ثَمّ جانبان رئيسيان لأزمة الوعي المسلم المعاصر مع الحداثة: الجانب الأول هو جانب عدم ترسخ العلم – بمعناه المعرفي الواسع، وليس بمعناه التقني – كإطار لتنظيم علاقة الفرد بالكون؛ أي غياب المنهج العلمي عن الإطار المعرفي المنظم لعلاقة الإنسان بالعالم، بشكل تنعكس آثاره على الحياة اليومية للفرد.

بعبارة أبسط، يعني ذلك عدم اعتناء الفرد المسلم في العادة بالجانب المتعلق بالأسباب المباشرة والطبيعية للظواهر، وانسحاب أغلب علاقته بالكون في مساحة التأكيد على القدرة المطلقة لله، كإطار وحيد لتنظيم علاقة الفرد بالعالم، وهو ما تتجلى أسوأ آثاره – بجانب تجليها في الممارسات الشعبية اليومية التقليدية – في الأوساط الأكاديمية والتعليمية بشكل عام، حيث يغيب منهج التفكير العلمي عن قطاع كبير من خريجي المؤسسات التعليمية.

كمثال، في الوقت الذي لم يعد هناك تقريبًا ثمة خلاف في الأوساط الأكاديمية العالمية حول الانتخاب الطبيعي والتطورية الداروينية – لا بوصفها حقيقة نهائية، ولكن بوصفها أفضل إطار تفسيري متاح لتفسير تغير الصفات البيولوجية للكائنات الحية وتنوعها – أجرى الدكتور «نضال قسوم» أستاذ الفيزياء بالجامعة الأمريكية بالشارقة استبيانًا بين الطلبة والأساتذة المسلمين عن مدى قبولهم لنظرية التطور، أكد أكثر من 60% منهم أنهم يعتقدون أن نظرية التطور هي مجرد نظرية لا برهان عليها، كما أعلن أكثر من 80% منهم عن عدم رغبتهم في تدريس النظرية في المدارس، أو على الأقل أن يتم تدريسها على أنها مجرد نظرية.

أجرى كذلك الدكتور «سلمان حميد» استبيانًا آخر بين طلبة الطب والأطباء عام 2011 في ماليزيا وعدة دول إسلامية أخرى، كان بينها مصر وتركيا، وجد أن الغالبية العظمى من الأطباء وطلاب الطب يرفضون نظرية التطور، والبعض منهم يقبل تطور الكائنات الأخرى كالبكتيريا والميكروبات، بينما يرفض تطور الإنسان. أحد التعليقات ذات الدلالة الهامة وردت إلى الباحث من أحد الأطباء الذين أجروا الاستبيان قائلًا: بأنه يقبل بالنظرية عندما يكون في المستشفى، بينما يرفضها عندما يعود إلى منزله!

الجانب الثاني من هذه الأزمة، هو اضطراب علاقة المسلم بالدولة لعدة أسباب، بعضها سياقي، يكمن في طبيعة الدولة وظروف نشأتها وممارساتها في المنطقة، وبعضها الآخر بنيوي يرجع إلى طبيعة تصور الفرد المسلم للدولة ذاتها وعلاقته بها.

يجب أن يكون واضحًا بطبيعة الحال أن المقصود بالدولة في هذا السياق، ليس الجهاز الإداري، كما ليس شخص الحاكم، ولا نظام الحكومة، ولكن المقصود بالدولة هنا سلطة تنظيم الاجتماع، باعتبارها منجزًا بشريًا واجب النفاذ، من أجل إدارة فاعلة للاجتماع.


العلم والقدرة الإلهية

الجانب الأول من الإشكال – جانب العلم – يجد جذوره في تصور مسألة القدرة الإلهية، وعلاقتها بحرية الإنسان وقدرته على الاختيار، وهو ما يمكن تتبعه رجوعًا في التاريخ الثقافي الإسلامي لحين ظهور إشكالية «القدر» المعروفة في تاريخ المسلمين، والتي انحاز فيها المعتزلة وبعض الفلاسفة إلى جانب تأكيد القدرة الإنسانية على خلق الأفعال وحرية الاختيار، بينما انحاز أهل الحديث إلي نفي القدرة الإنسانية عن الاختيار، بينما قام الأشاعرة بتقديم طرح يدعى «التوسط» لحل الإشكال من الناحية الكلامية، بينما هو في النهاية يحسم الإشكال لصالح نفي القدرة عن الإنسان، وإعطاء الإنسان مساحة شكلية” للفعالية، ممثلة في مقولة الكسب الأشعرية.

قد أدى تصور القدرة الإلهية بهذا الشكل إلى نفي السببية مطلقًا عن الكون؛ وبالتالي انتفت كل إمكانية معرفية للتعامل مع الكون على أساس من الأسباب الطبيعية والمباشرة لظواهره.

لاحقًا، تحنط هذا الحسم، ليصبح جزءًا من العقيدة الضرورية للمسلم السني، وبالتالي أنتج نفسه في أشكال عديدة عبر الخطاب الديني اليومي، ومن هنا وجد طريقه إلى الوعي المسلم المعاصر بشكل أو بآخر، جاعلًا العلم بالنسبة للفرد المسلم، على أقل تقدير أمرًا محل ريبة، ولا تعوزه الأدلة العلمية والبحوث، بقدر ما تعوزه الأحكام الشرعية بجواز نظرية علمية أو بحرمتها.


مفهوم الشريعة؟

الجانب الآخر من الإشكال – جانب الدولة – يجد جذوره في مفهوم «الشريعة»، بمعنى تصور وجود مدونة قانونية إلهية متكاملة، واجبة التطبيق، ومتجاوزة للتاريخ، بمعنى أنها صالحة لكل زمان ومكان، تستمد شرعيتها مباشرة من كونها صادرة عن الله.

يستند حضور هذا المفهوم في الواقع المعاصر أولًا على احتواء النص القرآني على مجموعة من الأحكام التشريعية المتفرقة، صدرت في لحظات شديدة التباين من مراحل التجربة التأسيسية، وتم إدراجها ضمن النص القرآني لاحقًا في مرحلة الجمع والترتيب، منفصلة عن سياقاتها التاريخية، والتي كانت حاضرة بطبيعة الحال في أذهان معاصريها، بينما لم تكن بنفس الوضوح عند لاحقيهم، وبالتالي انفصلت تدريجيًا عن دلالاتها داخل الاجتماع في المكان والزمان الذي نزلت فيه، وأصبحت تمتلك سلطة تمتد على كل زمان ومكان، وذلك باعتبارها نصًا وليست واقعة.

يستند حضور مفهوم «الشريعة» ثانيًا على عدة تنظيرات تأسيسية، هي قوام علم الأصول، والمعنيّ بأدوات ومناهج استنباط الأحكام من النصوص، وفي القلب من هذه التنظيرات، أعمال «الشافعي» التي رسخت سلطة النصوص بشكل يعزز من قدراتها الإنتاجية، ويفتحها إلى ما لانهاية – وذلك بإضافة النص السني إلى النص القرآني كنصين متكاملين على درجة واحدة من الكفاءة – بينما في المقابل يعطل القدرة الإنتاجية للواقع ذاته، فالنص بالنسبة له يحتوي على الكفاية، حيث «ما من نازلة تنزل بمؤمن إلا وفيها حكم لازم» كما يقول الشافعي، وكل ما يحتاج إليه النص فقط للإفصاح عن هذا الحكم اللازم، هو قدر محدود جدًا من التدخل، حصره الشافعي في الاحتكام إلى الإجماع، أو على الأكثر القياس ضمن دائرة الإجماع.

إضافة إلى أعمال الشافعي، تأتي أفكار «أحمد ابن حنبل» – وذلك إذا جاز اعتبارها اجتهادات في الأصول بالمعنى الفني – والتي انحازت مطلقًا للنصوص المجردة، على حساب الرأي الذي يعني إعمال العقل – وذلك إذا سلمنا مع ابن حنبل بإمكان قراءة نص بدون رأي – فالأثر الضعيف – بالنسبة إلى ابن حنبل – مقدم على الرأي في نهاية الأمر.

يستند حضور مفهوم «الشريعة» في المقام الثالث على تجربة تاريخية ملتبسة، لعب جمهور الفقهاء فيها دور الهيئة التشريعية، أكثر مما لعبت الشريعة ذاتها دور المدونة القانونية المعتمدة. بمعنى أن التفكير التشريعي في اللحظة التاريخية لإنتاج الفقه – والتي استمرت لأكثر من ثلاثة قرون تقريبًا – لم يكن ينظر إلى نفسه باعتباره مدونة مغلقة وجاهزة – ومن هنا كان يقبل بقدر ما من التنوع -، ولكن كان يمارس نوعًا من الجدلية مع الواقع في إطار النص التأسيسي، حتى وإن شاب هذه الجدلية المنافسة المحمومة على تدشين الرأي العام، أو امتلاك زمام العامة، أو تبرير أفعال السلاطين.

ما يعنينا هنا أن الفقه لم يكن يحيل إلى نفسه باعتباره مدونة قانونية ناجزة ومكتملة، كما تصورت القراءات اللاحقة، وإنما مجال تفكير قانوني مفتوح، قابل للتشكل.

في المقام الرابع، يستند حضور مفهوم «الشريعة» على وجود خطاب يرزح تحت وطأة الفروقات الجوهرية بين العصر الوسيط وبين العصر الحديث، وخاصة فيما يخص طبيعة الدولة وعلاقتها بالاجتماع الذي تعمل من خلاله، يستدعي بالتالي نغمة الشريعة بين الحين والآخر، كبديل مطروح أمام إخفاقات الدولة المتكررة وأدائها السيئ بالفعل في أغلب دول المنطقة العربية، مرتكزًا على العوامل الثلاثة السابقة: النص الديني، التنظيرات الأصولية، التجربة التاريخية؛ ما يمنح هذا الخطاب في النهاية قدرًا من المشروعية – بمعنى المقبولية الاجتماعية .


«الشريعة» و«الدولة»

هذا القدر من المشروعية التي يكتسبها هذا الخطاب السياسي/الديني المعاصر، تخصم تلقائيًا من قدر المشروعية المتاحة للدولة كمشروع يجب إنجازه من داخل الاجتماع، لإدارة الاجتماع، حيث يبقى هذا الخطاب يقدم للجماهير وعدًا – هو أقرب ما يكون للغواية – ببديل قادم من خارج الاجتماع.

بذلك لا يتحرك الوعي المسلم المعاصر نحو إنجاز مشروع الدولة كآلية لإدارة الاجتماع، وإنما فقط نحو استبدال النظام السياسي بآخر يدعي الجاهزية والإطلاق، فيستبدل في النهاية نظامًا سياسيًا فاشلاً بآخر يعمل وفق نفس نسق الدولة – أي وفق نفس الآلية غير الناجزة لإدارة الاجتماع – لكنه فقط يدعي القداسة.

«الشريعة» و«الأخلاق»

إذا كان مفهوم «الشريعة» بهذا المعنى يكبح تطور الدولة في المنطقة، فهو من ناحية أخرى يربك الأخلاق. فإذا كانت الأحكام إلهية، فإن المدونة الفقهية تلقائيًا تعلو على المدونة الأخلاقية، وتصبح حاكمة عليها، حيث لا شيء يمكن أن يعلو على المصدر الإلهي، بمعنى أن الفعل يصبح أخلاقيًا فقط لأن الله/الفقه أمر به، وليس العكس، وكذلك يمكن للفعل غير الأخلاقي من الناحية الإنسانية أن يصبح أخلاقيًا إذا استطاع أن يجد تبريره من داخل المدونة الفقهية.

بذلك تصبح مسألة الأخلاق في حد ذاتها غير ذات أهمية، حيث تعتبر في هذه الحالة مصدرًا ثانويًا يهيمن عليه الفقه أساسًا ويشكله، وليس موضوعًا ينطلق من طبيعة الذات الإنسانية الفاعلة أساسًا، وينعكس على أدائها في الاجتماع.

هل «الشريعة» موجودة؟

يجدر هنا سؤال على ما يبدو فيه من بساطة: هل الشريعة – بهذا المعنى الذي تتصوره الخطابات الإسلامية المعاصرة – موجودة أصلًا؟ وللتحديد: هل يوجد في الفكر الديني الإسلامي هذه المدونة القانونية المتكاملة؟ ناهيك عن مصدريتها وثبوتها وإمكانية تطبيقها في كل زمان ومكان، لكن هل هي متكاملة أصلًا بهذا الشكل المتصور؟

الإجابة هي لا بطبيعة الحال، فالخطاب السياسي الإسلامي المعاصر حين يتحدث عن الشريعة يحيل عادة إلى الفقه باعتباره المضمون التفصيلي للشريعة، والذي يقدم هذه الصورة المتكاملة.

كما هو معلوم لكل طالب علم مبتدئ في العلوم الشرعية، أن قدرًا هائلًا من الاختلاف – والتناقض في كثير من الأحيان – يكمن بين المدارس المختلفة في الأصول، بشكل لا يمكن معه ادعاء تكاملها أو ارتباطها أو إنتاجها معًا، فالقياس الشافعي على سبيل المثال لا يمت بصلة لاستحسان أبي حنيفة، والإجماع الذي يعتبره الشافعي العصمة من الضلال، لا يجد له «ابن حزم» محلًا من الإعراب أصلًا.

هذا عن الأصول، فكيف إذا جئنا إلى اللاهوت وعلم الكلام؟ حيث القرآن واقعة تاريخية عند «المعتزلة»، بينما وجود أزلي وقديم عند «أهل الحديث» و«الأشاعرة» إلى غير ذلك.

كافة الأدبيات التي يحيل إليها الخطاب الديني عادة – على اختلاف أطيافه – باعتبارها متضمنة لما عليه «أهل السنة والجماعة»، إنما تحوي ما استقر عليه الرأي السائد والمنتصر في نهاية المطاف، نافيًا بذلك من الوجود منافسيه الأسبقين من وجهات النظر الأخرى، ولكنه يحملهم معه في حقيقة الأمر، من خلال تأكيده على ضرورة تبني وجهات نظر بعينها دون اعتبار لسياق “المناظرة” التاريخي الذي أنتجها.


القطع المعرفي ومحاولات التوفيق

تجدر الإشارة في النهاية إلى أن تجاوز الوعي المسلم المعاصر هذه الأزمة التاريخية، وعبور بوابة الحداثة السياسية، لا يكن أن يتم إلا عن طريق القطع المعرفي الحاسم مع مفهوم «الشريعة» باعتبارها سلطة تشريع إلهية، متجاوزة للتاريخ والاجتماع، وبالتالي فتح الأفق أمام انطلاق الوعي في معالجة مسألة الدولة، وتطويرها على الشكل الذي يتطلبه الاجتماع – كل بحسبه – على كافة التباينات والاختلافات الممكنة، وبالتالي تبدأ عملية تشكل إيجابية في الحدوث.

هذا القطع المعرفي بطبيعة الحال، لا يتطلب بالضرورة القطع المعرفي مع مسالة الإيمان، أو مع الميتافيزيقا، ولكن فقط مع مساحة خاصة جدًا من تدخل الميتافيزيقا في آلية عمل الاجتماع، وهي مساحة الدولة والتشريع القانوني.

من ناحية أخرى، لا يمكن أن نتصور إمكانية التوفيق بين الشريعة والحداثة، وهي اللافتة التي رفعها كثير من المصلحين خلال القرن الماضي، وما زال يتبناها كثير من الاتجاهات إلى اليوم، عن طريق عمليات انتقائية لأحكام تراثية بعينها – تبدو في الظاهر أقرب إلى روح العصر من غيرها، كالحديث المتكرر عن ابن حزم وأبي حنيفة مثلًا، وهما الموجودان على هامش المدونة الرسمية في الحقيقة، والمقبولان على مضض من طرف هذه المدونة الرسمية، ضمن حظيرة «أهل السنة والجماعة».

قد أثبتت التجربة عدم قدرة هذه الأطروحات الانتقائية على تجاوز الإشكاليات الجوهرية والتناقضات بين الشريعة، وبين قضايا من قبيل المواطنة والجندر والحريات.. إلى آخره من المفاهيم المرتبطة بمشروع الدولة الحديثة، إلا بقدر كبير من التكلف والافتعال وعدم الكفاية.

فالأزمة تقع في المسألة من حيث المبدأ؛ أي مبدأ وجود تشريع إلهي يستمد سلطته من المطلق مباشرة، وهو المبدأ الذي لم يعد يمكن قبوله ضمن معادلة الحداثة، حتى وإن قبله العصر الوسيط بشكل طبيعي، فالسلاح الذي تسمح لنفسك باستخدامه لا يمنع أن يكون في يد غيرك؛ أي أن السماح بالمبدأ في حد ذاته يجعل الباب مفتوحًا أمام انتقائيات أخرى، قد تكون داعشية أو قاعدية أو ما هو قادم في المستقبل القريب.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.