في بدايات العصر الأموي، وُجد جيل من التابعين في المدينة المنورة، أخذوا علم الرسول عن الصحابة، وعُرفوا بفقهاء المدينة السبعة، فكانوا يصدرون الفتاوى وآراءهم في أمور الدنيا والدين، غير أنهم لم يكونوا بمعزل عن أمور الخلافة واضطرابات المشهد السياسي التي سادت آنذاك.

ويذكر الدكتور محمد إبراهيم الجيوشي في كتابه «فقهاء المدينة السبعة»، أن الصحابة جدّوا في نشر علم الرسول وتبليغه للناس، وتلقى الجيل الذي يلي الصحابة عنهم هذا العلم، وعُرف هذا الجيل في تاريخ الفكر الإسلامي باسم «التابعين».

وكانت المساجد في الأمصار المختلفة ميدانًا لحلقات الدروس التي يتلقاها التابعون عن الصحابة اقتداء بما كان عليه الرسول في مسجد المدينة، وعرفت الأمصار المختلفة أعلامًا من علماء التابعين حملوا العلم وقاموا بنشره وتعليم من يليهم ممن سموا «تابعي التابعين».

آراء ملزمة للقضاة والحكام

وبحسب «الجيوشي»، ترك هؤلاء التابعون بصماتهم في مجالات المعرفة المختلفة، وكان من جيل التابعين في المدينة جماعة عُرفوا بـ«فقهاء المدينة السبعة»، وهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبدالرحمن، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار، وأخذ هؤلاء علمهم من علماء الصحابة ومفتيهم، من أمثال زيد بن ثابت، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عباس، بحسب «الجيوشي».

ويذكر «الجيوشي»، أن هؤلاء الفقهاء كانت تنتهي إليهم القضايا ليحكموا فيها، فكانوا يصدرون حكمًا عن رأي جماعي،  فإذا عُرضت قضية من القضايا اجتمعوا، وأخذوا يستعرضونها من جوانبها المختلفة ثم يصدرون رأيًا واحدًا حولها يكون له صفة الإلزام، فلا يمكن لقاض ولا حاكم أن يخرج عليه أو يحكم بما سواه.

ورغم هذه المكانة الدينية الكبيرة التي تمتع بها الفقهاء السبعة، فإنهم لم يكونوا بمعزل عن المشهد السياسي، والاضطرابات التي سادت آنذاك ووصلت إلى الاقتتال بين المسلمين بعضهم البعض.

سعيد بن المسيب: محنة سيد التابعين

ويستعرض وجيه لطفي ذوقان في دراسته «ولاية العهد في العصر الأموي (41هـ/ 661م – 132هـ / 750م)» سيرة سعيد بن المسيب، أحد فقهاء المدينة السبعة، وكان يلقب بـ«سيد التابعين»، إذ جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع، وكان واسع العلم، ولا يقبل جوائز أو هدايا من السلاطين والحكام.

عاش ابن المسيب في فترة عصيبة شهدت صراعًا على الحكم بين الأمويين والزبيريين، فكان مقر حكم الزبيريين بمكة ومقر حكم الأمويين بدمشق، ولم يكن ابن المسيب راضيًا عن هؤلاء ولا أولاء.

ويروي «ذوقان»، أن ابن المسيب كان له موقفه الخاص من نظام ولاية العهد الذي جاء به الأمويون، ففي حين عاب على معاوية بن أبي سفيان إحداثه نظام ولاية العهد، وتحويل الخلافة إلى مُلك، إلا أنه بعد وفاة معاوية بايع يزيدًا بالخلافة، ودخل في طاعته، وذلك حفاظًا على الجماعة، ورفض أن ينقض بيعته ليزيد عندما ثار أهل المدينة عليه عام 63هـ في وقعة الحرة، فلزم المسجد ولم يفارقه، وكان يقول «ما رأيت خيرًا من الجماعة».

كما رفض سعيد بن المسيب أن يبايع عبدالله بن الزبير، إلا إذا اتفقت عليه الجماعة، وبايعت له الأمة، وهذا ما جعل جابر بن الأسود ابن عوف الزهري عامل ابن الزبير على المدينة يضربه ستين سوطًا لرفضه ذلك، وأسهم هذا الأمر في عزل «الزهري» عن المدينة.

وعندما وجه مروان بن الحكم جيشا من فلسطين لمحاربة عبدالله بن الزبير، نصح بعضُ الناس سعيد بن المسيب بالخروج من المدينة، إلا أنه رفض ذلك، ولم يستجب له لأنه كان يريد أن يبقى مع الجماعة.

ورغم أن سعيد بن المسيب بايع عبدالملك بن مروان بعد القضاء على ابن الزبير، وبعد أن أجمع الناس على عبدالملك، فإنه رفض طلب عبدالملك بن مروان بأخذ البيعة لولديه «الوليد» و«سليمان» وجعلهما وليي عهده، وقد شكلت هذه الحادثة بداية لما عُرف بـ«محنة سعيد بن المسيب».

وعزا ابن المسيب رفضه هذه البيعة لعدة أمور، منها عدم وجود نص شرعي يستند عليه، وحتى لا تكون هذه البيعة حُجة عليه يوم القيامة، خصوصًا بعد ما قام به عبدالملك من قتل عمرو بن سعيد بن العاص سنة 70هـ وإبعاد خالد بن يزيد عن ولاية العهد من أجل تبرير البيعة لولديه، إذ كانت القبائل الأموية قد اتفقت وقتها على أن يتولى خالد ثم عمرو الخلافة من بعد ابن الحكم، لكن الأخير تجاوز الاثنين وولى ابنه عبدالملك، فغضب عمرو وخرج على عبدالملك فما كان من الأخير إلا أن قتله، ثم أبعد خالدًا عن ولاية العهد.

كما برر ابن المسيب رفضه بأن عبدالملك ما زال على قيد الحياة، وأنه لا يبايع لأولاده ما دام عبدالملك حيًا، واستند في موقفه هذا إلى ما يُروى عن الرسول بأنه حرم البيعة لخليفتين في وقت واحد، وأمر بالوفاء لأولهما، وضرب عنق الثاني.

ولما كتب عبدالملك إلى عامله على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي ليأخذ البيعة من أهل المدينة للوليد وسليمان، كره ذلك سعيد بن المسيب، وقال «لم أكن لأبايع بيعتين في الإسلام، بعد حديث سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»، أنه قال: «إذا كانت بيعتان في الإسلام فاقتلوا الأحدث منهما». وقال ابن المسيب «لا أبايع وعبدالملك حي»، ما أدى إلى ضربه ضربًا مبرحًا، وطاف به عامل عبدالملك في المدينة ثم أودعه السجن.

وبحسب «ذوقان»، رفض ابن المسيب طلب عبدالملك بتزويج ابنته إلى الوليد بن عبدالملك حين استخلفه وولاه العهد، وكان هذا الرفض ناتجًا عن ورعه ومعارضته لسياسة الأمويين، فأمر عبدالملك بتأديبه حيث ضُرب مائة سوط وصُب عليه الماء في يوم بارد ومُنع الناس من مجالسته.

عروة بن الزبير: من مناصرة أخيه إلى الاحتماء ببني أمية

اختلف المؤرخون في تاريخ ولادة عروة بن الزبير، فقيل إنه وُلد في خلافة عمر بن الخطاب، ورجح ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية» أنه وُلد عام 23هـ. وأبوه هو الزبير بن العوام من حواري الرسول، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، وخالته أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر.

عايش عروة الاضطرابات السياسية التي شهدتها الدولة الإسلامية، والصراع على الحكم بين الأمويين والزبيريين وشيعة علي بن أبي طالب. يروي الدكتور حسين عطوان في كتابه «الفقهاء والخلافة في العصر الأموي»، أن عروة بن الزبير كان يرى في أول الأمر أن الإمامة شورى بين قريش، شأنه في ذلك شأن أخيه عبدالله بن الزبير، حتى إنه أيّد طلب أخيه عبدالله للخلافة، وسعى في أخذ البيعة له ممن عارضه من سادة أهل المدينة الذين عاذوا بمكة بعد وقعة الحرة، مثل محمد بن الحنفية.

وعندما أحاط جيش أهل الشام بعبد الله بن الزبير في الحصار الثاني بمكة، وأوشك أن يهزمه ويفتك به، أشار عروة على أخيه أن يخلع نفسه ويبايع عبدالملك بن مروان، فلم يقبل عبدالله مشورته، بل أنكرها أعظم الإنكار، وأصر على القتال الشديد أشد الإصرار، حتى قضى عليه الحجاج بن يوسف، وإزاء ذلك لم يجد عروة بدًا من السير إلى الشام، ومبايعة عبدالملك.

أبو بكر بن عبد الرحمن: راهب قريش وصديق الأمويين

وُلد أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث في خلافة عمر بن الخطاب، وسمي «راهب قريش» لكثرة صلاته ولفضله، وعندما كبر صار سيدًا من سادات قريش علمًا وكرمًا وسخاء وأمانة وسداد رأي، وكان ذا منزلة عالية عند عبدالملك بن مروان، حتى إنه عندما حضرته الوفاة أوصى ابنه الوليد قائلًا «يا بني، إن لي بالمدينة صديقين، فاحفظني فيهما، عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، وأبا بكر بن عبدالرحمن» ، وكان يقول أيضًا «إني لأهم بالشيء أفعله بأهل المدينة لسوء أثرهم عندنا، فأذكر أبا بكر بن عبد الرحمن فأستحي منه، فأدع ذلك الأمر»، أي أنه كثيرًا ما ينوي أن يفعل السوء بأهل المدينة لموقفهم المناوئ من الأمويين إلا أنه كان يعرض عن ذلك بسبب أبي بكر.

ويذكر «الجيوشي» في كتابه المذكور آنفًا، أن مكانة أبي بكر هذه كانت تجعل الناس يقدمون إليه يسألونه أن يعاونهم في سداد ما حّل بهم من مغارم، لما عُرف عنه من المسارعة في مثل هذه الأمور، إذ كان يستعمل صداقته لعبدالملك بن مروان في عون أصحاب الحاجات من ذوي السلطان والجاه.

ولما فسد الأمر بين سعيد بن المسيب وإسماعيل بن هشام المخزومي والي المدينة أيام عبدالملك بن مروان، حاول أبو بكر أن يكسر حدة الخلاف، ويوقع الصلح بين سعيد والوالي، لكن سعيد واجهه بعنف وهو في محبسه، غير أن أبا بكر لم يتأثر منه، لأنه كان يريد إزالة الجفوة بينهما، فقد كان هادئ الطباع يحب أن يعالج الأمور دون تحد أو عناد، وذلك على النقيض من ابن المسيب الذي كان حاد الطباع، وجرّت عليه صلابته كثيرًا من المتاعب والآلام.

توفي أبو بكر سنة 94هـ هجريًا على الأرجح، وكانت تُسمى «سنة الفقهاء» لكثرة من توفي منهم فيها.

عبيدالله بن عتبة: في كنف الأمويين بعد الثورة عليهم

كان عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود عالمًا فقهيًا تقيًا، وكان شاعرًا رقيقًا غزلًا، ذا حس مرهف، وعاطفة جياشة. ويذكر «الجيوشي»، أن عبيد الله اشترك في ثورة ابن الأشعث ضد الحجاج بن يوسف الثقفي سنة 81هـ، وهرب بعد هزيمة ابن الأشعث، فلجأ إلى محمد بن مروان بن الحكم في مدينة نصيبين (تقع في تركيا الآن) فمنحه الأمان، ووكل إليه بتعليم وتأديب ولديه «مروان» و«عبدالرحمن».

وكانت صلة عبيدالله بعمر بن عبدالعزيز وثيقة، إذ كان معلمه لسنوات وتلقى على يديه العلم والحديث والأدب، وله عليه من الحقوق ما للأستاذ على تلميذه، ولعل هذا هو سبب الإجلال والتقدير اللذين يبدوان دائما في حديث عمر عن عبيدالله، ويروى أنه قال ذات مرة «لأن يكون لي مجلس من عبيدالله أحب إليّ من الدنيا وما فيها»، ولما ولي الخلافة قال «لو كان عبيدالله حيا ما صدرت إلا عن رأيه».

ولعل المزاج المشترك بين الرجلين كان يجمع بينهما، فقد كان عمر في شبابه مترفًا مولعًا بالغناء مع علم وعفاف وتقي ودين، ومن المرجح أن تكون روح الشاعر التي تلّون حديث عبيدالله هي التي قربته من قلب عمر، وقد توثقت لما كان عمر واليًا على المدينة.

ورغم ذلك لم تمنع هذه الصلة عبيدالله أن يجابه عمر بما يراه أنه قد أخطأ فيه، وأن يحاسبه عليه حسابًا أقل ما يوصف به أنه ليس فيه مجاملة، ولا حتى لطف في توجيهه إلى الصواب، وكان ما يمتاز به عمر من متانة الخلق والدين واستقامة المسلك ما يجعله يحفظ لأستاذه منزلة الأستاذية من غير أن تأخذه عزة الحكم ولا سلطة السلطان، بحسب ما ذكر «الجيوشي».

حدث ذلك في أكثر من واقعة، منها ما جرى على لسان عمر في صدر شبابه ما يُفهم منه أنه عيب في بعض الصحابة، وذلك بحكم انتسابه لبني أمية، وما كان يجري في مجالسهم، فلبغ ذلك عبيدالله، وكان من عادة عمر أن يتردد عليه، ويأتي مجلسه من حين لآخر.

وكان عبيد الله يتلقى عمر بالبشر والترحاب والإقبال عليه بما يليق برجل في مثل مكانته ومركزه وسلطانه، إلا أن عبيدالله بعدما بلغه ما نُسب إلى عمر من الوقوع في بعض الصحابة لم يلتفت إليه حين جاءه، ولم يستقبله بالترحاب والبشاشة التي عهدها منه، فأقبل عمر على عبيدالله يسأله عن سبب هذا التغير، فقال عبيدالله: أتتهم الله في علمه؟ فأجاب عمر: أعوذ بالله، فقال عبيدالله: أتتهم رسول الله في حديثه؟ فأجاب عمر: أعوذ بالله، فعّقب عبيدالله قائلًا: يقول الله عز وجل «لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة»، وأنت تقع في فلان، وهو ممن بايع، فهل بلغك أن الله سخط عليه بعد أن رضي عنه؟ فأجاب عمر وهو مذعن للحق: «والله لا أعود أبدًا».

القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: مستشار بني أمية

ولد القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق في خلافة علي بن أبي طالب (35 – 40هـ)، وتربى في كنف عمته عائشة أم المؤمنين بعد وفاة والده سنة 38هـ، وكان ملازمًا لها وتعلم غالبية رواياته وعلومه عنها، كما تلقى علومه على أيدي بعض كبار الصحابة والتابعين الذين عاصرهم في المدينة المنورة التي نشأ فيها وتربى، بحسب ما ذكر محمد عبدالعزيز القطاونة في دراسته «القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ودوره في تدوين السير والمغازي».

وشهدت الفترة التي عاش بها القاسم بن محمد انتقال السلطة إلى الأمويين بعد أن مرت الدولة الإسلامية باضطربات كثيرة، انتهت بتولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة (41 – 60هـ)، وانتهت الاضطرابات في الحجاز بعد المبايعة ليزيد بن معاوية بالخلافة (60- 64هـ).

ويذكر «القطاونة»، أن مكانة القاسم وسيرته العلمية كان لها الأثر الكبير في تقدير خلفاء بني أمية وولاتهم له، فكانوا يستشيرونه، فعندما كان يحج سليمان بن عبدالملك (96- 99هـ ) كان يحج يدعو العلماء ويجتمع بهم، وكان من ضمنهم القاسم بن محمد.

كما كان عمر بن العزيز يأخذ بمواعظ القاسم وإرشاده، وكان يكتب إلى واليه على المدينة أبي بكر بن حزم (ت 120هـ)، أن يكتب له العلم من عند عمرة بنت عبدالرحمن، إحدى التابعات، وكذلك القاسم بن محمد. وبحسب «القطاونة» كان القاسم لا يقبل هدية الأمراء فزادته هذه مهابة وتقديرًا.

خارجة بن زيد: ناصح عمر بن عبد العزيز

عندما تولى عمر بن عبدالعزيز إمرة المدينة، دعا للقاء عدد من الفقهاء، ومنهم خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري، وطلب منهم أن يقدموا له النصيحة فيما يُعرض له من أمور الفتوى والقضاء.

وأبو خارجة هو ابن «زيد» كاتب الوحي للرسول، الذي أشرف على كتابة المصحف في أيام أبي بكر الصديق، وفي أيام عثمان بن عفان كان على رأس اللجنة التي وُكل إليها كتابة المصحف.

وبحسب «الجيوشي»، ورث خارجة علم أبيه، وكان هو وطلحة بن عبيد الله بن عوف في زمنهما يُستفتيان وينتهي الناس إلى قولهما، ويقسمان المواريث بين أهل المدينة من الدور والنخل والأموال، ويكتبان الوثائق للناس.

وكان زيد بن ثابت في حالة رفاهة، ولا شك أن جانبًا كبيرًا من هذا المال قد آل إلى خارجة، لأن أغلب إخوته كانوا قد قُتلوا يوم موقعة الحرة، لذا كان من البديهي أن يبدو عليه آثار النعمة والثراء في ملبسه ومظهره، وكانت تلك سمة فقهاء المدينة عامة.

ويروي «الجيوشي»، أن حق أو مستحقات خارجة في الديوان كان قد قُطعت، فكُتب إلى عمر بن عبدالعزيز أن يعطي خارجة ما قُطع منه، فقال: «لا يسع المال ذلك، ولو وسعه لفعلت»، ولعل عمر كان مستعدًا أن يعطي خارجة ما قُطع عنه، فلما طلب خارجة أن يكون ذلك عامًا لكل من قُطع عنهم نصيبهم من الديوان كان ذلك سببًا في اعتذار عمر، وقد بين السبب في الجملة التي قالها. ومن المرجح أن قطع خارجة وسواه نصيبهم من الديوان حصل بعد ثورة أهل المدينة أيام يزيد بن معاوية.

على كلٍ، كان خارجة يتمتع بمكانة أثيرة لدى عمر بن العزيز، ولما أُخبر بوفاة خارجة، وكان ذلك عام 99 أو 100هـ على اختلاف بين الروايات، بدا عليه الحزن لفقده، وضرب بإحدى يديه على الأخرى، وهو تصرف يقع من الإنسان لما يفاجأ بأمر غير متوقع، وقال «ثلمة (أي شرخ) والله في الإسلام».

سليمان بن يسار: عدم معارضة الولاة

كان سليمان بن يسار عالمًا ثقة، عابدًا ورعًا، وكان أخوه «عطاء» من العلماء أيضًا، إلا أن سليمان كان فيما يبدو أكثر فقهًا ومعرفة بالإفتاء، ولهذا كان من الفقهاء السبعة الذين كان يرجع إليهم عمر بن العزيز.

ويذكر عبدالقادر علي مؤمن في دراسته «الفكر الفقهي لسليمان بن يسار»، أن سليمان بن يسار عاصر الانقسام الذي ظهر في المسلمين، ففي عصره قُتل عثمان بن عفان سنة 35هـ، ثم وقع اقتتال بين شيعة علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، ثم استشهاد علي بن أبي طالب، ثم ظهور فرقتي الخوارج والشيعة، ثم الزبيريين.

ولم يكن سليمان ميالًا لأي من هذه القوى المتصارعة، كما لم يكن معارضًا للولاة، بل كان يحاول إقناع العلماء الآخرين بعدم مخالفة الأمراء والولاة، حتى لا يتعرضوا بالأذى من قبلهم، فحاول إقناع سعيد بن المسيب بالبيعة للوليد وسليمان، حتى لا يصيبه مكروه.

وبحسب «مؤمن»، تولى سليمان بن يسار من المهام السياسية أمرين، الأول كونه عضو مجلس الشورى بالمدينة، فإبان ولايته على المدينة المنورة في ولاية الوليد بن عبدالملك قام عمر بن عبدالعزيز بتكوين هذا المجلس من علمائها الكبار، وكان سليمان بن يسار منهم مع عروة بن الزبير وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة، وأبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبدالله بن عمر، وأخوه محمد عبدالله بن عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت، إذ جمعهم عمر بن عبدالعزيز وقال لهم «إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانًا على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم».

كما تولى سليمان وظيفة الحسبة في المدينة لمدة سنة واحدة في عهد عمر بن عبدالعزيز عندما كان واليًا على المدينة، فأشرف على تنظيم الأسواق والعمليات التجارية فيها، ومنع الغلاء والاحتكار.