انتشرت الكثير من الأديان والمدارس الفلسفية في العصر الهلنستي كبديل للديانة اليونانية القديمة، التي لم تساعد المواطن اليوناني في التغلب على آلامه، بخاصة بعد سقوط أثينا نتيجة الحرب والطاعون، ثم خروج اليونانيين من بلادهم بوصفهم مواطنين عالميين وكل البلاد بلادهم، إلى البلاد التي هيمن عليها الإسكندر الأكبر ثم قادة جيشه من بعده. وهكذا تعرّفوا على الطقوس السرية الشرقية التي جاءت كتعويض روحاني عن ديانتهم التي تلاشت عبادتها تدريجياً.

مع بدايات العصر الهلنستي ازدهرت المدارس الفلسفية الحديثة كالأبيقورية والرواقية والكلبية، فأخذت الدور الأخلاقي التي مارسته الديانة اليونانية القديمة والفلسفة اليونانية التقليدية، كما ازدهرت الطقوس السحرية التي تمنّى ممارسوها أن يكون من شأنها تعطيل الحوادث أو تغيير المصير. ولكن الأكثر انتشاراً كانت شعائر العبادات السرية التي كانت تهدف إلى إنقاذ الإنسان من المعاناة، ومن ناحية أخرى، كانت تُشبع حاجته لممارسة الطقوس الدينية، حيث كان هذا الجانب كان مفقوداً في المدارس الفلسفية؛ فقد كانت تلك المدارس أشبه بالنظام الأخلاقي أكثر من كونها ديناً حقيقياً.

الطقوس السرية: خلاص المواطن العالمي من غربته النفسية

لم تكن طقوس الأسرار من نتاج العصر الهلنستي، بل إن لها جذورًا تمتد إلى العصر الكلاسيكي في اليونان وما قبله، وكانت هذه الممارسات مرتبطة بديونيسوس، إله الخمر اليوناني، وكانت شعائر تلك العبادات تُقام في جو من الاحتفالات المُصاحبة لطقوس من ضمنها عرض درامي يؤلفه واحد من عظماء روّاد الدراما المسرحية اليونانية مثل: إيسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيديس.

كان الأساس العام لهذه الشعائر هو السعي للخلاص، من خلال الاندماج الكامل والاتحاد الشخصي مع الإله، الذي مات بالفعل ثم عاد من بين الأموات. وفي العصر الهلنستي أصبحت هذه العبادات شائعة، ومتناغمة إلى حدٍ بعيد مع الديانات التي تعتمد على الطقوس السحرية؛ فقد كان للسحر أن يُغيِّر المصير أو يُعطِّله بحسب اعتقاد المريدين، لكن اتباع عبادة غامضة يمكن أن يجعل أولئك الذين يتبعونها فوق القدر، بل إنها قد تجعل من الأقدار بلا تأثير حقيقي على صاحبها، فالروح في تلك الديانات بمعزلٍ، وبعيدة عن متناول القدر والنجوم. [1]

انتشرت الديانات السرية إذاً في جميع أنحاء العالم اليوناني قبل العصر الهلنستي، ولكن الجديد في العصر الهلنستي هو أنها كانت أكثر قبولاً وشعبية نتيجة انهيار الديانة اليونانية، حيث جلبت طقوسها مشاعر التخفف والخلاص لأتباعها الذين أصبحت لديهم مفاهيمهم الخاصة الجديدة التي تتماشى مع العصر الجديد، الذي وجد فيه الإنسان نفسه وقد أصبح مواطناً عالمياً، بلا جذور حقيقية؛ فكل البلاد بلاده وقانونه الأخلاقي غير مستمد من دين، بل أصبح نسبياً بحسب المدرسة الفلسفية التي يتبعها، وبالتالي أصبح للبشر في هذا العصر فكرة جديدة عن الألوهية والخطيئة، وهكذا جلبت تلك الشعائر السرية لأتباعها تجربة عاطفية شغوفة ومُشبعة.

مع القرن الثاني قبل الميلادي، تعمّق الحس الديني الجمعي، فكانت هناك عديد من الديانات السرية، وكل دينٍ منها يدّعي أصالته وتفرده، وأنه يتمتع بقوة عالمية؛ فيعبد البشر آلهة أينما كانوا بمُسمياتٍ أخرى. لكن مع ذلك، استمرت الأشكال القديمة للديانات السرية، وبعض عبارات العبادة الأورفية، مع طقوسها الدينية الاحتفالية وأفكارها عن النقاء ومقاومة الجسد والروح. ومن المحتمل أن هذه الترانيم الأورفية كانت مؤلفة في بيرغاموم في اليونان.

ومع الامتداد الهلنستي في الأناضول ومصر ظهرت أشكال جديدة من الديانات السرية التي انتشرت في أرجاء العالم اليوناني. وكانت الديانة السرية الأكثر أهمية بين جميع العبادات هي الديانة المصرية، فقد أظهر السيرابيوم في ديلوس أن العبادة الثلاثية التي أثرت في معظم العالم الهلنستي كانت عبادة الثلاثي المصري: سيرابيس وإيزيس وأنوبيس؛ حيث جمع الدين بين الخلاص والخلود. [2]

وبينما تم تبجيل سيرابيس في الهند ليصبح العبادة الأكثر شعبية فيها، كانت إيزيس أكثر الآلهة مجداً وحظوةً في العالم الهلنستي، وكانت قوية جداً لدرجة أنها كانت فوق الأقدار، وكانت مشهورة جداً حد كونها الربة الأجنبية الوحيدة التي كانت تُعبد في أوروك بالعراق. وكان سيرابيس وإيزيس يُمثلان على الأرض من قبل الملك البطلمي الإلهي والملكة زوجته.

كان معروفاً أن البطالمة قد ابتدعوا سيرابيس ليوحِّدوا بين الإغريق والمصريين في دين مشترك. لكن المصريين لم يتقبلوه تماماً، ومن ناحية أخرى؛ هناك أدلة على أن عبادة سيرابيس كانت موجودة بالفعل حتى قبل أن يحكم البطالمة مصر: حيث ذُكر معبد سيرابيس في مصر عام 323 قبل الميلاد في كتابات بلوتارخ (حياة الإسكندر) وأريان (أناباسيس). وربما تكون قصة خلق بطليموس للإله قد خرجت بالفعل من مصادر تاريخية تصفه بينما كان يقوم بافتتاح أعمال نحت تمثال لسيرابيس بالإسكندرية.

وعلى الرغم من أن سيرابيس جمع الخصائص الدينية المصرية؛ من الملامح الأوزيرية وشراكته مع إيزيس، فإنه بقي صورة الإله اليوناني للإسكندرية، وكان تمثاله العظيم أحد التماثيل الشهيرة لتلك المدينة؛ وفيه تم دمج عناصر زيوس وهاديس وأسكليبيوس ومردوخ، وبهذا أصبح إلهاً عالمياً، يمكن لعباده بسهولة تخيله كما يحلو لهم. [3]

إيزيس: المرأة الأهم في عالم مُوحَّد

وبالانتقال لإيزيس؛ الإلهة الأهم في الثالوث السكندري، يمكن القول إنها كانت ملكة ربات العالم القديم، في الوقت الذي كان المصلون يحتاجون وجودها بجانب سيرابيس عند صلاتهم إليه، كان وجودها منفردة دون إله رفيق كافياً لتكون تلك الصلاة تامة، وقد تجلّت إيزيس في كل إلهة أنثى في العالم، فكانت:

نجمة البحر. إكليل الحياة. المُشرعة والمُخلصة. كانت النعمة والجمال. الثروة والوفرة. الحقيقة. الحكمة. والحب.

وقد اعتاد التابعون الاحتفال بإيزيس، فأقاموا لها كثيراً من المهرجانات، منها المهرجان الذي كان يبدأ في نوفمبر/تشرين الثاني، الذي أُطلق عليه اسم (إيزيا)؛ حيث كانت الطقوس في هذا المهرجان تمثل حياة أوزوريس وقصة وفاته ثم قيامته الإلهية، ومن ناحية أخرى تمثل سعي إيزيس لتجميع جسده مرة أخرى. لكن المهرجان الأهم على الإطلاق كان «احتفال الربيع»، حيث تبدأ مراسم الاحتفال بإطلاق سفينة إيزيس بعد افتتاح الملاحة في البحر، فيشق موكب ضخم طريقه بدءاً من المعبد مُتجهاً إلى الشاطئ لإطلاق سفينة إيزيس الرمزية.

كان من أسرار ديانات إيزيس طقس طويل يتحتم فيه على التابع خدمة الإلهة لسنوات عديدة قبل أن تدعوه إليها، وعقوبة دخول ضريحها بلا مبرر كانت الموت. كان التابع يواجه الموت أيضاً لدخوله بعد النداء الذي يُطلقه أحد الكهنة، ولكن الموت هنا كان موتاً لحياة التابع المبتدئ القديمة وولادة حياة جديدة، حياة الخلاص.

وكانت الطقوس تبدأ بتنقية التابع أولاً بالماء، ثم يوجه للمشي في أماكن مظلمة تشبه تلك الأماكن المظلمة من العالم السفلي التي وردت في قصة أوزوريس بين موته وقيامته، وهناك يواجه بعض الاختبارات المعينة التي تنتهي به بالفعل «ميتاً ومدفوناً»، وعند هذه النقطة؛ كان الإيحاء يلعب دوراً كبيراً في إبقاء هذا التابع حياً. وفي النهاية يصارع ناراً وإن سلم منها، فإنه يخرج مُرتدياً ثياباً مُقدسة، وحاملاً شعلة في يده، فيراه الناس، ويُعلَن أنه إله، وتبعاً لتلك العبادة فإن روحه عندئذ قد أصبحت حرة، خارج هيمنة القدر والموت. [4]

ما يصبغ عبادة إيزيس بلمحة شاعرية أن تلك العبادة جعلت من تلك الربة أشبه بظاهرة: لقد كانت الإلهة الأنثوية المحبوبة لدى النساء في جميع أنحاء العالم القديم، حيث لم تشعر النساء أبدًا بهذا الارتباط الأنثوي العميق مع أثينا وآرتميس اللتان كانتا مشغولتين تماماً بالحروب والصيد وشئون الرجال، أو هيرا الإلهة الأمومية الغيورة والتقليدية التي لم تكن تلائم العصر الهلنستي بأفكاره الجديدة وانفتاحه واتساعه، ولا حتى أفروديت التي كانت مشغولة بكونها جميلة ومغوية وبعيدة عن مشاكل المرأة الأرضية الحقيقية وحياتها، في الوقت الذي كانت فيه إيزيس صديقة إلى جانب كونها آلهة، فقد اختبرت الحمل، وفقدت زوجها، وسعت لتوحيد عائلتها وإنقاذها، لذلك أصبحت نموذجًا بجانب كونها ربة، وألهمت كل امرأة في العالم الهلنستي، وربما هذا هو المجد الحقيقي لإيزيس.

التقاء الطقوس السرية بالديانة المسيحية

عندما نقول المسيحية، فإننا نتذكر بشكل مباشر العصر الديني الذي تحول فيه الناس إلى حالة مسالمة ووديعة، ويمكن حتى وصفها بالصوفية والزهد. ظهرت الديانة المسيحية في وقت كان فيه العالم اليوناني الروماني مليئاً بالديانات المختلفة، فظروف تلك الحقبة جعلت من الممكن وجود هذه الأديان واتباعها. كان الناس في ذلك العصر حريصين على البحث عن الخبرة الدينية. فقد كان الدين موضوع اهتمام عام نوقش من قبل الجميع. فلاسفة وفنانون وشعراء؛ كان وجود هذا الجو مفيداً ومهماً في تطور المسيحية.

والديانات السرية كانت من العبادات التي تزامن ظهور المسيحية مع وجودها، وإن لم تتشابه جميعها وتشترك في منظور واحد أو في طقوسها السرية، لكنها انتشرت في نطاق واسع من الناس، واعدة بالخلاص والنقاء والحياة السعيدة، وإذا تذكر أي شخص مبادئ المسيحية، فإن الخلاص سيكون أول ما يستحضره، ومن المتوقع جداً أن نرى تأثيراً هائلاً لهذه الأديان على المسيحية.

فمن الديانات الوثنية التي أثرت في روح المسيحيين الأوائل عبادة أدونيس، وهو إله سوري مشهور في أنطاكية؛ وهي أحد أقدم معاقل المسيحية. فقد كان هناك احتفال في كل عام بوفاته وقيامته. من المثير للاهتمام معرفة أن بيت لحم اختارها المسيحيون الأوائل كمشهد لميلاد يسوع وفي نفس الوقت كانت مركزاً لعبادة هذا الإله الوثني، مما دفع كثيرين إلى مزج أدونيس بيسوع المسيح، بخاصة أن حكاية هذا الإله تخبر أنه مات بطريقة قاسية للغاية، وبعد أن نزل إلى الجحيم، قام مرة أخرى، ثم صعد إلى الجنة.

أقام أتباع أدونيس احتفالاً سنوياً بقيامته، ومن الواضح أن قصة موت أدونيس وقيامته تشبه إلى حد بعيد القصة المسيحية ليسوع، وقد يعود أصل كلمات مثل «قام الرب» إلى طقوس احتفالات أتباع تلك الديانة الذين تحولوا إلى المسيحية فيما بعد. وقد دفعت هذه المصادفة عديداً من النقاد إلى الاعتقاد بأن قصة دفن وقيامة المسيح هي مجرد أسطورة مستعارة من هذا الدين الوثني. وفي ملاحظة أخرى؛ قدمت العبادات السرية الشرقية نوعاً من الطقوس يشبه في نواح كثيرة طقوس الأسرار اليونانية القديمة، وانتشرت على نطاق واسع واشتهرت قبل ظهور المسيحية؛ ليس فقط في بلاد شرق البحر الأبيض المتوسط، ولكن امتد تأثيرها إلى روما.

المثال اليوناني كان ديميتر، الربة الأم التي تُزهِر الورود في الربيع حين تخرج ابنتها بيرسيفوني من العالم السفلي لتزورها، وكذلك الإلهة الأم الفريجية، سيبيل، التي ذكرها بيندار، وكذلك إيزيس المصرية؛ نلاحظ بسهولة وجود آلهة أمهات تم تمثيلهن كمصدر للحياة، ومرتبطات بوجود (الابن)، وهذا التمثيل كان دوماً ينتحل صفة الأمل في مرور المتاعب الدنيوية والتغلب على الصراع البشري الدائم مع الموت من أجل الحياة، تماماً مثل قصة مريم العذراء وابنها عيسى المسيح. [5]

من السهل أن نلاحظ أن المسيحية قد استوعبت وحافظت على الخلفية الروحية لأتباعها الجدد لدرجة أنها استخدمتها بالفعل كجانب جذب، فقد تغلبت المسيحية على الأديان الوثنية والغموض في النهاية باستخدام لب العبادة في تلك الأديان: الأم والابن وصراع البقاء والأمل.

يقول «فرانز فاليري ماري كومونت» في كتابه «الأديان الشرقية في الوثنية الرومانية»:

يمكننا أن نفهم مسيحية القرن الخامس بعظمتها وضعفها، وتمجيدها الروحي وخرافاتها الطفولية، إذا عرفنا السوابق الأخلاقية للعالم الذي نمت فيه.

تبحث الطبيعة البشرية دائماً عن القوة الإلهية والخلاص، وهذه الطبيعة أيضاً تبحث عن الصلة؛ هذه العلاقة اللطيفة مع الإله الذي يتبعونه، وتكريس الإنسان نفسه لإيجاد طريق إلى الله وجميع الأديان دليل واضح على هذا المسعى الطويل.

المراجع
  1. Tarn. W. W, Hellenistic Civilization, Edward Arnold& Co. London, 1927, PP: 292, 293.
  2. Tarn. W.W, Hellenistic Civilization, p: 293-294. See also: Kennedy. J, Serapis, Isis, and Mithras as Essays towards a Universal Religion, The Journal of the Royal Asiatic Society of Great Britain and Ireland, Apr.1917, pp. 386-388.
  3. Tarn. W. W, Hellenistic Civilization, pp: 293- 295.
  4. Tarn. W. W, Hellenistic Civilization, pp: 296- 297.
  5. Case. Shirley Jackson, Christianity and the Mystery Religions, The Biblical World, Vol. 43, No. 1, Jan. 1914, PP: 9-14.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.