بعد إشعارات كثيرة من الأصدقاء، ولمحات كثيرة على «السوشيال ميديا»، وبدافع أكبر من الفضول، قررت أن أكتب عن الدراما التليفزيونية التي أثارت جدلًا كبيرًا بين متابعيها، حيث مسلسل «سابع جار».طبعًا جاءت هذه الإشعارات والتلميحات من الأصدقاء والزملاء لمعرفتهم بطبيعتي التي تميل تجاه دراما الطبقة المتوسطة، فأنا ابن الطبقة المتوسطة، وترعرعت على «ليالي الحلمية» و «أرابيسك» و «ضمير أبلة حكمت» و «صابر يا عم صابر»، وتشبعت بكتابات أسامة أنور عكاشة ومحمد صفاء عامر وبشير الديك ومحمد جلال عبد القوي.لا يوجد في مخيلتي للدراما سوى عشق لكل ما ينطق بلسان طبقتي المتوسطة، الذي يحكي حالنا ويشير إلى مشاكلنا، ويلقي الضوء على مثالبنا ومناقبنا، ولا ينسى في غمار ذلك أن يصنع لك الحلول الممكنة، وأن يعطيك بارقة الأمل في الأفضل.منذ فترة ليست بعيدة كنت قد كتبت مقالة بعنوان «من ليالي الحلمية إلى دراما الكومباوندات»، كنت قد أوضحت فيه طبيعة دراما الطبقة المتوسطة، وكيف انحدر الحال حتى وصلنا إلى ما يسمى بدراما «الكومباوندات»، والتي تعرض أبناء الطبقة المتوسطة في صورة الراقصة والبلطجي والحرامي وتاجر المخدرات، باختصار كل ما هو مشين ومعيب، وكيف أنها يغلب عليها الحديث عن طبقة الناس الأكابر الذين يتسلُّون برؤية المهمشين والمحطمين وهم ينزفون الدم والعرق والدموع.كان هذا قريبًا، وظهر مسلسل «سابع جار» على الساحة، فاستبشر الناس، وقالوا أخيرًا وجدنا عملًا دراميًا يخصنا، أبطاله يشبهوننا، طريقتهم في الحديث وطبائع حياتهم مشابهة لنا، يتحدثون عن مشاكلنا، وبدأوا يأنسون إليها ويألفون أبطالها، حتى بدأت معالم العمل تتضح شيئًا فشيئًا.المسلسل الذي حدّد لنفسه أنه دراما تخص أبناء الطبقة المتوسطة، وجدناه ينحرف ويميل ميلًا كبيرًا تجاه كل ما هو غير مألوف، وكل ما هو مشين ومعيب، حتى تكاد أن تحدث نفسك وأنت تشاهده: هل حقًا أبناء الطبقة المتوسطة يقومون بفعل هذه الموبقات والأفعال الشاذة الغريبة أم نحن الذين انفصلنا عن الواقع وأضحينا لا ندرك واقع الأمور؟


الدراما الاجتماعية

يعرف علماء الاجتماع مفهوم الـ «سوسيودراما Sociodrama» أو الدراما الاجتماعية، بأنها طريقة تستخدم في علاج المشكلات الاجتماعية بصفة عامة، وهي عبارة عن تصوير تمثيلي مسرحي لمشكلات اجتماعية في شكل تعبير حر في موقف جماعي يتيح فرصة التنفيس الانفعالي، وأهم ما يميزه هو حرية التعبير والسلوك وتلقائيتهما بما يتيح التداعي الحر، مما يؤدي إلى تحقيق التوافق والتفاعل الاجتماعي السليم.من الكلمات السابقة نصل إلى أنه لكي تخلق دراما اجتماعية هادفة يجب أولًا أن تعرض المشكلة بكل صدق وبساطة وأريحية، وتتعرض إلى حلها بشكل بسيط وناجح أيضًا، بما يتلاءم مع طبيعة الجمهور أو المجتمع الذي يوجه إليه العمل، وهذا للأسف ما لم نجده في مسلسل «سابع جار».


عن المسلسل

تخطت حلقات العمل، حتى الآن، الأربعين حلقة، وفي طريقه إلى الزيادة، وهناك ما يشير إلى أنه سوف يتم صنع جزء ثانٍ، من فرط النجاح!العمل يستعرض العلاقات الاجتماعية والأسرية التي تدور في أرجاء عمارة يسكنها العديد من الأسر، ولكل أسرة طبيعتها ومشاكلها الاجتماعية، وطريقتها في تربية أبنائها، كما يبرز طبيعة تعامل الآباء مع الأبناء، والجيران مع بعضهم، والشكل العام يوحي بأنه عمل يشير إلى الطبقة المتوسطة بامتياز.بين تدفق المشاهد والحلقات، تُصدم بأن العمل يعرض لك سلبيات مجتمع الطبقة المتوسطة «الكارثية» بشكل «عادي»، وكأنه يقول «إيه المشكلة يعني»، فعلى سبيل المثال:

  • النساء عادي جدًا أن «يصاحبن» جيرانهن من الرجال المتزوجين.
  • النساء يقمن بالتدخين أمام جيرانهن وأمام الجميع وفي شرفات المنازل أيضًا.
  • لم يقتصر أمر النساء على تدخين السجائر فقط، بل امتد إلى تدخين الحشيش والمكيفات، بل طلب ذلك من جيرانهن بشكل طبيعي!
  • نساء الطبقة المتوسطة يجلسن مع جيرانهن الرجال بأي وضع وفي أي شكل، وكأن حرمات البيوت وديننا، عاداتنا وتقاليدنا، وكأن كل ذلك أضحى فاصلًا من التخلف والرجعية التي لم يعد لها وجود.
  • الخمر في بيوت أفراد الطبقة المتوسطة شأنه شأن الشاي!
  • اللعب على نفس التيمة السخيفة إياها القائلة بأن الشاب المتدين عبارة عن صورة خارجية فقط، وفي قرارة نفسه يعشق كل المساخر والهلس، و«عينه زايغة».
  • وعلى نفس المبدأ واستمرارًا لنظرية التسفيه والتسخيف، فإن البنت المتدينة عبارة عن صورة أيضًا، ولكنها «سمَّاوية» و«غلَّاوية» وبها من المثالب ما يفوق أقرانها.

هذا غيض من فيض ولا يتسع مقالنا للحديث عنه كاملًا، أعلم أن السؤال الذي يجب أن يطرح نفسه الآن: هل هذه الأفعال تحدث بين أبناء الطبقة المتوسطة؟ والإجابة هي: نعم، ويحدث أسوأ من ذلك أيضًا. إذن ما دامت الإجابة نعم، فلماذا ثار قطاع كبير من الطبقة المتوسطة وهاج وماج احتجاجًا طالما أن هذه الأحداث حقيقية؟ الرد هنا عبارة عن آفة خطيرة جدًا يقع فيها جمع كبير من الناس، ألا وهي «التعميم».


الدراما وعلاج المشكلات

الدراما الاجتماعية التليفزيونية يجب أن تأخذ في الاعتبار أنها تعالج مشاكل يجب أن تكون مؤثرة في قطاع كبير من المشاهدين، ويكون هنا الأساس في المعالجة هو غالبية الانتشار، وعلاج آفة اجتماعية متشعبة وجذرية.الذي حدث في مسلسل «سابع جار» أنه أظهر أشياء تحدث بالفعل في مجتمع الطبقة المتوسطة، ولكن لا يتعدى نسبة من يفعلون ذلك 5 % من مجتمع هذه الفئة، أي أنهم فئة محدودة بين محيط هائل من الطبقة المتوسطة المصرية.بمعنى، أنه لو فرض أن الطبقة المتوسطة تمثل 80% من الشعب المصري، وأن الشعب المصري قوامه 100 مليون، بحسبة بسيطة فسوف نجد أن قوام الطبقة المتوسطة يمثل 80 مليون مصري، بينهم على الأقل 75 مليونًا من أبناء الطبقة المتوسطة لا يوجد بينهم مثل هذا الهراء، ولا تنتشر بينهم هذه الظواهر الكارثية المقيتة، بل منهم كثيرون قد لا يعلمون مثل هذه الظواهر المعيبة إلا من خلال هذا العمل. أظهر مسلسل «سابع جار» ظواهر سلبية كارثية، ولكنه لم يتطرق ولو لدقيقة من بين حلقاته الممتدة لعلاج مثل هذه المشكلات التي أفردها! وكأنما يرسل رسالة مفادها: «وإيه يعني لما الناس تعمل كده، ما هو كل الطبقة المتوسطة بتعمل كده»!المتابع للعمل منذ البداية سوف يكتشف وبكل بساطة أن أهل «العمارة» كلهم تقريبًا «سيئون»، والتقاء الشخصيات السيئة بهذه الصدفة العجيبة وهذه التراتبية المريبة يجعلنا نتساءل بكل فطرية وبساطة: «هو مفيش حد عدل في العمارة دي؟».


العمل من الناحية الفنية

عند إجراء مقارنة بسيطة بين هذا العمل وعمل من أعمال أسامة أنور عكاشة مثلًا الذي صنع عشرات السيناريوهات لمسلسلات الطبقة المتوسطة، أو دعنا نختر مثالًا أحدث قليلًا، وهو مسلسل «بنت اسمها ذات»، والذي تعرض لفئة الطبقة المتوسطة بشكل شامل وبسيط.المتابع سوف يكتشف بسهولة أن السيناريو ضعيف جدًا، والحوار أضعف منه، وكأنما قُدَّ الحوار على أساس مبدأ «صور وقول اللي في دماغك»، وقد نجد في المشهد الواحد والحوار الواحد كلمات لا علاقة لها ببعضها البعض، وكأن كل ممثل في وادٍ يتيه فيه.كل هذا في إطار حبكة درامية ضعيفة جدًا لا يربطها رابط فني يمتد في جذور العمل ليصنع حالة فنية تربط المشاهد بأبطال العمل الذين يفترض أنهم يمثلون أفرادًا من الطبقة المتوسطة.قليل من أبطال العمل من له علاقة جدية بالـتمثيل، أما الباقون فهم عبارة عن «حشو»، يقومون بالحديث الآلي بدون أي عاطفة أو ارتباط بالشخصيات التي يؤدونها، والباقون يقومون فقط بالصراخ طوال الحلقات من أجل إضفاء جو من الحبكة المفقودة.الملفت بشكل مستفز أن تأتي بممثلين «كبار» في السن، ومعلوم عنهم أنهم بعيدون كل البعد عن الطبقة المتوسطة، ولم يقوموا بتأدية أي دور يخص هذه الطبقة من قبل، ولا يوجد أي إقناع في أدائهم، تأتي بمثل هؤلاء وتلبسهم «حجابًا» فقط لإعطائهم الشكل الخارجي المماثل لأبناء الطبقة المتوسطة، وكأنما الأمر فقط يُقاس بالمظاهر، وفي واقع الأمر فإن جوهر الشخصية ومكنونها مفتقد.جذور الشخصيات في العمل هشة وضعيفة، ولا يوجد لها رابط بالعمل أو ارتباط بأبطاله، فالأبطال يظهرون ويختفون بشكل عادي، وتأثيرهم في العمل غير فعَّال، ولا يوجد لهم أي خيط درامي واضح أو هادف، كما أن كوكتيل الشخصيات في هذا العمل عجيب جدًا، وكأن الطبيعة نحتتهم نحتًا ليقوموا بالوجود في هذه العمارة وهذا المسلسل!


ختامًا

بعد أن زاد عدد حلقاته المعروضة عن أربعين، أشك أن قطاعًا كبيرًا جدًا من المتابعين قد أدرك المغزى والهدف والحبكة الدرامية الرئيسية لهذا العمل، وما هي القصة والمكنون والاستفادة.هذا المسلسل عبارة عن «فقاعة» كبيرة جدًا، أخذت حجمها بكثرة النفخ والتهليل، وفي واقع الأمر لن يزيد عمره عن فترة عرضه، تمامًا كالفقاعة التي تفرغ محتواها من الهواء.هذا العمل عرض وأفاض وأسهب في عرض سلبيات كارثية موجودة بالفعل بين أبناء الطبقة المتوسطة، ولكنها توجد في قطاع محدود جدًا بين ملايين من أبناء هذه الطبقة.هذه المشاكل أو النكبات التي عرضها المسلسل وشوه ووصم بها جُل هذه الطبقة، بشكل رديء وغير محكم أو محبوك، لم يستطع القائمون على هذا العمل أن يقترحوا علينا أي حل منطقي ميسر لعلاج هذه الكوارث، ولم يكلفوا خاطرهم أن يقدموا روشتة للحيلولة دون وقوع هذه النكبات والمشكلات مرة أخرى، إذن هى دراما خاوية غير هادفة بالمرة.وأنا وبحكم أني من أبناء الطبقة المتوسطة، والتي يدَّعي القائمون على هذا العمل أنه موجه إليهم، أعلنها بشكل صريح وبسيط وبالأسباب سالفة الذكر: أن هذا العمل لا يمثلني في أي شيء على الإطلاق.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.