الجزء الأول


الغيبة وإمامة الغائب

يقسم الإمامية غيبة إمامهم إلى حقبتين رئيستين: أولهما الغيبة الصغرى، وتمتد منذ اختفاء إمامهم (أو وفاة أبيه) حتى عام 329 الهجري، أي زهاء سبعين عاماً. وفى هذه السنوات –بحسب مؤرخيهم- كان الإمام يتصل من سردابه بالأمامية عن طريق أربعة نواب بمثابة السفراء على التوالي (عثمان بن سعيد العمري- محمد بن عثمان- أبو القاسم حسين بن روح- أبو الحسن على بن محمد السمري). وبموت السفير الرابع، تم إعلان الغيبة الكبرى الممتدة حتى الآن. وتُعرَف بفترة الانتظار. وفيها يتم تحريم إقامة الحدود والقضاء والجهاد لغياب الإمام المنوط به إدارة هذه المهام.

أدت فترة الانتظار لغيبة الإمامية عن مسرح الحياة السياسية –حتى في الدولة البويهية التي لم تقدم نفسها كممثلة عن الشيعة- ولكن مع طول الانتظار وتجدد الحوادث، بدأ موقف الإمامية يتغير من تحريم الاجتهاد والقياس إلى قبوله في نطاق محدود لسد الخلل التشريعي على مستوى الأفراد.


النيابة العامة

أدى قيام الدولة الصفوية في القرن العاشر الهجري على يد الشاه إسماعيل الصفوي إلى تجدد الأزمة مرة أخرى، لاسيما وأنها قد قدَّمت نفسها كدولة ممثلة للشيعة الإثنى عشرية. عوامل الاجتماع السياسي –كالعادة- تتقدم وتفرض نفسها على الواقع الشيعي مما استوجب حدوث انتقال نوعي من سياسة الانتظار إلى سياسة الحكم. ادَّعى الشاه إسماعيل الصفوي مقابلته للإمام الغائب، وأخذ إجازة بالخروج على الدولة. كما ادَّعى رؤية الإمام علي بن أبي طالب مناماً يحثه على إعلان الدولة الشيعية.

لابد أن أفصح عن قناعاتي الخاصة بعدم قبول مثل هذه المرويات الإعجازية التبريرية المنزع التي تهدف لتسويغ إقامة الدولة وحل أزمة الانتظار. بل ربما تكونت هذه المرويات بشكل لاحق على الحدث لإضفاء الشرعية عليه. وعلى كل حال، فإنني أعتبر هذه المرويات من حالات التنصيص السياسي الديني الذي يختلق نصوصاً لتجسير الفجوة بين القواعد الملزمة والواقع الاضطراري.

وبعد وفاة الشاه إسماعيل تولى ابنه شاه طمهاسب بن إسماعيل الذي طور في عهده الشيخ الكركي نظرية «النيابة العامة للفقهاء عن الإمام المهدي» والتي تعد نقلة نوعية أخرى لنظرية «الإمامة» أمدت الشاه طمهاسب بالشرعية اللازمة لدولته وأمدت الشيخ الكركي نفسه بنفوذ هائل في الحكم وبحماية خاصة ومكانة لدى طهماسب. وهذه لحظة هامة لتوضيح الاتحاد (الديني/ السياسي)؛ حيث يخلع الأول شرعية على حكم الأخير الذي بدوره يكسب الأول سلطة أمام خصومه في شراكة تكررت مراراً في التاريخ الإنساني.


التطور

لم يمر اجتهاد الكركي بسلام كما هو متوقع بل أحدث شقاقًا حادًا بين فئة الإخباريين وفئة الأصوليين والذي هو في ذاته صراعٌ بين القديم والجديد أو المحافظين والمجددين. وهو صراع متكرر في تاريخ الأديان يحدث عندما يتغير الواقع مما يستلزم الخروج من القواعد المذهبية أو إلزامات النص الديني؛ فتنشأ فرقة الحرس القديم تدافع عن السائد والمألوف والنص بفهومه المعتادة، وتنشأ بإزائها فئة المجددين الذين يقدمون حضور الواقع على حضور النص (الديني/ المذهبي)؛ فيقومون بإعادة قراءته وتفسيره بشكل تأويلي يتناسب مع الظرف التاريخي. وغالبا لا ترضي هذه القراءة فريق المحافظين وينشأ صراع متكرر وغالباً يكون حضور الواقع وإكراهاته بمثابة الفيصل في ذلك الصراع.

يطور الشيخ النراقي (ت: 1245هـ) أطروحة «النيابة» التي أنشأها الكركي إلى أطروحة «ولاية الفقيه» في طورها الأول. يستخدم الشيخ النراقي حزمة من الأدلة العقلية والنقلية لتسويغ نظريته الجديدة التي استدعاها الواقع إلى الحضور ولكن – كالعادة- لابد من غطاء ديني لإضفاء صفة الشرعية على هذا الاجتهاد.

تتنوع الأدلة ما بين العقل والنقل حيث تحتاج الدولة – عقلاً- إلى نظام ورأس له (أي للنظام) حتى تتمكن من إقامة الشريعة التي ألزم بها النص الديني (الحكم بما أنزل الله) ثم تعضيد الحكم السابق بمرويات تخصص عموم الدليل النصي مثل مقبولتي عمر بن حنظلة وأبي خديجة اللتين أوردهما الكليني في كتابه الكافي والاحتجاج بأدلة أخرى مثل مكتوبات للإمام الغائب وعليها توقيعه الشخصي.

(المقبولة: الحديث المقبول عند الشيعة هو من أقسام الحديث الموثق. والمقبول هو ما تلقاه العلماء بالقبول ويلزم العمل به).

وبغض النظر عن قوة هذه الأدلة ومدى عموميتها، استطاع النراقي، في نقلة نوعية أخرى، التخلي عن فكرة الإمامة الإلهية وحصرها في دائرة الفقهاء.


دولة الفقهاء

واليوم -في عهد الغيبة- لا يوجد نص على شخص معين يدير شئون الدولة فما هو الرأي؟ هل نترك أحكام الإسلام معطلة أم نرغب بأنفسنا عن الإسلام؟ أم نقول إن الإسلام جاء ليحكم الناس قرنين من الزمان فحسب ليهملهم بعد ذلك؟ أو نقول أن الإسلام قد أهمل أمور تنظيم الدولة؟ ونحن نعلم أن عدم وجود الحكومة يعني ضياع ثغور المسلمين وانتهاكها، ويعنى كذلك تخاذلنا عن حقنا وعن أرضنا. هل يُسمح بذلك في ديننا؟ أليست الحكومة ضرورة من ضرورات الحياة؟ وبالرغم من عدم وجود نص على شخص ينوب عن الإمام (ع) حال غيبته، إلا أن خصائص الحاكم الشرعي لا يزال يُعتبر توفرها في أي شخص مؤهلاً إياه ليحكم في الناس.

كانت هذه كلمات الإمام الخميني في كتابه «الحكومة الإسلامية» والتي تشي بتوجه واضح وصريح على وجوب «ولاية الفقيه» ونبذ نظرية الانتظار بشكل كلي.

ولعل الباحث يتعجب من مدى العقلانية -الأقرب إلى الاعتزال حيث الوجوب العقلي- التي ينظر بها الإمام الخمينى لولاية الفقيه، ويتساءل عن مدى وجاهة هذا الرأي في ظل ثقافة إمامية لم يتول الحكم فيها إلا إمامها الأول بجانب بضعة أشهر للإمام الثاني؟!

انفجرت في القرن العشرين عدة أصوليات إسلامية سواءً في الجانب السني (جماعة الإخوان – حزب التحرير- الجماعة الإسلامية.. الخ) أو شيعية، والتي كانت هي الأوفر حظًا حيث نجحت في تنحية نظام الشاه والاستيلاء على مقاليد الحكم في إيران عام 1979م.

قبل الثورة الإيرانية بسنوات استغل الخميني منفاه ليحث على الخروج على نظام شاه إيران؛ مما اضطره إلى تكوين نظرية دينية تتيح له تكوين دولة إمامية. فطوَّر نظرية النراقي «ولاية الفقيه» إلى وجوب ولاية الفقيه وتوسيع حدود ولايته إلى حدود ولاية الإمام الغائب نفسه.

وبعد نجاح الثورة وتقلد الحكم، أوكل الخميني إلى مجلس منتخب مهمة وضع دستور جديد يشابه دستورهم القديم (1906م)، ولكنه يستبدل وجود الملك برئيس جهورية منتخب ويمنح المرجعية العليا للفقيه (بديل الإمام) ويرهن شرعية رئيس الجمهورية بموافقة الفقيه. وبهذا، نجح الخميني في تأسيس دولة شيعية تقوم على نظرية بديلة للانتظار. ولكن حتى هذا الحين تمثل نظامًا ثيوقراطيًا يذكرنا بأجواء الكنيسة إبان العصور الوسطى؛ حيث يقتسم الحكم ملك وكنيسة في جدلية تدور بين التوتر والاتحاد.

ينص الدستور الإيراني في مادته الخامسة على التالي:

في زمن غيبة الإمام المهدي (عجل الله فرجه) تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل المتقي البصير بأمور العصر الشجاع القادر على الإدارة والتدبير وذلك وفقاً للمادة 107.

وبعد وفاة الخميني اتجهت الدولة الإيرانية إلى تعديلات دستورية بهدف التخفيف من قبضة السلطة المطلقة لولاية الفقيه ولاتزال التجربة في تطور إلى الآن.


ولاية الأمة على نفسها

لا يزال الفكر الشيعي لا يستطيع ملامسة النظم السياسية الحديثة حتى الآن- بالرغم من تطوره- لأن مخلفات فكرة الإمامة لا تزال عاملة في الثقافة الشيعية.

ظهر منذ أواخر القرن العشرين خطًا إماميًا آخر يميل لقضية (ولاية الأمة على نفسها) لتخفيف القبضة الثيوقراطية التي أرساها الخميني بولاية الفقيه المطلقة. يميل بعضهم لاستخدام لفظ (الشورى) للدلالة على النظرية الجديدة، ويستخدم بعضهم لفظ (الديمقراطية) بشيء من التحفظ قاصدًا عمليتي الانتخاب والتمثيل النيابي، لا التشريع الذي هو حقٌ للفقهاء. وبالجملة يطالبون بدستور تنظيمي وإشراف نيابي على الحكومة التنفيذية والمساواة أمام القانون وقبول العملية الانتخابية والرضاء بحكم الأكثرية، مع حصر دور الفقهاء في الإرشاد والتوجيه؛ مما يعنى نظامًا أكثر فصلًا بين الدوائر الدينية ودوائر اتخاذ القرار. وهذا يعتبر توجهًا نحو أسس الديمقراطية الحديثة من انتخاب ومجلس نيابي والفصل بين السلطات. وقد نشهد -مستقبلًا- تطورًا أكثر في عملية التشريع ذاتها.

هذا التوجه أفضل من يمثله-برأيى– الشيخ محمد شمس الدين؛ حيث يرى ولاية الفقيه ستؤدى حتمًا الى استبداد دينى «في ظل غياب سند فقهي معتبر للمطابقة ما بين نظرية ولاية الفقيه والإمامة المعصومة، فإنّ مقتضيات سيطرة الدولة ومؤسستها للفقهاء في أجهزتها، هي التي تدفع إلى الإيهام بهذه المطابقة، وهي في هذه الحالة تكون أمام مشروع دولة ملوّن بالتشيّع يعيد باسم التشيّع إنتاج دولة ثيوقراطية تستمد شرعيّتها من الله لا من الأمة، وتمأسس الفقهاء بالتالي كجهاز كهنوتي لمقتضياتها ومتطلّباتها بوسع مساحة ولاية الفقيه حتى يساوي في المهمات بينها وبين النبوة والإمامة».

ويؤدى به البحث الى مأسسة الشورى وولاية الأمة على نفسها حيث يقول:

وقد بحثنا هذا الموضوع من جميع جوانبه الفقهية والفكرية فى الكتاب الذى خصصناه للبحث فى ولاية الفقيه العامة وولاية الأمة على نفسها وقد انتهينا هناك الى أن الشورى- فى عصر غيبة الإمام المعصوم عند الشيعة الإمامية ومنذ وفاة النبى (صلى الله عليه وسلم) عند غيرهم من المسلمين- واجبة على الأمة وعلى الحاكم وملزمة لهما. فيجب على الأمة أن تدير أمورها العامة عن طريق الشورى وهو ملزم شرعاً بإتباع ما تنتهى اليه عملية الشورى.


نتائج البحث

بعد أن قمنا بكوين قراءة تاريخية للمذهب الإمامي وتطوره عبر أكثر من ألف عام، وباختبار نظرية الإمامة ذاتها، فإننا نرى أنها تكوَّنت وتطوَّرت بفعل عوامل الاجتماع السياسي من قمع أو معارضة أو أقدار عاكست قواعدها؛ مما استلزم تنظيراً فقهياً، وتأويلاً نصوصياً، وتنصيصاً روائياً لمعالجة الوقائع بعيدا عن إلزامات النص الديني المقدس. وكذا نرى إكراهات الواقع وهى تحول النظرية الإمامية باتجاه النظريات السياسية الحداثية – وإن بشكل بطئ متدرج أو بتغيير ألفاظ قد يتوجس منها العقل الديني- مما يؤكد نظرتنا الابتدائية أن الواقع حاكم على النظرية بقوة وفاعلية وليست النظريات الفقهية أو حتى النصوصية هي التي تتحكم بسير الواقع.

المراجع
  1. نظام الحكم والإدارة في الإسلام. الشيخ محمد مهدي شمس الدين.
  2. تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه. أحمد الكاتب.
  3. الإمام المهدي حقيقة تاريخية أم فرضية فلسفية؟. أحمد الكاتب.
  4. تطور الفكر السياسي لدى الشيعة الإثنى عشرية في عصر الغيبة. فاخر جاسم (رسالة دكتوراة).
  5. الحكومة الإسلامية. روح الله الخميني.
  6. ولاية الفقيه عند الشيعة الإثنى عشرية وموقف الإسلام منها، د/ أحمد سيد أحمد على (رسالة دكتوراة).
  7. نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ج2، نشأة التشيع وتطوره، د/ على سامي النشار.
  8. السلطة في الإسلام ج2، نقد النظرية السياسية، المستشار عبد الجواد ياسين.
  9. في الإجتماع السياسى الإسلامى، الشيخ محمد مهدي شمس الدين.