(1)

(صيف 2010، لانغلي، ولاية فرجينيا، مكتب مُدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA)

اتصل مدير الوكالة؛ «ليون بانيتا»، بنظيره الروسي «ميخائيل فرادكوف»، رئيس جهاز المخابرات الخارجية الروسي.

بانيتا التقى مرة في السابق بفرادكوف؛ تناولا العشاء معاً في واشنطن، وقبل نهاية الوجبة، سأل بانيتا رفيقه عما يُعتقد أنه أكبر فشل استخباراتي لروسيا، سكت فرادكوف، ثم رد: «بينكوفسكي».

فخلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كان أوليج بينكوفسكي عقيداً في الاستخبارات العسكرية الروسية GRU. وتجسّس عليها لصالح وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والاستخبارات البريطانية. وجّهت معلوماته عن الصواريخ الروسية إدارة كينيدي خلال أزمة الصواريخ الكوبية، وتم القبض عليه من قبل السلطات السوفيتية.

خلال المُكالمة الهاتفية؛ عرض بانيتا صفقة لتبادل عشر عملاء نائمين روس كانوا يعملون في الولايات المتحدة، وقد وقعوا منذ أيام، بينهم الجاسوسة الروسية الفاتنة؛ «آنا تشابمان».

«هؤلاء لك»، قال بانيتا، وأضاف: «سوف نحاكمهم، قد يكون الأمر مُحرجاً إليكم للغاية، لديك ثلاثة أو أربعة أشخاص نريدهم، وأقترح صفقة».

وافق الروس، وأعطى بانيتا لروسيا أربعة أسماء، أحدهم لم يسمع به رئيس الاستخبارات الروسية، وهو «سيرجي سكريبال».

سكريبال كان ضابطاً سابقاً في الاستخبارات العسكرية الروسية، اتهم بالتجسس لصالح الاستخبارات البريطانية. لا توجد معلومات عن كيفية إيقاع الروس به. اعترف بنقل معلومات سرية إلى ضابط استخبارات بريطاني. لكن في الاستئناف التفصيلي الذي قدمه؛ قال إنه أخطأ في اعتبار الضابط رجل أعمال، عرض عليه ببساطة العمل في شركته في الخارج بعد تقاعده من السلك الدبلوماسي.

ولأنه كان سمكة صغيرة (Little Fish) مُنح عقوبة مُخففة.

حافظت عائلة سكريبال على سرية عارها. حتّى إنّ جاراً لهم افترض أن سكريبال ترك زوجته لأجل امرأة أخرى، وكان مُحرجاً أن يسألهم.

اضطرت العائلة إلى تسول المال، وتوسلت زوجته إلى قائمة طويلة من المسئولين العسكريين الروس –حتى وزير الدفاع نفسه- لاستعادة معاش زوجها التقاعدي. حتى شقة الأسرة كانت تنهار، والجدران مُتسخة ومُلطخة.

(2)

فتح حُرّاس السجن في جمهورية موردوفيا الروسية زنزانة سكريبال، طلبوا منه أن يجمع أغراضه. تم نقله إلى سجن ليفورتوفو في موسكو، حيث التقى عائلته لفترة قصيرة. وفي التاسع من يوليو/تموز 2010 شُحن على متن طائرة صغيرة من طراز ياك تابعة لوزارة الطوارئ الروسية، كان معه ثلاثة سجناء آخرين. ظلّ الجميع صامتين طوال الطريق إلى فيينا، وهناك صعدوا طائرة فيجين إيرلاينز 737 مُستأجرة من قبل حكومة الولايات المتحدة، بعد الإقلاع قاموا بتفجير زجاجات الشمبانيا.

علّق بوتين على صفقة التبادل في التلفزيون مُباشرةً:

شخص يضحي بحياته كلها من أجل وطنه، ثم يأتي أحد الأوغاد ويخونهم، كيف سيتمكن من النظر في عيون أطفاله. أياً كان ما حصلوا عليه مقابل الثلاثين قطعة من الفضة التي أخذوها، فسوف يختنقون بها، سيعانون حتى لو لم يموتوا، سيتعين عليهم إخفاء حياتهم كلها، مع عدم القدرة على التحدث مع الآخرين، حتّى أحباءهم.

شد بوتين ظهره وربّع كتفيه وتحدث مباشرة إلى الكاميرا، وختم بالقول:

أتعلم، من يختار هذا المصير سيندم عليه ألف مرة.

بعد فترة وجيزة من التبادل، سأله صحفي:

هل تعرف أسماء الخونة الذين خانوا رفاقهم؟

أجاب بوتين: «بالطبع».

«هل ستُعاقبهم؟»

«سؤال خاطئ يا سيد»، رد بوتين بشكل غامض، وأضاف: «هذا لا يمكن تقريره في مؤتمر صحفي».

(3)

(مرت ثماني سنوات… من وإلى سالزبوري، الثاني من مارس/أذار 2018)

الساعة الثالثة مساءً، وصل المدعوون إلى مطار جاتويك في لندن: «ألكسندر بتروف» و«رسلان بوشيروف»، وهما اسمان مُستعاران لضابطين روسيين يخدمان في مُديرية المخابرات الرئيسية (المخابرات العسكرية)؛ الوحدة 29155، وقد دخلا البلاد في مُهمة سرية.

إذن هما ضابطان في المخابرات العسكرية ويقومان بمهمة خارجية! كيف ذلك؟

حسب النظام السائد في إدارة الأجهزة الاستخباراتية للدول، هناك المخابرات الخارجية والمخابرات الداخلية والمخابرات العسكرية؛ المخابرات الخارجية وظيفتها حماية الدولة من الأخطار الخارجية، وقيادة العمليات الاستخباراتية خارج حدود الدولة، أمّا المخابرات الداخلية؛ فتعمل على حماية الدولة من الداخل، والمخابرات العسكرية نطاق علمها الجيش وضباط الجيش.

في روسيا هناك خمسة أجهزة مخابرات، منها وكالتان تختصان بالاتحاد الفيدرالي، والثلاث وكالات الأخرى هي:

والأجهزة الثلاثة لها أنشطة خارج روسيا.

وصل بتروف وبوشيروف الفندق بعد السابعة مساءً، ومعهما زجاجة عطر، بداخلها «نوفيتشوك»، أخطر غاز أعصاب عرفته البشرية. وفي اليوم التالي؛ الساعة 11:45 صباحاً، ركبا القطار المُتجه إلى مدينة سالزبوري؛ جنوب إنجلترا، لاستطلاع الهَدف.

في تقديري؛ ليست هذه مَهمة الاستطلاع الأولى، بالتأكيد أتى ضابط استخبارات آخر أو أكثر قبل أيام لاستطلاع الهَدف، وأخذ الصور اللازمة، وطار كلّ شيء بالبريد المُشفر إلى موسكو، وبناءً عليها تم وضع الخطّة المُناسبة، وتلقينها إلى بتروف وبوشيروف، وربما ظلّ فريق الاستطلاع الأول في سالزبري للمُساعدة، ورصد نتائج العملية. وقد ذهب بتروف وبوشيروف إلى سالزبوري للاستطلاع النهائي قبل العملية مُباشرةً، والتأكد أنّ تغيراً لم يمس الهَدف ومَسرح الجريمة، كغياب عن المنزل لسفر طارئ أو وضعه خلف حراسة أو أسوار وغيرها. يؤكد هذا استخدام أحدهما شريحة هاتف غير مُسجلة، وتطبيقات واتساب وتيليغرام للتواصل مع قيادته في موسكو، ومع عميلين روسيين كانا في سالزبوري؛ وهما فريق الاستطلاع الأوّل.

تأكد بتروف وبوشيروف أنّ كل شيء يسير طبقاً للخطّة. وفي نفس اليوم عصراً وصلت ابنة سكريبال إلى لندن، اتجهت جوليا مُباشرة إلى منزل والدها، توّد اقتناص مُباركته على زواجها.

مساءً استقل بتروف وبوشيروف القِطار العائد إلى لندن. وفي اليوم التالي، عادا إلى سالزبوري. الساعة 11:58 صباحاً، رصدتهما إحدى كاميرات المُراقبة بالقرب من منزل سكريبال. وضعا الغاز السام على باب المنزل، ثم تخلصا من زجاجة العطر، ورماها أحدهما في سلة مُهملات خيرية. واتجها ناحية محطّة القطار والابتسامة على وجهيهما.

الساعة 1.30 مساءً، غادر سكريبال وابنته المنزل، تناولا مشروباً في إحدى الحانات، ثم وجبة خفيفة في مطعم. وبقيا حتى الساعة 3.35 مساءً.

(4)

(مدينة سالزبوري، الرابع من مارس/آذار 2018، الساعة 4:15 مساءً)

أنهت «فريا تشيرش» عملها في صالة Snap Fitness الرياضية. في طريقها صادفت عجوز وشابة على مقعد حديقة عامة، كانت الشابة تتكئ على العجوز. قالت إلى BBC، إن الرجل كان يحدق في السماء، كما لو أنه رأى شيئاً فيها، ويديه تقوم بحركات غريبة ومتشنجة، ورغاو بيضاء تسد فم العجوز والشابة. لم يفهم أحد أنّ هذه أعراض التسمم بغاز سام. أرجعوا السبب إلى الخمر أو إدمان المُخدرات. وفي النهاية؛ نُقل سكريبال وابنته إلى المُستشفى. وفي الساعة 10:30 مساءً، استقل بتروف وبوشيروف الطائرة إلى موسكو.

(5)

أعلنت بريطانيا الخبر واتهمت روسيا. مُباشرة قامت حرب دبلوماسية بين روسيا والغرب. أعلنت بريطانيا تعليق الاتصالات الثنائية، وطرد دبلوماسيين روس، ومقاطعة كأس العالم في روسيا. وطردت أمريكا 60 دبلوماسياً روسياً كانوا يعملون في السفارة الروسية. وقيّدت إمكانية وصول المصارف الأمريكية إلى سوق الديون السيادية الروسية، وفرضت قيوداً على صادرات السلع والتكنولوجيا إلى موسكو. دخلت دول أوروبية أخرى وطردت دبلوماسيين روس وأعلنت عقوبات على روسيا. بالنهاية قامت 26 دولة بطرد 143 دبلوماسياً روسياً.

لماذا هذه الحرب الدبلوماسية؟

السبب الأول، ردع روسيا عن عمليات قتل في المُستقبل.

السبب الثاني؛ بمحاولة القتل هذه، خالفت المخابرات الروسية مدونة السلوك، وهي مجموعة من القواعد تُنظم التعامل بين أجهزة المخابرات في العالم، ما حَدث قد يؤدي إلى انهيار نظام تبادل الجواسيس.

باختصار؛ روسيا ألقت القبض على مواطن جاسوس، وأصبح في قبضتها، ثم عقدت صفقة مع الغرب، وأفرجت عن الجاسوس وقبضت الثمن، ثم حاولت قتله، فما فائدة الصفقة إذن؟!

وهنا أُشير إلى أنّ إسرائيل أفرجت عن الشيخ أحمد ياسين في صفقة لتبادل الأسري، ثم قصفت سيارته واغتالته.

(6)

(عودة إلى الوراء)

بدلاً من التقاعد والعيش في هدوء، وزراعة حديقة البيت، والشعور بالملل وعدم الفائدة، سافر سكريبال بانتظام في مهام سرية نظمتها الاستخبارات البريطانية MI6، وقدّم لأجهزة المخابرات الأوروبية والأمريكية معلومات عن المخابرات العسكرية الروسية GRU. وقام بزيارات متكررة للتشاور مع جهاز التجسس CNI في إسبانيا، وسافر إلى إستونيا وجمهورية التشيك، من بين أماكن أخرى.

ومرة كل شهر يلتقي سكريبال رجلاً أنيق الملابس، يتحدث الروسية بطلاقة، واعتادا الجلوس في المطعم بجوار النافذة المُطلة على الخليج. تقول التخمينات إنّ الرجل الغامض، كان المسئول السابق عن سكريبال في جهاز المخابرات البريطانية MI6 (ضابط الحالة). إذن؛ بعد الإفراج عنه، ما زال سكريبال يخون روسيا، ويعمل ضدها. فهل هذا مُبرر لاغتياله؟

(7)

(مجلس العموم البريطاني)

وقفت رئيسة الوزراء «تيريزا ماي»، قالت في خطابها؛ إن الرجلين اللذين يستخدمان اسمي «ألكسندر بيتروف» و«روسلان بوشيروف» هما المُتهمان الرئيسان، ويُرجح أنهما ضابطان في المخابرات العسكرية الروسية GRU.

أكّد بوتين أنّهما مدنيان ودعاهما إلى الخروج للحديث لوسائل الإعلام. بعد يوم واحد فقط من تعليق بوتين، أجرى الاثنان مقابلة تلفزيونية، وادعيا أنهما (مجرد سائحين) كانا يزوران سالزبوري بسبب اهتمامهما بكنيستها البالغ طول برجها 123 متراً، وسخر كثيرون في روسيا وبريطانيا من روايتهما.

حدد موقع «بيلينكات» الاستقصائي أنّ أحدهما هو العقيد «أناتولي تشبيغا»، ضابط في المخابرات العسكرية الروسية GRU، وقال الموقع، إن بوتين بنفسه منحه ميدالية بطل الاتحاد الروسي عام 2014. وحصل الموقع على أدلة على عمليات دولية أخرى نفّذها الفريق نفسه، مما يبدو أنّه نموذج دائم لعمليات GRU. أظهر التحقيق أن أحدهما كان موجوداً في بلغاريا عام 2005، عند تسميم تاجر أسلحة محلي أظهر الأعراض نفسها.

(8)

(ومرت ثلاثة أشهر)

في السابع والعشرين من يونيو/حزيران 2018، رأى «تشارلي رولي» زجاجة عطر مهملة في سلة مهملات خيرية، التقطها الرجل الذي يبلغ من العمر 45 عاماً، وأعطاها هدية إلى صديقته «دون ستورجس»، تظل زجاجة العطر مُهملة حتى نهاية الشهر، حينما يُقرران تجربة العطر، أو بالأدق الغاز السام، يتم نقل رولي وصديقته إلى المستشفى، وفي الثامن من يوليو/تموز فارقت «دون ستورجس» الحياة، تاركة خلفها ثلاثة أطفال، أمّا رولي فاستعاد وعيه بعد ثلاثة أيام، ودل الشرطة على زجاجة العطر ونوفيتشوك.

بحسب الرواية الإنجليزية يختبئ بطل الحكاية الآن خلف ستار حديدي. لكنّ ابنة أخته قالت لمحطة RT الروسية، إنه مات في الهجوم بغاز الاعصاب، والسُلطات البريطانية تتستر على الأمر، وأضافت: «ربما لا تزال جوليا على قيد الحياة لكن سيرجي سكريبال مات بالتأكيد».

سكريبال لم يتصل أبداً بوالدته من بعد الهجوم، التي قضى عليها فيروس كورونا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.