الفن هو اللغة الأم للجنس البشري. ومن بين كل الكوارث والفظائع التي تلطخ وجه الإنسانية كل يوم، لا يزال الفن قادرًا على أن يكون وسيطًا روحانيًّا قادرًا على التواصل بين البشر، معبرًا عن المواضيع التي ماتت فيها اللغة ولم يبقَ ما يقال. يغزو الفن تلك الحقول والمواضيع متحررًا من قيود وقواعد اللغة ليتحدث بوسائط تعبيرية سحرية.

الحال تلك حاضرة في بينالي الشارقة 15، والممتد من 7 فبراير/شباط وحتى 11 يونيو/حزيران، ويضم أكثر من 150 فنانًا ومجموعة جماعية، من حوالي 70 دولة، يقدمون تمثيلات رمزية وأسطورية أحيانًا وواقعية أحيانًا أُخر ليعبروا عن قضايا واقعية حاضرة وتاريخية، على رأسها إرث الاستعمار وجرائم الرجل الأبيض في أفريقيا تكريمًا لإرث الشاعر والكاتب والناقد الفني النيجيري الراحل أوكوى أنويزور [Okwui Enwezor]، والذي احتل المرتبة 24 في قائمة Art Review لأقوى 100 شخص في عالم الفن عام 2014. 

صحيح أن وجود هذا العدد الكبير من الفنانين والنقاد متعددي الثقافات واللغات في مكان واحد يُصعِّب من فكرة التواصل، إلا أن الأعمال الفنية المعروضة تتولى تلك المهمة. هذا غير أن بينالي الشارقة في سياقه العربي والزمني الحالي يعد حدثًا فنيًّا مميزًا، حيث يتم عرض 300 عمل فني باستخدام وسائط عدة، منها الأعمال التركيبية والأدائية والمنحوتات والفيديو والصور الفوتوغرافية، موزعة بين عدة مدن، وهي الذيد وكلباء وخورفكان والحمرية، والتي يحاول البينالي من خلالها مناهضة الاستعمار الذي يفرضه العالم الغربي على عالم الفن برسم معايير جمالية أوروبية.

التفكير تاريخيًّا في الحاضر

أكثر من 300 عمل من قبل أكثر من 150 فنانًا معروضة في 19 مكانًا، يحملون رسالة نقدية تكاد تكون واحدة بالرغم من اختلاف الوسائط والأشكال. على سبيل المثال لا الحصر، يستدعي الفنانان آدم خليل وبايلي سويتزر في فيلمهما Nosferasta: First Bite (2021) كريستوفر كولومبوس من مرقده. هذه المرة بوصفه مصاص دماء لا مستكشفًا أوروبيًّا أو عالم جغرافيا، حيث تبدأ القصة على شواطئ ما يسمى بالعالم الجديد.

مشهد من فيلم Nosferasta

كولومبوس الحاضر في الفيلم يمتص الدول الضعيفة والشعوب المسحوقة باعتبارها دماءً. أكذوبة العالم الجديد ليست وفقًا لذلك سوى مشاريع استعمارية استيطانية ونظام الدولة القومية الذي ظهر من بعد غزو كولومبوس للأمريكيتين ليس سوى مص للدماء. يذهب الفيلم لما هو أبعد عبر تصوير عبد أفريقي، وهو مساعد كولومبوس في مص دماء البلاد التي يصل لها، بأنه تم إغواؤه وعضه من قبل مصاص الدماء كولومبوس، مما يضمن ولاءً لا ينضب للمشروع الاستعماري الأوروبي الذي لا يزال مستمرًّا حتى يومنا هذا.

في عملٍ آخر بعنوان «مُجتث» (Uprooted)، وهو عمل تركيبي ضخم للفنانة الكولومبية دوريس سالسيدو، عبارة عن أشجار ميتة وفولاذ، تظهر فكرة الاقتلاع من الوطن ومن الجذور جلية، ومعنى ألا يكون المرء منتميًا إلى أسرة أو محيط اجتماعي فقط بسبب الإجراءات السياسية الكولونيالية التي تعيد تشكيل الخبرات العقلية والعاطفية اليومية للناس بشكل مأساوي. تختبر سالسيدو آثار تلك السياسات على الحياة الصامتة للمهمشين، من ضحايا العنف والمستضعفين في العالم الثالث بنغمة رثائية وشعرية. العمل معروض في مصنع كلباء للثلج في الشارقة حتى 11 يونيو.

عمل فني تركيبي بعنوان «مجتث»

الاستيلاء الاستعماري على الثقافة

عمل آخر يأتي على قائمة أبرز أعمال بينالي الشارقة الخامس عشر هو عمل إسحاق جوليان السينمائي في ساحة الخط في الشارقة، بعنوان: «مرة أخرى .. التماثيل لا تموت أبدًا» (2022)، مجموعة صور غير متزامنة مثبتة بين خمس شاشات عرض على خلفية متلألئة من المرايا غير الشفافة، يُسلط العمل الضوء على «كوكبة ما بعد الاستعمار» التي شكلت المفاهيم الفنية وقواعد الجمال وفقًا لمعايير الرجل الأبيض في عالم الفن المعاصر وفي سياقه المعولم. هذا هو المبحث الرئيسي للعمل: حالة التحيز الشديدة من جانب الفن الأوروبي على حساب الفن الأفريقي.

«مرة أخرى.. التماثيل لا تموت أبدا» عمل فني لإسحاق جوليان

«ليس هناك ما هو أكثر إثارة من الشعور بالماضي الثقافي. عندما كبرت، لم أربط صانعي العرق بصناع الفن … نحن الشخصيات الغامضة التي تبحث عن باب لثقافة تجاوزية تسمح لنا بالدخول»، هذا لسان حال الراوي في عمل جوليان معلنًا تضامنه مع المُلزمين قسرًا بمعايير الرجل الأبيض الجمالية في أوطانهم وفي اغترابهم. أما تقاسم وتبادل الأعمال الفنية فيقتضي في البداية وجود مجتمعات متساوية ومتسامحة لا عالم حيث الإنسان ذئب الإنسان، على حد تعبير توماس هوبز.

فلسطين والوطن القسري لليهود

فلسطين حاضرة في البينالي بوصفها واحدة من أبرز البلدان التي قهرها الاستعمار الأوروبي الذي فرض قسرًا على العرب والمسلمين أن تتحول الأرض لوطن قومي لليهود الصهاينة. يقدم باسل عباس وروان أبو رحمة في عملهما التركيبي «إلى أن نصير نارًا ونُشعلنا» (2023) Until We Became Fire and Fire Us، من إنتاج مؤسسة الشارقة للفنون، بتكليف من Polygreen Culture and Art Initiative (PCAI) بيرايوس اليونان، عرض غنائي متعدد مجزأ على شاشات عن الحالة الفلسطينية المتمثلة في الاقتلاع من الجذور.

عمل فني تركيبي «حتى نصير نارا وتشعلنا» للفنانين الفلسطينيين باسل عباس وروان أبو رحمة

يستكشف  العمل كما بقية أعمال البينالي المظاهر المرئية والسمعية للاقتلاع والتهجير القسري والرغبة في إعادة الاتصال بالأوطان عبر ومضات من الشعر التراجيدي والألحان الحزينة التي نشأت تحت مطرقة الجغرافيات المتغيرة والاجتثاث النفسي والمادي من الأرض والبيت على مر التاريخ من حيث هو مسرح للكثير من الخرائط الممزقة.

العراق نحو مصالحة جمالية مع الألم

لا تدع الألوان الجميلة تخدعك. هذا هو عنوان العمل الأدائي الذي قدمه الفنان العراقي علي عَيَّال، مواليد 1994، في بينالي الشارقة 15، حيث يستكشف عمله العلاقات المعقدة بين التاريخ الشخصي والقومي والذكريات العابرة والأهوال السياسة التي عاشتها العراق، خاصة بعد الغزو الأمريكي، من خلال وسائط عدة مثل الفنون التركيبية والتصوير. 

يخاطب عيَّال في عمله «لا تدع الألوان الجميلة تخدعك ، فمن سيرسم عفريت داخل غرف الكبار» (Don’t let the beautiful colors fool you, who would draw Goofy inside the rooms of grownups) ضمير المجرمين من خلال التسلل إلى مساحاتهم الخاصة، مثل البيوت وغرف المعيشة، ليرسم جدران تلك الغرف. رسم في سياق ذلك غرفة قاتل والده بآلاف من وجوه الضحايا والمفقودين. وبالرغم من الألم الشنيع الذي يفرضه مثل هذا الفعل، إلا أنه تم بطريقة فنية جمالية أنار فيها عيَّال المسافة بين الذاكرة الشخصية والتاريخ الجمعي للمظلومين وفي نفس الوقت يظهر مآلات حرب العراق وتداعياتها المأساوية طويلة الأمد.

أزمة كهرباء لبنان بين الفني والسياسي

تشحذ الفنانة اللبنانية تانيا الخوري في عملها «البحث عن الكهرباء» (Searching for Power)، قواها للبحث عن إجابة لسؤال بسيط: أين ذهبت كهرباء لبنان؟ الخوري، غير أنها مديرة مركز حقوق الإنسان والفنون في كلية بارد في نيويورك، تُركز في أعمالها الأدائية والتركيبية على البلايا السياسية التي تقض مضجع المواطنين. وهي تفعل نفس الأمر فيما يتعلق بالساحة السياسية اللبنانية التي تعيد تركيبها وتشكيلها بكل ما فيها من مصائب وخيبات لتتحول لعمل فني كما هو سياسي.

قدمت خوري في الأسبوع الافتتاحي للبينالي مع زوجها المؤرخ الفني زياد أبو الريش توثيقًا لتاريخ انقطاع التيار الكهربائي في لبنان. يتتبع الزوجان في رحلة مرهقة وشاقة تاريخ انقطاع الكهرباء الطويل، والذي يضرب بجذوره في العام 1960، عندما انقطعت الكهرباء في بيروت لأول مرة، ليتكشف لهما خلال رحلة البحث تلك أن أزمة الكهرباء هي واحدة من آثار عدة ناجمة عن سياسات فرضتها القوى الاستعمارية وموازين قوى ابتدعها أمراء حرب وسماسرة عدة. كمعظم أعمال البينالي يستعرض أزمة كهرباء لبنان الآثار المدمرة والعميقة ليد الكولونيالية الغاشمة في الشرق الأوسط كما في أفريقيا. 

المنفى مهمة شاقة

يأتي عمل الفنانة نيل يالتر (مواليد 1938، القاهرة)، والذي يحمل عنوان: «المنفى مهمة شاقة» (Exile is a hard job)، في نفس السياق ليعري السياسات الدولية من ثوبها الوعظي الكاذب فيكشف عن الآليات القمعية التي تتتهجها، ضاربة أمثلة باستخدام المهمشين مثل المقهورات في سجون النساء والظروف المعيشية للعاملات المهاجرات اللواتي يعشن في ضواحي المدن الكوزموبوليتانية الفاخرة مثل باريس.

«المنفى مهمة شاقة»

العزلة النفسية والجسدية والتهميش على أساس العرق، تلك هي التيمات التي تعتمدها يالتر لتضع تجربتها الفنية في إطارها السياسي والكوني معًا فتكسر سياج الوحشة الذي فُرض على هؤلاء النسوة. وهي بذلك تضع قضية سياسية أنثروبولوجية على خريطة العروض الفنية المؤلمة نفسيًّا لكن ممتعة بصريًّا لما فيها من ممارسة جمالية. العمل معروض حاليًّا في متحف الشارقة للفنون، منطقة الشويهين، بالقرب من بريد الكورنيش، قلب الشارقة.

التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة، وما نراه الآن هو المهزلة.
كارل ماركس

أخيرًا وليس آخرًا، تستدعي القيِّمة على بينالي الشارقة، الشيخة حور القاسمي، مفهوم «التاريخ» في النسخة الخامسة عشر، ليس فقط تكريمًا لذكرى الراحل إينوزور، الرجل الذي أحدثت أفكاره وتصوراته ثورة في عالم الفن المعاصر، بل في سياق أوسع لفهم عالم ما بعد الاستعمار الممتد من آسيا لأطرف أفريقيا مرورًا بالشرق الأوسط. لربما فتح التاريخ بابًا لفهم الحاضر بشكل أفضل وأعمق فلا يكون مهزلة على حد تعبير ماركس.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.