هناك جدل محتدم بين أنصار قوائم «الروايات الأكثر مبيعًا» وأولئك المعارضين لهذه الروايات، المُتهمين لها بالركاكة والسطحية وخطف أنفاس القارئ بحبكات مفتعلة دون مردود حقيقي للقراءة، ولعل هذا الجدل بين هذين الفريقين أصبح في حد ذاته مادة مكررة ومُستهلكة. تستمر كبرى الجرائد بنشر تلك القوائم، ويستمر محبو ذلك النوع من الروايات بشرائه، ويستمر المعارضون في معارضتهم.

المتابع لعدد من أشهر روايات الـBest Seller، مؤخرًا، على شاكلة «فتاة القطار»، و«امرأة في النافذة»، و«المريضة الصامتة» وغيرها، يلاحظ اشتغال الكاتب بشكل لا يُستهان به على البناء النفسي للشخصية الأساسية، والتي غالبًا ما تعاني من خلل نفسي ما. لكن هذا الجوهر، يتم تغطيته بعوامل تجارية، فيتم افتعال جريمة قتل، وشرطة ومحققين ومُشتبه بهم، بزعم إضفاء التشويق على الرواية، ما يؤدي في النهاية إلى ضياع جوهر القصة.

لكننا في هذا المقال سنجرب شيئًا آخر. سنختار إحدى الروايات، ونقوم بما يشبه تقشير البصلة، فنزيل عنها كل الأحداث المفتعلة، لنُمعِن النظر في الجوهر. وهنا سيقع اختيارنا على رواية Seven Lies للكاتبة البريطانية Elizabeth Kay، والتي صدرت ترجمتها العربية، مؤخرًا، تحت عنوان «سبع أكاذيب».

البطلة المُخلِصة

في الرواية نتعرف إلى «جاين باكستر» و«مارني غريغوري»، البطلتين الرئيسيتين للرواية. من طرف جاين سنتعرف على أمها المُصابة بـ«خَرف» مبكر، وشقيقتها إيما، وزوجها جوناثان. أمّا من طرف مارني فسنتعرف فقط على زوجها تشارلز، وطبعًا هناك شخصيات ثانوية بسيطة مثل زملاء العمل وما شابه. هكذا سنكتشف أن شخصية «فاليري» ليس لها أي داع، وأن جريمة القتل في الرواية أيضًا ليس لها أي داعٍ.

لكن الملفت في شخصية البطلة جاين هو الخلل النفسي المعروف باسم «هوس الاستحواذ»، وهو في هذه الرواية، هوس الاستحواذ على صديقتها مارني. فعلى مدى 350 صفحة هي عدد صفحات الرواية، يتجلى هذا الخلل عند جاين بكل تفاصيله.

فمنذ السطر الأول، تبدأ جاين– التي تروي لنا القصة- بوصف زوج صديقتها، الذي تَكِّن له كراهية غير محدودة. يكتشف القارئ على مدى صفحات الرواية، أن هذه الكراهية ليست بسبب صفات تشارلز كما تحاول جاين أن تُقنِع القارئ، بل بسبب الغيرة المرَضية على صديقتها، وشعورها بفقدان شخص كان «مِلكًا» لها وحدها.

في الحقيقة، لا تبدو جاين في البداية على هذا القدر من السوء. على العكس من ذلك، تبدو مخلصة ومتحملة للمسئولية. فهي الوحيدة التي تحرص على زيارة أمها المصابة بالخرف في دار الرعاية أسبوعيًا بانتظام، بعد أن هجرها الأب، وامتنعت ابنتها الصغرى عن زيارتها. وهي مهتمة جدًا بشقيقتها المصابة بمرض فقدان الشهية، وهي مخلصة لصديقتها وعاشقة لزوجها جوناثان. ولكن، وهناك دائمًا هذا الحد الفاصل بين الإخلاص وهوس الاستحواذ.

هوس الاستحواذ

يُعرّف هوس الاستحواذ على أنه حالة يشعر فيها الشخص برغبة ساحقة وهائلة في امتلاك وحماية شخص آخر يشعر بجاذبية قوية تجاهه. يرافق هوس الاستحواذ عدم قدرة المُصاب به على تقبل حدوث فشل أو رفض من قبل الشخص المحبوب.

يعتقد بعض الإخصائيين أن هوس الاستحواذ يُعتبر مرضًا عقليًا شبيهًا باضطراب التعلق، واضطراب الشخصية الحدّي، وهوس العشق. تمتد جذور هوس الاستحواذ إلى مرحلة الطفولة، وقد يستمر إلى أجل غير مسمى، وأحيانًا يمكن أن يتطلّب العلاج النفسي.

يصيب هوس الاستحواذ كلًا من النساء والرجال، مما يجعله ظاهرة منتشرة لدى كلا الجنسين. كما تتعدد أشكاله لتشمل هوس الأهل بأطفالهم أو هوس أحد الزوجين بالآخر أو هوس أحد الصديقين بالآخر.

وبمراجعة أعراض هوس الاستحواذ، نجدها متوفرة جميعًا دون أي استثناء عند جاين. فمنذ الصفحة الثالثة، تصف جاين قلة ثقتها بنفسها، حيث كان ذلك هو حالها عندما التقت بمارني لأول مرة في المدرسة الثانوية فتقول:

في تلك الفترة، كنت أخشى الحكم على البثور التي تتوسط جبيني، وعلى شعري الباهت، وعلى زيي الرسمي الفضفاض. أمّا الآن، فأخشى الحكم على نبرة صوتي عندما يرتعش، وعلى ملابسي وحذائي الرياضي، وأظافري التي أقضمها.

ومن الأعراض أيضًا، الشعور بجاذبية كبيرة جدًا تشد الإنسان نحو شخص معين دون غيره، وهو ما عبّرت عنه جاين طوال صفحات الرواية، فتقول في مواضع مختلفة:

مارني غريغوري هي أكثر امرأة مثيرة للإعجاب ومُلهِمة ومُبهِرة عرفتها في حياتي… لقد عشقتُ مارني… هي النور وأنا الظلام.

وعلى مدى صفحات الرواية، تتوزع بقية أعراض هوس الاستحواذ عند جاين وتتنوع، فتصف سعادتها بقضاء كل الوقت مع مارني، فتقول في صفحات متفرقة:

سرعان ما أصبحنا أنا ومارني صديقتين لا تفترقان… لقد أصبحنا جزءًا لا يتجزأ من حياة واحدنا الآخر، حتى بدا تصدعٌ وإن بسيطٌ ضربًا من ضروب المستحيل.

تبلغ الأعراض ذروتها عند شعور جاين بإحباط شديد بسبب انشغال مارني الطبيعي والمتوقع بوليدتها. فتقول في أحد المشاهد مخاطِبة الرضيعة:

أتمنى لو أن أمكِ أحبتني كما أحبتكِ أنتِ.

تفاصيل تستحق القراءة مرتين

تنسج «إليزابيث كاي» معالم شخصيتها ببراعة، وتشتغل بتأنٍّ على التفاصيل، فتتراوح شخصية جاين ما بين موظفة نشيطة ودؤوبة في عملها، تتلقى الشكر والترقيات، وما بين إنسانة هزيلة داخليًا، تعاني هجران الأب، وموت الزوج أولًا ثم الأخت ثانيًا، لكنها للأسف بدل محاولة الحصول على علاج نفسي، تنزلق إلى مهاوي التعلق بصديقة طفولتها، تعلقًا يتجاوز الحد الطبيعي.

«جاين باكستر» بطلة تستحق أن تبقى في ذهن القارئ، وألّا تُغطي معضلتها النفسية بقشور تجارية. و«سبع أكاذيب» هي رواية تمنحك ما هو أكثر من مجرد التسلية، بشرط أن تجيد الالتفاف على خيارات المحررين والناشرين المادية.

وهي رواية تستحق أن تُقرأ مرتين، على أن تحاول في المرة الثانية تجاوز لهفتك لمعرفة إن كان سيُكشف أمر جاين أم لا، فهناك تفاصيل تستحق التوقف عندها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.