الأخلاقي الشجاع بممارسة السياسة يحتاجان مقاربات مختلفة واستعدادات نفسية مختلفة، وكثيرا ما أدى الخلط بين مواجهة مستلبي المجال السياسي للأمة من مستبدّين ومستعمرين، وبين الخصومة السياسيّة الطبيعيّة مع مكوّنات الأمة وفرقاء مجالها السياسيّ المأمول، إلى مزالق نظريّة وعمليّة شديدة الخطورة ومستمرة الآثار.

السلسلة كاملة يمكن تحميلها في ملف واحد بصيغة PDF من (هنا) أو (هنا)